المخرج المسرحي عبد الواحد عوزري يحاور الكاتب والدراماتورج محمد بهجاجي:

أسئلة النقد والإبداع ورهانات التجديد.. في المسرح؟؟

هناك أكثر من دافع يحفزني على محاورة محمد بهجاجي، الصديق والكاتب والناقد: انتماؤنا لنفس الجيل والجغرافيا والأفق السياسي والثقافي، وعملنا المشترك في إطار مسرح اليوم الذي أثمر، على امتداد خمس سنوات، مسرحيات “البتول”، “العيطة عليك”، “امرأة غاضبة” و”الجنرال”. ثم هناك الرغبة في أن يشكل هذا الحوار تجاوبا مع فكرة أن ننجز كتابا حواريا مشتركا يجمع هذا الحوار، ونظيره الذي سبق أن أجراه معي بهجاجي سنة 2017، حيث حاورني حول سيرتي المسرحية والمهنية وكتاباتي، وعملي في إطار مسرح اليوم، ومختلف القضايا التي عرفتها تلك السيرة. ونشر الحوار في السنة ذاتها ضمن كتابي “قريبا من الخشبات، بعيدا عنها” عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء.
فيما يلي نص الحوار الذي بدأنا مرحلته الأولى في دجنبر 2019، منطلقين من التجربة الشخصية، إلى مساءلة أوضاعنا المسرحية على ضوء ما تحقق من منجزات ومكاسب للمسرح المغربي، وما يعتبر أعطابا تتضافر فيها العوامل الذاتية والموضوعية، إضافة إلى قضايا عديدة من بينها مناحي التقليد والتجديد في الكتابة والإخراج، نقد سياسة الدعم، غياب الفرقة الوطنية، النقد والإبداع، المسرح الجامعي، تعثر مشروع الفرق الجهوية، المسرح والجمهور ثم إشكاليات الهواية والاحتراف…
لا بد أن أشير هنا إلى أننا بعد أن أنهينا فترة الإعداد للنشر في الأسبوع الأول من شهر مارس 2020، داهمتنا جائحة كورونا فارتبكت مواعيدنا قليلا، وانتظرنا إلى أن يتغير الظرف لنشر الحوار- الكتاب. لكن للقدر كلمة أخرى فلقد تواصل زمن الحجر، وكانت الفاجعة برحيل العزيزة ثريا التي كانت صداقتنا معا تتظلل بروحها الطيبة دائما، وبحضورها الإنساني، وبعملها المثابر، وفكرها الثاقب.
في انتظار ذلك أضع بين يدي القارىء حصيلة حوار مع محمد بهجاجي الكاتب الصديق.

عبد الواحد عوزري

النص المسرحي، مسارات التجديد

< تزاوج في مسارك المسرحي بين تأليف النصوص ونقد وقراءة أعمال زملائك الكتاب والمخرجين. كيف تم هذا التوازي في تجربتك، وكيف تعيشه؟ وهل ترى بأن نظرتك للمسرح، سواء كإبداع أدبي أو كممارسة فنية، قد تتغير بتغير موقعك في الفعل المسرحي؟
>حين التحقت بجمعية الرواد، في بداية السبعينيات، وجدتني أتمرن على كتابة الشعر، بموازاة الوقوف على الخشبة، إلى أن شرعت بعد ذلك في تجريب الكتابة للمسرح. في هذا الإطار كتبت للرواد مسرحية “التوازن” سنة 1980، ونشرت في نفس الوقت، بجريدة “المحرر”، أولى قراءاتي النقدية، وكانت حول مسرحية “حلاق درب الفقراء” للمسرح الباسم. ثم كتبت (وساهمت في إخراج) مسرحية “الورقة الأخيرة في حياة المسمى الطاهر” سنة 1981.
منذ ذلك التاريخ توازى لدي الاهتمام بقراءة المسرح ونقده، وبتأليف النصوص. ومن ثم صدر لي كتاب “ظلال النص” (1991) الذي شمل نخبة مما كتبته على امتداد عقد الثمانينيات.
استمر هذا التوازي إلى أن اقترح علي مسرح اليوم اقتباس نص “البتول” (1998)، ومن ثم تواصل عملنا المشترك إلى سنة 2001 عبر مسرحيات “العيطة عليك” و”امرأة غاضبة” ثم “الجنرال”. بعد ذلك عدت إلى الكتابة بشكل يوازي، مرة أخرى، بين تأليف النصوص وقراءة المسرح. في هذا الإطار صدر لي كتاب “بلاغة الالتباس” (قراءات في المسرح المغربي) و”كاتارسيس” (نص مسرحي)، إضافة إلى أعمال أخرى مخطوطة تعرف بعضها.
إن ما يتغير خلال الانتقال بين مستوى الكتابة ومستوى القراءة والنقد ليس نظرتي إلى المسرح، بل نظرتي إلى نفسي، إذ سرعان ما أجدني، حين كانت تعرض أعمالي، متورطا في العملية الإبداعية بما يعنيه ذلك من وضع خاص للمؤلف، ومن إكراهات واشتراطات العمل الإبداعي بشكل عام. لحظتها لا أعود ذلك الناقد أو القارئ أو الإعلامي المتابع للمنجز المسرحي الذي يشاهد العروض ليحلل بناءها، ساعيا لإنتاج المعنى حولها من جديد. ولكنني أصير الكاتب الذي كان يسرع إلى قراءة الجرائد في اليوم الموالي ليرى كيف يقرأه الآخرون. كان الناقد أو القارئ يكاد يتوارى بداخلي إلى الخلف مقرا بنسبية الإبداع، وبحدوده الذاتية والموضوعية. فيما بعد انتبهت إلى حساسية التوازي بين مهمتين مختلفتين. لكنني في الأخير غضضت الطرف عن الأمر كانشغال نظري. أصبحت أفكر ببساطة كما يلي: أن أكتب هنا أو هناك بدون ضغط. المهم أن أستجيب طواعية فقط إلى نداءاتي الداخلية، سواء تعلق الأمر بمشروع نص، أو بفكرة عن مسرحية ما.

< كيف تتصور، كمبدع، العمل في بلد لا يتوفر على ريبرتوار مسرحي مكتوب كاف، ولا على تقاليد راسخة في الكتابة المسرحية؟ بعبارة أخرى: هل وصلت إلى هذا الوعي الشقي الذي يفيد أننا في المسرح المغربي ينبغي في كل مرة أن نبدأ وكأننا نشيد من جديد شيئا نكتشف لاحقا أن أسسه لم تكتمل بعد؟
> بصراحة لم يساورني قط مثل هذا الشعور. ولم يداهمني أدنى وعي شقي. لقد وجدتني، على العكس من ذلك تماما، أحس كما لو كنت حلقة ضمن مسار ممتد من الاجتهادات التي تتطور في حضن الإبداع المسرحي بتكامل وتنوع.

< أسالك في مستوى آخر: ما الذي يمنح للنص المسرحي حياة أطول، كونه نصا منشورا، وبالتالي فهو في متناول القراء مهما كانت الظروف، أو تقديمه حيا على الخشبة؟
> حياة النص المسرحي هي غير حياة الأجناس الإبداعية الأخرى من شعر وقصة ورواية… الأولى مشروطة بحياة العرض التي هي، كما هو معروف، من طبيعة عابرة تتلاشى حين ينتهي زمن العرض. ومن ثم فإذا كان صحيحا أن كل نص مسرحي هو مشروع عرض لأن المفروض أنه منذور لذلك، فالصحيح كذلك أن ما يضمن ديمومة المسرح بشكل عام هو النصوص، لا العروض لأن النص يصبح هو الأثر المادي الراسخ أمام سطوة الزمن. ولذلك فما يتبقى من مسرح سوفوكل وشكسبير وموليير وونوس والصديقي والعلج… هي النصوص.
إنه قدر المسرح وخاصيته الجوهرية. ولذلك فقيمة النص تتأتى من قدرته على الصمود والامتداد داخل الزمن. ربما صارت الوسائل التكنولوجية الحديثة اليوم تمنح العروض إمكانيات حياة أخرى عير تقنيات التسجيل. وتسمح لها بالتالي بالرسوخ في الزمن ما دام التسجيل ييسر لنا مشاهدة العروض على الشاشات والحواسيب والهواتف والتلفزات… علما بأن تلك الشاشات قد تعتبر وسائل نقل باردة على حد تعبير أحد منظري الوسائط الجديدة لأن المسرح هو اللقاء الحي بالجمهور. تلك قوته وذلك ضعفه: كعب أشيل مثلا.

< هذا صحيح إلى حد ما، ولكن لا يمكن أن ننسى أن ما وصلنا من سوفوكل وشكسبير وموليير… هو في الحقيقة ما خلخل بنية العرض في زمنه. أما النصوص القديمة التي لم تعرف حياة موفقة فوق الخشبة فهي لم تصلنا تقريبا، أو ظلت في تعداد النسيان. لنأخذ مثلا موليير فهو لم يكتب فقط النصوص الأربعة أو الستة التي نتحدث عنها، والتي تقدم باستمرار على خشبات العالم. بل كتب الكثير من النصوص المسرحية، ولكن لم يكن لها وقع أو تأثير على الممارسة، أو على الفكر المسرحي في عصره لذلك طالها النسيان.
> فعلا حين نقول إن ما يتبقى هو النصوص فالمقصود بالضبط تلك النصوص – العلامات التي تؤسس لمعنى مختلف في الكتابة. وهو ما يضمن لها الامتداد.

< أطرح السؤال بصيغة أخرى: هل من الضروري ألا ننظر للنص المسرحي، إلا كمشروع عرض مسرحي، وبالتالي ننزع عنه تواجده كنص أدبي مستقل عن كل صيرورة فنية؟
> النظر إلى النص المسرحي كمشروع عرض لا ينزع عنه (أو لنقل لا يتعارض) مع صفته ككيان لغوي أدبي فني قائم الذات. النص المسرحي “رجل الذكرى” لعبد الله العروي مثلا لا يمكن أن يقرأ، في وضعه الحالي، سوى كأثر فكري وإبداعي هام بالنظر إلى المتعة التي يوفرها من حيث البناء واللغة، وإلى أفكاره التي ترتبط في جزء كبير منها بإرهاصات مشروعه الفكري كما تم التأسيس له منذ نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي. لكن بالإمكان أن ينتبه إليه مخرج ما فيخضعه لرهانات العرض فتصبح له حياة أخرى. وكذلك الحال بالنسبة إلى كثير من النصوص التي ألفها كتاب مغاربة وعرب في فترات متباينة دون أن تجد طريقها إلى الخشبات المغربية.
* لكن هل من الضروري للكاتب المسرحي كي ينجح في مسعاه (أي ولوج الخشبة) أن يكون مرتبطا بشكل من الأشكال بفرقة مسرحية، أو بمخرج مسرحي؟
** ارتباط المؤلف المسرحي بفرقة، أو بمخرج ما يمنحه بكل تأكيد مفاتيح لمعالجة درامية أكثر ملاءمة تجنبه آفة أن يكتب نصوصا معلقة في الذهن، أو في الكتب. هذا الارتباط قد يتيح للمؤلف، في مستوى ثان، ألا يبقى مجرد صانع كلمات، ولكنه يصبح أحد صناع العرض، خاصة إذا كانت تربطه علاقات تفاهم مع تلك الفرقة، أو ذلك المخرج. وفي حالتنا ضمن مسرح اليوم فقد كان لنا معا ذلك الحظ. وأعترف أنه لولا ارتباطنا بالفرقة أفقا للتفكير لما صدرت أعمالنا بالشكل الذي صدرت به.

< إذا صح القول بأن كل كتابة مسرحية تعبر عن عصرها؟ في هذه الحالة لماذا عندنا في المغرب على الخصوص نوع من الإصرار على مواصلة الاقتباس من التراث المسرحي العالمي؟
> بديهي أن كل كتابة تعبر عن عصرها بكل تأكيد. لكن المقصود بالعصر هو الامتداد في الزمن، وقدرة تلك الكتابة على الاختراق بالتركيز على الجوهري المرتبط بالثابت في النفس البشرية، وبحقيقة الصراع مع الذات والعالم. لهذا السبب تظل بعض نصوص القرن الخامس قبل الميلاد، أو القرن السابع عشر، أو غيرها معاصرة رغم تقارب أو تباعد أزمنة كتابتها. أما بخصوص موضوع الاقتباس فلا يبدو لي أنه يشكل حالة مغربية صرفة. كل مسارح العالم تحرص على ربط الجسور مع نصوص الآخر عبر عملية مثاقفة قد تتخذ صيغة الترجمة، أو صيغة الاقتباس، أو صيغة التأليف الخالص، دون أن يعني ذلك امتياز صيغة على أخرى.
يبقى السؤال الأساسي هو: بأي وعي نمارس عمليات الحوار الثقافي مع الآخر، وضمنها الاقتباس، ولأية مقصدية؟
إن الاقتباس قد يكون مثمرا وضروريا إذا كان المقتبس يعي بالفعل أنه بصدد حوار حقيقي بغرض إثراء الذخيرة المسرحية الوطنية، وجعل المتخيل داخل النصوص الأصلية متجذرا في ثقافتنا المحلية بما يعنيه ذلك من تأصيل للمعجم وللشخصيات وللأفكار المقترحة… أما إذا كان اللجوء إلى تلك العملية مجرد استنساخ لكلام سابق، أو مجرد تدبير أو تغطية على عجز ذاتي فهذا ما لا يُقبل به سوى في حالة واحدة: حين تكون أمة ما في وضع نشوء أول. لحظتها يكون الاقتباس تمرينا ذاتيا على الكتابة، ومدخلا أول للاطلاع على تنوع الريبرتوار العالمي كما عشنا ذلك مع فرقة التمثيل المغربي، أو في أيام شباب الطيب الصديقي، سواء من خلال اقتباساته في إطار المسرح العمالي (1957 – 1959)، أو من خلال أعماله اﻷولى ضمن فرقة المسرح البلدي. والشاهد أن النصوص المقتبسة لا تنتمي إلى تيار معين، أو مرجعية فكرية منسجمة حيث يلتقي على سبيل المثال أريستوفان وموليير وغولدوني وماريفو إلى جوار غوغول وبيكيت ويونيسكو.

< لكن، في كل دول العالم، حتى المتطورة منها مسرحيا، يلجأ المخرجون إلى ترجمة الأعمال العالمية، وحتى إذا كان هناك نوع من الاقتباس فهو طفيف لا يعمل إلا على ملاءمة بعض الجزئيات التي قد لا تفهم في ثقافات أخرى معينة، ولكن عند تلك الشعوب تكون التجربة نوعا من الاستثناء يهم أكبر الإبداعات العالمية لشكسبير وموليير أو تشيكوف. أنا أتحدث عن وضعنا حيث الظاهرة تشكل القاعدة، وتهم في بعض التجارب نصوصا لا قيمة عالمية لها، أو نصوصا تنتمي بصراحة إلى أكثر انحطاطا مما ينتج البولفار الفرنسي؟
> أتفق معك على أن التعاطي بهذا الشكل مع الاقتباس لا يمكن أن يخدم دينامية المسرح المغربي.

< ولكنها ظاهرة وطنية عامة أتعسها هو حين لا يشير “الكاتب” إلى النص الأصلي الذي كتب عنه. ينبغي ألا ننسى أنه أحيانا كان “الجينيريك” يشير صراحة إلى عبارة ملغومة: “كتبها عن…”.
> إذا عدنا إلى تاريخ المسرح فسنجد أن المسألة مطروحة بصيغة إشكالية. كتاب “أنتيجون” متعددون منذ سوفوكل إلى اليوم، مرورا بجان كوكتو وجان أنوي وبرتولد بريشت وآخرين. في مثل هذه الحالات يكون مفهوما أن النص الأصلي صار جزءا من تراث إنساني، وملكا مشاعا ما دام يسكن مخيلة الناس منذ قرون. أما الوضع اليوم فيختلف، ذلك أنه في عدم الإشارة إلى الكاتب الأصلي يصبح الاقتباس اختلاسا بتعبير الصديقي رحمه الله. أما حديثك عن عبارة “كتبها عن…” فالمفهوم منها في اعتقادي مستوى آخر من الاقتباس يستلهم فيه الكاتب جوهر النص الأصلي بدون الخضوع إلى المقتضيات الهيكلية لهذا الأخير.

< في وقت من الأوقات عشنا نوعا من الاندفاع السياسي، وربما الثقافي والعاطفي، حيث جعلنا من مسرح الهواة (أتحدث دائما عن الكتابة) هو المعبر الأساسي، إن لم نقل الشرعي، عن الكتابة المسرحية الحقيقية، أو عن الوعي المسرحي للظاهرة المسرحية في المغرب، هل لهذا ما يبرره؟ وفي هذه الحالة هل الوضع لا يزال قائما اليوم؟
> كنا ولا نزال نعتبر قطاع الهواة كذلك لدوافع موضوعية وذاتية، لا فقط تجليا لاندفاع ذاتي أو عاطفي.
لقد كان مسرح الهواة هو القطاع الذي احتضن ثقافة الغضب والاحتجاج ضد البنيات القائمة، خاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات. وهو القطاع ذاته الذي تأسست فيه الكتابة المسرحة التجريبية، وتفاعلت مع تطورات الكتابة في العالم العربي والغربي.
ليس عبثا أن التحول في الكتابة المغربية قد توطد في حضن الهواة انطلاقا من النصوص التي كتبها، منذ أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، كل من محمد تيمد، عبد السلام الحبيب، محمد الكغاط وأحمد العراقي… التحول الذي وضعنا إزاء نص جديد يقطع مع النصوص السابقة لانبنائه على وعي فكري وجمالي مختلف. وبالطبع فهذا التحول كان نتاج التفاعل مع التراث المسرحي المعاصر. وقد تعزز بتأثير لحظتين في مسارات النص المسرحي العربي والعالمي:
اﻷولى: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت بروز مسرح مختلف بأفكار جديدة تقوم على التمرد والاحتجاج والعبث والسخرية ومساءلة الذات والوجود..
الثانية: مرحلة ما بعد هزيمة 1967 عربيا، وانتفاضة ماي 1968 فرنسيا وعالميا.
نتيجة كل ذلك وجدنا أنفسنا منخرطين تلقائيا في حركة التجديد في النص المسرحي كما بوشر في المحيطين العربي والدولي.
أما بخصوص السؤال حول ما إذا  كان الوضع لا يزال كذلك اليوم فالجواب سيكون بالنفي لسبب بسيط مرتبط بنهاية مسرح الهواة كفكرة وكمشروع. عاملان متداخلان أديا إلى تلك النهاية:
– إقرار سياسة الدعم سنة 1998 التي فتحت أمام كل الممارسين بمن  فيهم الهواة. ومن ثم تحول هؤلاء إلى الترشح ضمن مسطرة الدعم التي كانت فضفاضة. وبذلك اتسعت لجميع الممارسين. وبالتالي لم يعد أحد يرضى بالانتساب إلى الهواة بعد أن كان ذلك الانتساب لذلك القطاع بمثابة وسام شرف على صدر الممارسين.
– أما العامل الثاني فيتمثل في اتخاذ وزارة الشبيبة والرياضة (الجهاز الوصي تاريخيا على قطاع الهواة)، في نفس الفترة، قرار توقيف قطاع مسرح الهواة منذ سنة 2002.

 

الإخراج… أو حين يصبح العرض رؤية للعالم

< هل يمكن أن نتفق على تعريف شبه موحد حول مفهوم للإخراج؟ 
> نحن نعرف أن ميلاد المخرج بالمعنى المتداول اليوم لم يتم سوى في العصر الحديث حين تحولت سلطات ومسؤولية العرض إلى المخرج. منذ ذلك الوقت تطورت الرؤى والمفاهيم. وبدون الاسترسال في التفاصيل الممتدة عبر تاريخ الممارسة الإخراجية في العالم، نستطيع أن نؤكد المعنى المتداول حول اعتبار الإخراج هو المحطة التي يتقاطع عندها التركيب بين أعمال الكاتب والممثلين والسينوغراف وكل صناع العمل المسرحي…
إذا حاولنا أن نخضع هذا الاستنتاج عبر محك التطبيق سنجد أن مهمة الإخراج تقتضي أن يتحمل المخرج مسؤولية اختيار النص والمؤلف والسينوغراف والموسيقي والممثلين… وهو الذي يخط للنص مسالك الطريق إلى الخشبة، وهو الذي يوجه المشاركين في العمل نحو رؤيته الفنية.

< لكن هل نستطيع اليوم، بعد تراكم كل هذه السنوات من العمل المسرحي المغربي، أن نحدد ملامح لمدرسة مغربية في الإخراج؟
> كلمة مدرسة لا تعني، بالنسبة إلي على الأقل، سوى أن ينجح مخرج ما في تكوين حلقات من التلاميذ والمريدين الذين ينقلون عنه الخبرات والمعارف ثم يطورونها لاحقا. وفي الحالة المغربية فهذا لم يحدث سوى بشكل نسبي من خلال مسرح الصديقي الذي يمثل وحده في رأيي الاستثناء كلما حاولنا أن نتحدث عن مدرسة مغربية وعربية في اﻹخراج. وذلك ﻷنه تبنى منذ سنة 1967 مشروعا جماليا تجاوز به أعماله اﻷولى المشار إليها سابقا. السنة المذكورة هي التي شاهدت إخراجه لمسرحية “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب”، تلتها “الحراز” و”مقامات بديع الزمان الهمداني” و”أبو حيان التوحيدي”… وهو ما شكل منعطفا تواصل إلى السنة الأخيرة من عقد التسعينيات المكرس خصوصا لمسرح البساط. 
إن قوة ذلك المشروع لا تكمن في تماسك مقترحه الجمالي وفي خطه الفكري والفني، ولكن أساسا في التأثير الذي مارسه على المسرح المغربي، وعلى قطاع الهواة أيام توهجه منذ نهاية الستينيات وعلى امتداد عقد السبعينيات، وصولا إلى الثمانينيات. نتيجة ذلك التأثير تمكنت فرق الهواة من تأسيس تجارب وخيارات واضحة (ولا أقول مدارس) ينتمي جلها إلى تيار البحث والتجريب تحت عنوان مشترك: العمل من أجل مسرح جديد من علاماته التحرر من سلطة النص، وإيلاء السينوغرافيا مكانة مركزية في بناء العرض. نستحضر في هذا السياق تجارب الراحلين محمد تيمد، محمد الكغاط، عبد العزيز الزيادي، عبد الكريم بناني، حوري حسين، محمد السحماوي، إضافة إلى أسماء أخرى عديدة لا تزال تحيا بيننا، بعضها انقطع عن الممارسة، وبعضها لا يزال يمارس العمل الإبداعي إلى اليوم.
في عقد التسعينيات برز نفس إخراجي جديد مع جيل تكون، بشكل أساسي، من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، ولا يزال يتطور باستمرار إلى اليوم بحضور أسماء تغني المشهد المسرحي الراهن، وتغذيه بالإضافات المشرفة.

< في نفس السياق، هل يمكن القيام بعملية الإخراج لمجرد معرفة تحريك أجساد الممثلين أو بدون معرفة، ولمجرد الاطلاع على آليات قراءة النصوص، سواء كانت مسرحية أو غير مسرحية، وبدون أدنى دراية بالآداب والعلوم الإنسانية؟
> لا طبعا وإلا ستصبح العملية ذات طابع تقني صرف. المخرج صاحب رؤية للعالم. وهذا يلخص كل شيء.

< كثيرا ما يفهم الإخراج في المغرب، عن وعي أو بدونه، على أنه نوع من الثورة على النص أو محاولة تجاوزه، أو يستعمل بعبارة أخرى كمجرد مطية. ما السبب في ذلك؟
> السبب ليس فقط استخفافا بمعنى الإخراج، ولكن أيضا بمعنى النص، وبمعنى المسرح بشكل عام. لا يمكن للإخراج أن يلغي النص، أو يشتغل بدونه لسبب بسيط. النص موجود حتى في العروض التي لا تعتمد على الكلام. النص هو المعنى أو الصورة الذهنية التي يرسلها المخرج إلى المتلقي.

الحاجة إلى إصـــــــــــلاح نظام الدعم وجواراته

< حين نتوقف عند محطة أساسية وتأسيسية في تاريخ المسرح المغربي، ألا وهي سن سياسة وقواعد الدعم المالي الذي تقدمه الدولة للمسرح، نكون آنذاك في مفترق بين قراءتين متناقضتين:
الأولي مفادها أن هذا الدعم أنقذ المسرح المغربي، ومنحه نفسا جديدا في وقت كان فيه المسرح يحتضر.
الثانية تقول إن الدعم بانفتاحه على أنواع وأشكال الفرق، دون التمييز بين المتمرس والدخيل، بين الهاوي والمحترف، بين المؤسسات التجارية الصرفة والتجارب الفنية، يكون قد خرب المسرح المغربي.
ما تعليقك؟
> سياسة الدعم قد تحتمل القراءتين معا بحسب الحالات والسياقات. لكن المؤكد أن هذه السياسة كانت من مطالب المسرحيين المغاربة انطلاقا من ضرورة التزام الدولة بدعم المسرح باعتباره خدمة عمومية. وقد مرت منذ إقرارها سنة1998 بمراحل عبرت، في رأيي، عن تطور دينامي أكد أنها الجزء اﻷول من الإصلاحات التي عرفها القطاع، والتي شملت، منذ الانطلاق مع وزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري، سلسلة قرارات متدرجة في الزمن: دعم الإنتاج، ثم دعم الترويج، تنظيم الموسم المسرحي، تنظيم مهرجان المسرح المغربي كل سنة، إطلاق ورشة استصدار قانون الفنان ومستلزماته من بطاقة الفنان والتغطية الصحية… إضافة إلى مشروع الفرق الجهوية. 

< ولكن مشروع الفرق الجهوية، رغم تشكيلها، وتعيين مسؤوليها قد فشل! وربما انتهى إلى غير رجعة؟
> انطلق المشروع سنة 2000 بتأسيس ست فرق نشطت بوتائر مختلفة. وقد دام بعضها إلى حدود سبع سنوات، أو أقل من ذلك. ثم تعثر بسبب أن القرار لا يمكن أن ينجح اعتمادا على اكتفاء ذاتي، أي فقط على تدخل وزارة الثقافة عبر التأطير والتسيير والتمويل… وهو نفسه تدخل محدود ومثقل بنظام دفعات شاق، وبدفتر تحملات ذي طموحات كبرى. في حين كان المطلوب هو نضج الوعي الجهوي، وكذلك فكرة الشراكة بين الوزارة المعنية والمقررين داخل الجماعات والجهات، وداخل القطاع الخاص حتى تتحقق لدى الجميع القناعة المشتركة بقيمة الاستثمار في العمل الثقافي والفني.
هل انتهى المشروع إلى غير رجعة كما في سؤالك؟
الأمر مرهون بمشاريع الإصلاح المأمولة. ومع ذلك فالتطور الدينامي لباقي القرارات الأخرى قد استمر بحيث تم استصدار قانون الفنان، وانطلق ورش التغطية الصحية. ثم تعززت تلك المكتسبات بعد مجيء ثريا جبران. وتميزت مرحلة محمد الأمين الصبيحي بتبلور فكرة التوطين. وقد اعتبرت التطور إيجابيا لأنه يجدد نفسه باستمرار، ويصوب الأخطاء الموضوعة على الطريق. ومع ذلك فالآثار لا تزال محدودة وهشة، خاصة بعد أن لاحظنا مع الوقت خللا في الخط البياني لتعامل الوزراء مع القطاع المسرحي. ولقد ترجم هذا الخلل بجدل النهوض والسقوط بحسب مزاج الوزراء.

< على ذكر التوطين، أو بعبارة أصح الإقامات الفنية للفرق في فضاءات مسرحية، هل يمكن النظر إلى هذا القرار تطويرا لمسار الدعم؟
> هي خطوة أساسية تعبر عن استجابة الوزارة للحق في دعم اﻹقامات المسرحية للفرق داخل الفضاءات المسرحية العمومية، وذلك بهدف ضمان إشعاع الفرق داخل المحيط الترابي، وتكريس تقاليد المشاهدة. ومع ذلك يصح بخصوص هذه الخطوة ما سبق أن قلناه بخصوص تعثر مشروع الفرق الجهوية. لقد تحدثت مع بعض النشيطين في إطار دعم التوطين فأكدوا لي بأن الفكرة ستظل مهددة بالتعطيل ما لم تنخرط فيها الهيئات المنتخبة، والمندوبيات جهويا، ومؤسسات القطاع الخاص. كما أن الفكرة ستتهدد باستمرار بثقل المساطر الإدارية.
ما يمكن تأكيده اليوم هو الحاجة إلى جيل جديد من الإصلاحات. وأتصور أن هذا الجيل ينبغي أن يندرج ضمن عمل شمولي عرضتُ بعض عناصره في ندوة عقدت في يونيو 2017 بالدار البيضاء حول “المسرح والدولة” كالتالي:
1- وضع استراتجية لعمل المسارح المتواجدة على تراب المملكة عبر توحيد إطارها القانوني، وتمتيعها ببنية إدارية وفنية وتقنية بتنسيق مع الهيئات المنتخبة. ويمكن التفكير في تخصيص المسارح القائمة ضمن اختيارات متعددة: مسرح الجمهور الواسع، مسرح البحث والتجريب، مسرح الريبرتوار العربي والعالمي، مسرح الطفل… على أساس أن تسند هذه المسارح إلى رجال المسرح ذوي الخبرة والكفاءة، وبناء على دفتر تحملات واضح البنود.
2- الإسراع باستكمال إصدار القوانين التنظيمية المتضمنة في القانون الجديد للفنان والمهن الفنية.
3- توسيع الأثر الرمزي والمادي لبطاقة الفنان،
4- تقوية نظام التغطية الصحية عبر الحفاظ على المكتسبات الحالية، وتطويرها بآليات جديدة.
5- العودة إلى إحياء مشروع الفرق الجهوية، على ضوء دستور2011، بفتح ورش إصلاحي يعطي معنى ملموسا لاختيار الجهوية المتقدمة.
6ـ إعادة إخضاع نظام الدعم بمختلف أشكاله (بما فيها التوطين) لقراءة جديدة تملأ البياضات، وتعالج الأعطاب التي أفرزتها التجربة. قراءة تسير نحو الرفع من نسبة  الدعم، وإقرار حوار مثمر بين أعضاء اللجن والفرق المرشحة قصد تعميق الشفافية في اختيار المشاريع…
7- ترتيب العلاقة من جديد مع الإعلام المرئي والمسموع من أجل انخراط جدي في دعم الإنتاج والترويج والإشهار للأعمال المسرحية.
8- البحث عن آليات تقر التواصل بين المسرحيين والمسرح المدرسي والجامعي.
ولأن هذه الأهداف تتجاوز وزارة الثقافة إلى غيرها من الوزارات (الاتصال، التربية الوطنية والتعليم العالي، الداخلية…) فسيكون من الملائم أن نعيد طرح مطلب إنشاء هيئة وطنية (أو عليا)، أو مركز للمسرح المغربي، أو صندوق خاص لتنمية هذا القطاع. (تجربة إنشاء صندوق دعم السينما تفيد في هذا الجانب).

< ألا ترى معي أن جزءا من هذه المطالب قد طرح منذ الندوة الوطنية الأولى للمسرح سنة 1973، وقد أعيد طرحه في كل المناظرات والندوات التي تلتها، ولو بصيغ واجتهادات متعددة ومختلفة، وإن كانت تقصد نفس الغاية. غير أنها مع ذلك ظلت في مجملها حبرا على ورق باستثناء المبادرات التي أقدم عليها محمد الأشعري وطورها بعض الوزراء بعده؟
> بالفعل طُرح جزء فقط من تلك المطالب، واقترحت الممارسة مطالب أخرى على التوالي. لكن عدم تنزيل هذا الجزء أو ذاك إلى مستوى التطبيق لا يجعلنا نكف عن الاستمرار في المطالبة، علما بأن ما تحقق هو نفسه في حاجة إلى التطوير. المهم هو النظر إلى إصلاح القطاع في بعده الشمولي.

< بالتركيز على قانون الفنان والمهن الفنية الصادر سنة 2016 في عهد وزارة محمد الأمين الصبيحي، والذي رغم أهميته الرمزية يظل السؤال معلقا: ما هي الإضافة العملية التي هيأها هذا التشريع الجديد للمهنة؟
> سبق أن أشرت إلى القانون الصادر سنة 2003 باعتباره مندرجا ضمن القرارات التي فتحها ورش الإصلاح في حكومة اليوسفي. الإضافة الأولى تتمثل في كون قانون الفنان كان قد صدر في البدء ضمن ظهير يعتبر أسمى النصوص من حيث التدرج التشريعي. كما تتمثل الإضافة الثانية في أنه، ككل القوانين، جاء ليعالج إشكاليات واقع قائم، وليؤسس جدليا لواقع جديد. من هنا نفهم تنصيصه على توضيح الهوية القانونية للفنان، وتمتيعه ببطاقة الفنان التي صدرت دفعتها الأولى سنة 2008، وبحق الاستفادة من التشريعات المتعلقة بقانون الشغل، وبالضمان الاجتماعي، مع التنصيص على إحداث عدد من الآليات ومن بينها ما يهم تمويل الخدمات الاجتماعية للفنانين، وإنشاء وكالة للخدمات الفنية… كل ذلك كان يؤشر على تحول جديد في الحياة الفنية الوطنية، وهو ما رحبت به الهيئات الممثلة للقطاع التي كانت شريكة في صنعه. لكن هناك من الفنانين من يبخس إلى اليوم هذا التحول لأنه لا يرى أثرا مباشرا وملموسا على معيشه اليومي. هؤلاء يستعجلون الأمر لأن الآثار المأمولة لا تتحقق إلا بعد إخضاع الواقع الفني لهذا التحول، أي بعد صدور القوانين التنظيمية المرتبطة بالظهير، وبعد الانتظام القانوني للفرق، وبعد سد الثغرات والبياضات التي رافقت القانون المعني. في هذا الإطار نفهم ظهور الحاجة، داخل القطاع من جديد، لتعديل قانون الفنان. وذلك ما تحقق سنة 2016 حيث أصبح يحمل اسم قانون الفنان والمهن الفنية متضمنا إضافات هامة ينتظر تحققها بعد صدور النصوص التطبيقية المسطرة في ذلك القانون. لكننا لا نزال للأسف في انتظار استكمال تنزيل تلك النصوص، وأنت ترى أننا إلى اليوم لم نرس قواعد ثابتة لمسار الدعم، وللسياسة العمومية الموجهة لقطاع المسرح. كلما تغير وزير رجعنا إلى نقطة الصفر. كلما حدث تعديل وزاري عشنا منطقة بياض في انتظار أن يتهيأ الوزير الجديد ليفهم حيثيات الملف. ذلك ما اعتبرته يخدم مأساة النهوض والسقوط لأن التعاطي مع المسرح من طرف السلطة التنفيذية لم يرق لأن يكون سياسة عمومية تمثل الاختيار الاستراتيجي للدولة في القطاع الثقافي.

< نعود إلى قضية جوهرية ربما تلخص وحدها كل أعطاب المسرح المغربي، لماذا لم نستطع في المغرب خلق فرقة مسرحية وطنية، رغم توفرنا على ما يكفي من المؤلفين والمخرجين والممثلين، وكل صناع مكونات العرض المسرحي؟
> ربما يعود اﻷمر إلى ما أسميه اللحظات التأسيسية المجهضة التي عرفها المسرح المغربي منذ فجر الاستقلال. فكما هو معروف ففرقة التمثيل المغربي- التي تشكلت أساسا من العناصر التي استفادت من تداريب الشبيبة والرياضة بإشراف أندري فوزان، وأطر أخرى فرنسية ومغربية منذ الحماية- لم تعمر طويلا، إذ سرعان ما توقفت سنة 1963، وكان علينا أن ننتظر إلى غاية 1966 لتنبعث الفرقة من جديد  باسم المعمورة، والتي حلت بدورها سنة 1974.
منذ ذلك الوقت لم تعد لدينا فرقة وطنية. وفي تقديري فالعامل اﻷساسي لإجهاض التجربتين يعود إلى ارتياب المسؤولين عن المسرح، وإلى افتقادهم إلى استراتيجية ثقافية واضحة المعالم.

< لنطرح الآن قضايا أخرى: بدأ المسرح بالمغرب بفرقة مسرحية أو فرقتين. لنقل ثلاثة أو حتى عشرة في كل من مدينتي طنجة وفاس، لينطلق إلى المدن الأخرى، كيف أصبحت هذه الفرق اليوم تتجاوز المئات بدون مبرر إبداعي معقول؟
> يعود ذلك في رأيي إلى عاملين اثنين:
الأول لأن الفرق في مجملها تنشط بناء على قانون تأسيس الجمعيات، الأمر الذي ييسر عمليات التأسيس ومباشرة اﻷنشطة بدون شروط دقيقة، إذ يكفي أن يقر أشخاص محدودو العدد ذلك لتصبح لهم اﻷهلية القانونية لممارسة العمل المسرحي.
العامل الثاني يعود إلى أن هذه الممارسة ارتبطت منذ النشأة بعمل الهواة، وبالنشاط داخل دور الشباب.
ومع ذلك لا ينبغي أن ننظر إلى ذلك التناسل كمظهر سلبي، وإن كنا نلاحظ أن أغلب الجمعيات لا تمارس نشاطا منظما. ما يثيرني مع ذلك هو تزايد عدد المرشحين إلى الدعم سنة بعد أخرى دون أن يعكس ذلك غنى أو حضورا ملموسا في ساحة الإبداع.

< رغم أنه سبق أن تناولنا هذه النقطة من زوايا مختلفة أريد أن نعود إليها من زاوية بسيطة ومباشرة: لماذا فشل المغرب في أن تكون له مسارح بمدير بمهمة ومدة محددتين، وبميزانية للإبداع خارج ميزانية التسيير وأجور العاملين، وبفرقة مسرحية من غير أن تكون بالضرورة قارة، وببرنامج فني إبداعي سنوي يعلن علية من انتهاء الموسم السابق؟
> أسباب الفشل مركبة. والمثير أن ما تتحدث عنه ينطبق على كل المسارح والمركبات والدور المتواجدة على تراب المملكة، سواء منها تلك التي تندرج ضمن وصاية وزارة الثقافة، أو تلك التابعة للجماعات الترابية. وفي تصوري فإن أمر تجاوز ذلك الفشل لن يتحقق سوى بمسار تفاوضي شاق بين الهيئات الممثلة للقطاع ووزارة الثقافة والمجالس المنتخبة لإقناع أصحاب القرار بأن لا معنى للمسارح بدون إقرار فلسفة تحدد الأدوار والوظائف والاختصاصات كما ألمحت إلى ذلك في معرض جواب سابق. هنا تبرز الحاجة إلى أن ينتهي الاتفاق بين الأطراف المعنية على أن يتم الإعلان عن الترشح لمهمة المدير الإداري والفني على أساس أن يتقدم المرشحون بمشاريع فنية تبرز تصورهم الثقافي والفني، وعلى أساس تعاقد بين الأطراف وفق دفتر تحملات يحدد كل مناحي الاشتغال، بما فيها الهيكل الإداري والميزانية…
بدون ذلك سنظل نجتر الأساليب ذاتها التي ارتبطت بتسيير المسارح والمركبات الثقافية القائمة. أقصد بتلك الأساليب التبعية الإدارية للهيئات المنتخبة. وهو ما ينتج عنه أن المسارح تتحول إلى قاعات أفراح، أو إلى مقرات للمؤتمرات الحزبية والنقابية وللزوايا الصوفية… كما هو حال مسرح محمد السادس في الدار البيضاء، و مسرح عبد الرحيم بوعبيد في المحمدية، وغيرهما من المسارح.

< في عهد غير بعيد كانت الفرق المسرحية في المغرب، أقصد المحترفة أو شبه المحترفة، تسمى على اسم مؤسسها ورئيسها الذي هو نفسه المخرج والمؤلف والممثل الأساسي، هل ممكن لهذا النوع من الزمن أن يستمر في الحاضر والمستقبل؟
> أن تنسب الفرق إلى أسماء بعينها فذلك معطى طبيعي، خاصة إذا تعلق الأمر بتجارب خاصة. وذلك هو التقليد المعتمد منذ فتحنا أعيننا على المسرح في المغرب والعالم. عربيا على سبيل المثال نعرف مسرح القباني باسمه، وكذلك الحال مع مسارح نجيب الريحاني وتوفيق الجبالي وفاضل الجعايبي وعبد القادر علولة… في المغرب نفس الشيء حيث تنسب التجارب إلى الطيب الصديقي ونبيل لحلو وعبد الحق الزروالي… وحتى مع الأجيال التي تلت مرحلة الريادة والتأسيس. السبب واضح: لأن المخرج هو مدير الفرقة وهو الحامل لصخرة سيزيف. وهذا ما يجعله أيضا صاحب الفكرة والمشروع. وهذا يتقاطع مع التعريف الذي سبق أن صغناه سابقا بخصوص تعريف الإخراج. المؤسف أنه إذا نجح المخرج استمرت الفرقة، وإذا توقف أو رحل إلى دار البقاء رحلت معه الفرقة.

< قد لا نختلف حول أن المدن الكبرى (أو المركزية) تشهد أهم الفرق المسرحية في المغرب، فالفرقة التي استقرت في الرباط أو الدار البيضاء ليس لها نفس حظوظ فرقة استقرت مثلا في مدينة هامشية؟
> أتفق معك على أن هناك بؤسا صارخا على مستوى توزع البنيات المسرحية على مجموع التراب الوطني. ربما ينبغي أن نشير إلى أن رهان التنمية البشرية الذي تبنته بلادنا منذ سنوات ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الاندراج الطبيعي للتنمية الثقافية ضمن ذلك الرهان، مع الإيمان الفعلي بقيمة الاستثمار في الرأسمال الثقافي، وبدمقرطة الثقافة على الصعيد الوطني.

< هل يمكن أن نقر دائما، كما يفعل كثير من النقد المتسرع، بأن هذه الفرقة تمارس المسرح الاجتماعي، وتمارس الأخرى المسرح التراثي وما إلى ذلك، علما بأنه يمكننا أن نجد عند مسرحي واحد كالطيب الصديقي أو أحمد الطيب العلج كل هذه الأنواع من المسرح أو المسارح؟
> ما يستشف من السؤال هو نقدك للتصنيفات التي صارت متجاوزة اليوم باختزالها للتجارب المسرحية ضمن كليشيات جاهزة. بهذا الخصوص يصعب مثلا وضع الصديقي ضمن خانة محددة بالقول إنها المسرح التراثي مثلا. التصنيف في رأيي قد يكون مفيدا حين يعتمد معايير أخرى كاعتبار مخرج ما مثلا قد اختار العمل من داخل قصائد الملحون، أو اعتبار مخرج ثان يعمل على موضوعات تعود إلى التاريخ العربي الإسلامي، أو مخرج ثالث يختار الاشتغال على الجسد… هنا نكون إزاء تصنيفات منبثقة من داخل التجارب لا من خارجها. التصنيفات في هذه الحالة تصبح معبرة عن خيارات موضوعاتية وجمالية.

< الدولة لا تخاف التلفزيون، وتقدم برامج سياسية مباشرة، ولا تخاف الأغنية… ولكنها تخاف المسرح.
> هناك مفارقة لافتة للنظر. لقد حظي المسرح المغربي في السنوات اﻷولى للاستقلال باهتمام بليغ من لدن الأسرة الملكية، وخاصة من طرف ولي العهد آنذاك المغفور له الحسن الثاني الذي من المؤكد أنه كان يتابع مراحل نشوء فرقة التمثيل المغربي. وقد كان رحمه الله وراء تسمية الفرقة بذلك الاسم. بل إن بعض المسرحيات كانت تعرض في فجر الاستقلال تحت رعايته شخصيا. كما تبرز صور تلك المرحلة حضوره لإحدى مسرحيات فرقة المسرح العمالي للطيب الصديقي رفقة المهدي بن بركة والمحجوب بن الصديق وعبد الله إبراهيم… إضافة إلى أن أهم منجزاته الثقافية بعد توليه العرش تدشين المسرح الوطني محمد الخامس. كما أن من المعروف أنه كان يستضيف في القصر بعض مسرحيات المعمورة، أو فرقة المسرح الوطني محمد الخامس أو غيرها. مقابل ذلك لم يحظ المسرح المغربي بما يوازي الاهتمام الملكي، أي بفرص التأسيس القانوني، والاعتبار المهني، والرعاية المادية بمعناها المؤسساتي.
ما قد يفسر ذلك هو ما يمكن اعتباره طابعا تجريديا لمسرح الصديقي الذي كان بارزا  آنذاك، مضافا إلى ذلك السمة الاحتجاجية لمسرح الهواة الذي تألق كوجه أساسي للمسرح المغربي، معبرا عن الغضب من اﻷوضاع العامة لانتمائه بشكل عام لأفق اليسار. وكانت النتيجة ما عشناه من غياب فرقة وطنية، ومن انعدام البنيات القانونية والمؤسساتية، ومن تدهور الاعتبارات المادية والرمزية لرجل المسرح في المغرب. وكان علينا أن نتتظر عقودا لنشهد تدخلا مباشرا لملك البلاد بعد البرنامج التلفزيوني الذي كنتَ أحد المشاركين فيه سنة 1991، والذي ثبت أن شاهده الحسن الثاني، ودعا المشاركين إلى الاجتماع بهم.
المفارقة الثانية أن التعليمات الملكية التي أصدرها الملك في ذلك الاجتماع، والتي تضمنها خطاب المستشار الملكي في المناظرة الوطنية للمسرح الاحترافي،  لم تنتقل إلى مجال التطبيق. لا بأس أن أشير إلى أنني كنت دائما أسألك من موقعك الاحترافي، ومن إلمامك بتفاصيل السياسة المتبعة في القطاع: لماذا لم يتم تطبيق تلك التعليمات الملكية؟
هذه فرصة ﻷنصت إلى رأيك.

< روح تلك التعليمات قد طبقت إلى حد ما بحيث صارت قضايا المسرح تحتل مكانة خاصة في اهتمامات المسؤولين. وأحسن دليل على ذلك هو هذه المسارح التي تبنى في الكثير من المدن المغربية، وأحيانا بتقنيات عالية. الحلقة المفقودة هي تسيير هذه المسارح بطريقة عصرية تنتج الإبداع المسرحي وتطوره، وتعبئ الجمهور، وتجعل النشاط المسرحي يصبح تقليدا يوميا، بدل أن يبقى موسميا كما هي الوضعية اليوم. وكذلك الأمر بالنسبة للفرق التي لم تر النور أبدا، ففضلا عن المنطوق والواضح في الرسالة الملكية، وبعكس ما قد نتصور، فهذه المفارقة ليست وليدة جهل المسؤولين، وعدم معرفتهم بما ينبغي القيام به. ففي المغرب حين نريد بناء طريق سيار، أو وضع “التراموي” نأتي بالخبراء من الخارج، ونرسل بعثات للخارج للتكوين والاستئناس، ولكن في حالة المسرح يظل هناك نوع من التردد، لهذا فالمسؤولون لا يريدون، عن وعي وقصد، نشاطا مسرحيا مستمرا ومنظما، بل يطمحون فقط إلى بعض التنشيط المسرحي من حين لآخر لتأثيث بعض المناسبات. وإلا ما المانع بالفعل من أن تكون المسارح في المغرب لها ميزانيات تعبر عن وظيفتها، وتسير من طرف مبدعين قادرين على جعلها فضاءات للإبداع المتواصل؟
الذين يسيرون كل المهرجانات الفنية التي تقام موسميا في المغرب يعرفون جيدا كلفة النشاط الفني، ويعرفون بأن المغرب ليس بفقير لدرجة أنه يستطيع بناء قاعات بالملايير، ولا يستطيع أن يضمن لها ميزانيات للإبداع والنشاط المسرحي المستمر في بلادنا.
> لا خلاف بيننا حول هذا الموضوع.

< لنعد إلى أسئلة البدايات من وجهة أخرى: متى بدأ المسرح في المغرب يحمل الملامح الحقيقية للمسرح كما هو متعارف عليه عالميا؟ هذا السؤال لا يقصد التوقف عند ظواهر قد تظهر هنا وهناك، وقد تختفي أو تظل بيننا حتى اليوم (دون أن تشكل بالضرورة مرجعية للبحث العلمي). نحن نقصد بسؤالنا مسرحا مكتمل الملامح الفنية والتقنية، كمعطى أو كتراكم وكمكتسب فني لا يمكن التراجع عنه، وحين نشاهده نقول نحن أمام “المسرح”، هل وصلنا لهذا المعطى، أم أن الأمر يبقى وليد الصدفة والمغامرات التي ليس لها غد؟
> السؤال ليس بسيطا كما يُتصور ﻷنه يستدرجنا معا إلى التفكير في المسرح من زوايا متعددة.
أولا يجب أن نتفق حول معنى المسرح كما هو متعارف عليه عالميا. هل المقصود فقط هو الشكل الذي اعتمد المعمار الإيطالي كفضاء، وكمنظومة لها فلسفتها في العلاقة بالنص وبالممثل وبالمتلقي، وبكل من تعنيه الحياة على الخشبة؟
إذا كان هذا هو المقصود فالجواب سيكون بسيطا: بدأ المسرح في المغرب يحمل الملامح الحقيقية في مرحلة جنينية أولى منذ عشرينيات القرن الماضي من خلال زيارة الفرق المشرقية. ويتوازى هذا التاريخ مع تواريخ قائمة على نفس المعنى مثل القول بأن العرب عموما عرفوا المسرح سنة 1948. وبدأ التكون يكتمل مع إنشاء فرقة التمثيل المغربي. وواضح أن الخلفية المعتمدة في هذا التأريخ تستند على مضمون تلك المركزية اﻷوربية التي جعلت المعمار الإيطالي شكلا كونيا، واعتبرت اﻷشكال الفرجوية المحلية ما قبل مسرحية.
بموازاة تلك الأطروحة (المركزية) ظهرت منذ “زمن النهضة” الممتد تيارات فكرية وتجارب عملية أصبحت تفكر في الاشتغال خارج المعمار الإيطالي، أو في العمل من الداخل لتفجيره. ثم تطور الاجتهاد ليدرج المسرح اليوم ضمن إطار أشمل للفرجات، مع إعادة الاعتبار للفضاءات العمومية، والتنبيه إلى ضرورة تجديد النظر للنص، وللطاقات التي يختزنها الجسد المسرحي، ولدينامية العلاقات مع الوسائط التكنولوجية الحديثة. وبالنسبة إلينا في المغرب فإذا كان المبدعون الممارسون قد واكبوا هذه التيارات التجديدية منذ السبعينيات، فإن المركز الدولي لدراسات الفرجة قد اضطلع، على المستوى المعرفي والنقدي، بدور كبير في هذا الاتجاه خلال العقد الأخير، لما يقوم به من تعريف بالجهود العلمية التي تتم على الصعيد الدولي، سواء عبر مهرجان طنجة المشهدية، أو من خلال استضافة ندوات ومؤتمرات، وإصدار مجلة محكمة ومنشورات لكتاب مغاربة وعرب وأجانب.

 

المسرح والجامعة، الانتقال نحو الممارسة

< لا يمكن أن نحيط بخرائط المسرح المغربي ما لم نثر موضوع هذا المسرح في رحاب الجامعة المغربية. لذا أسألك عن تصورك للموضوع.
> من المعلوم أن إقرار درس المسرح في الجامعة المغربية قد تم بفضل جهد شخصي قام به، منذ بداية السبعينيات، أستاذنا حسن المنيعي بكلية الآداب بفاس، وأستاذنا محمد برادة بكلية الآداب بالرباط الذي كنت أحد طلبته آنذاك. وقد كان دورهما معا يتركز أساسا حول فتح نوافذ أمام الطلبة للاطلاع على الإبداعات والاجتهادات التي يعرفها المسرح في العالم. ولذلك قاما معا بوضع الطلبة أمام نماذج لتيارات ولقراءات من الذخيرة العالمية. أذكِر بهذا الخصوص بإسهامهما معا في انطلاقة مجلة “أقلام” حيث احتفيا معا بتيارات التجديد، وضمنها مسرح برتولد بريشت. بعد ذلك تعزز هذا الجهد مع محمد الكغاط. ثم اغتنى  الحضور المسرحي في الجامعة مع الأجيال اللاحقة من باقي الأساتذة الجامعيين. وهو ما يستمر إلى الآن.
ولأنه جهد فردي كان من الطبيعي أنه لا يعبر بالضرورة عن إرادة الدولة في ربط الجامعة بالمحيط الثقافي. ولذلك كان من الطبيعي أيضا أن يظل حبيس الجانب النظري، علما بأنه سبقت هناك مبادرات يتيمة في جانب الممارسة من قبيل تجربة فريد بنمارك التي لا أعلم عنها شخصيا سوى أنه قدم مسرحية “بنادق اﻷم كرارا” لبرتولد بريشت و”نزهة في الريف” لفرناندو أرابال.
وكان علينا أن ننتظر إلى حدود الثمانينيات حيث قامت كلية آداب بنمسيك بوضع اللبنة الأولى لمهرجان المسرح الجامعي الدولي بإدارة العميد حسن الصميلي. وقد لحقت بها، فيما بعد، كليات مماثلة في أكادير والدار البيضاء وبني ملال  وفاس… ولتلخيص الوضع أؤكد أن ذلك الجهد الفردي هو المستمر إلى اليوم، سواء في الجانب النظري، أو في جانب التطبيق.
ومع ذلك فقد كان لهؤلاء فضل كبير في تخريج عدد من الأكاديميين الذين أعدوا أطروحات أغنى بعضها الرصيد النظري للمسرح المغربي. وفي رأيي فهذا الجهد ينبغي أن ينتقل إلى مرحلة أخرى يتم فيه التدريس المهني للمسرح عبر إقامة ورشات، وإنشاء فرق قارة داخل الكليات. وهذا أمر حيوي لأن المغرب لا يمكن أن يعتمد فقط على المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي الذي يخرج في السنة عددا محدودا من الطلاب.

< هناك كذلك جهود أكيدة في المسرح المدرسي والمسرح الثانوي، حيث أقيمت تصفيات جهوية بمناسبة مهرجانات وطنية، سبق لنا معا أن حضرنا وأطرنا بعضها. ما سبب بعض التعثر الذي يعترض هذه المبادرات التي تعتبر الأهم من حيت تعود الطفل والتلميذ من صغره على المسرح، سواء كفن عريق، أو كإحدى وسائل الإدماج والتنشيط والتثقيف، دون أن ننسى أن أغلب الفاعلين في مسرح الهواة، في قمة ذروته، كانوا يأتون من الفضاء التعليمي، إما كطلبة أو تلاميذ، وإما كمدرسين والأمثلة كثيرة؟
> تنبهني بذلك إلى لحظة أخرى من اللحظات التأسيسية التي أجهضت ضمن مسارات المسرح المغربي. إذ نقف هنا مرة أخرى عند واحدة من مفارقات مشهدنا المسرحي. لقد نشأت الفرق المسرحية منذ عشرينيات القرن الماضي في حضن الهواية، وبالضبط في حضن المسرح المدرسي والثانوي. لكننا بعد الاستقلال انتظرنا إلى سنة 1987 لينتظم لدينا أول تدريب وطني للمسرح المدرسي، وإلى سنة 1993 لينتظم أول مهرجان وطني. هدر زمني غير مفهوم، خاصة إذا استحضرنا التجربة التونسية في هذا السياق حيث تم الانتباه هناك إلى تنظيم مهرجانهم المدرسي في السنوات الثلاثة التي تلت الاستقلال.
اليوم يتعثر المهرجان الوطني للمسرح المدرسي عندنا بعد أن فقد بريقه السابق. وغاب المهرجان الوطني للمسرح الثانوي بعد دورة أو اثنتين عرفتهما فترة وزارة عبد الله ساعف. مظهر آخر من مظاهر إتلاف اللحظات المضيئة.

 

المسرح والجمهور: وضع سوسيو ثقافي مركب

< كيف نجيب عن مسألة ابتعاد الجمهور عن المسرح، خاصة إذا استحضرنا الطابع الإشكالي للموضوع؟
> نتحدث عن هذه المسألة كما لو كانت استثناء في وضع المشاهدة والمتابعة للأعمال الفنية بشكل عام، والحال أن اﻷمر لا يختلف حين الحديث عن علاقة الجمهور بالإنتاج الروائي والشعري والتشكيلي والسينمائي…
إن علاقة الجمهور بالمسرح موضوع مركب ومحاط بالتشويش نظرا لحداثة العهد بتداول الأشكال الفنية. وأعتقد أن المسرحيين وحدهم لا يمكن أن يصوغوا جوابا ملائما للإشكالية المطروحة. واسمح لي هنا باقتراح زاوية لمعالجة الموضوع: لقد كانت علاقة المسرح بالجمهور حيوية حين كان المسرح هو الإطار التواصلي الأول الحي حيث يلتقي الناس بالمسرحيين باعتبارهم ضميرا لمجتمع (أو صوته ونخبته المفكرة) لينصتوا إلى قراءة ما يجري داخل المجتمع. 
في المراحل اللاحقة، خاصة في القرون الوسطى وعصر النهضة، ووصولا إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت وظائف رجل المسرح مثلما حدثت تغييرات في وظائف المسرح ذاته، حيث برزت إبدالات جديدة تراجع فيها حضور المسرح بعد بروز الوسائط التكنولوجية الجديدة، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت مساهمة بشكل أساسي في صناعة الرأي العام، وفي الاستحواذ على النسب العالية للمتابعة، مما نتج عنه تغير عادات القراءة، وتكريس النزوع الفرداني (العلاقة مع الحاسوب صارت تسبق كل العلاقات الاجتماعية اﻷخرى). في نفس السياق صار للمثقف حضور آخر نزع عنه الصفة الرسولية،  كما تصاعدت التعبيرات الاحتجاجية، وبرز المجتمع المدني كمثقف جمعي..
 أمام هذه المعطيات الجديدة تقلص جمهور المسرح بتقلص أدواره ووظائفه. إنه وضع سوسيوثقافي لا يهم فقط المسرح، بل كل الأشكال الأدبية والفنية الأخرى.

< أتفق معك في النظرة الشمولية لهذه الظاهرة. ولكن إذا توقفنا قليلا عند الوضع في المغرب بدقته ودقة مراحله.. لا ينبغي أن ننسى أن المسرح في المغرب كان، فيما مضى، يعبىء جمهورا كبيرا بعكس ما هو عليه الأمر اليوم، ليس لأن المسرح قد تراجع كما يقال، ولكن الذي تراجع فعلا هو كل الوسائط التي كانت تساعد المسرح على الانتشار كالإعلانات التلفزية مثلا وغيرها، الفرق القارة التي لها اشعاع معين بفضل اتجاهها المعروف والمعبئ وحده للجمهور، المسارح التي كانت تأوي فرقا قارة، وتساهم بذلك في تعبئة الجمهور (المسرح البلدي بالدار البيضاء وفرقة الصديقي، تجربة محمد السعيد عفيفي والمسرح البلدي بالجديدة، تجربة نفس المبدع في فرقة مسرح مناجم جرادة…) ؟
> أنت مصيب حين تشير إلى وسائل ذاتية هامة كانت تعتمدها بعض الفرق التي بإمكانها أن تخلق الجمهور “الزبون”. فبالإضافة إلى التجارب التي أشرت إليها يمكن أن نشير إلى الجهد الذي كان يقوم به مسرح اليوم حيث تمكن من أن يؤسس حوله شبكة تواظب على مشاهدة عروضه مكونة من صحافيين وكتاب وفنانين وأسر ورجال السياسة… هذه الإشارات تفيد بأن المعضلة التي اعتبرتها موضوعية يمكن للمسرحيين أن يسعوا إلى التغلب عليها بمبادرات ذاتية. بقيت إشارتك لافتقادنا اليوم لمساهمة وسائل الإعلام المرئي والمسموع في التعريف بالعروض المسرحية كما كان يتم ذلك في السبعينيات والثمانينيات. ولا أجد سببا معقولا يفسر اليوم غياب هذه المساهمة.

 

النقد والإبداع: المعادلة الصعبة

< بدأنا الحوار بإثارة العلاقة بين الإبداع والنقد المسرحي. ونعود إلى الموضوع هنا ضمن مستوى آخر: أن نتساءل عن وضع هذا النقد في الشروط الراهنة.
> من المعروف أن نقد المسرح هو غير نقد باقي الأجناس الأدبية على اعتبار الطابع العابر للإنتاج المسرحي الذي يُقدم مرة واحدة، وحين يقدم ثانية لا يكون العرض هو ذاته. أمر ثان يعقد مسؤولية الناقد بعد تجدد المعارف المحيطة بهذا الإنتاج، وبعد تدخل الوسائط التكنولوجية الحديثة التي تتطلب مقاربة جديدة تتجاوز مع هو أدبي صرف.
 في مقال لي صدر بـ “ظلال النص” قبل ثلاثة عقود كنت قد أشرت إلى أن النقد المسرحي عليه أن يقتحم أفقين جديدين (كما كنت أتصور آنذاك): الأفق السيميولوجي والأفق السوسيولوجي. اليوم تعددت الآفاق مع تعدد المناهج النقدية والعلوم الإنسانية ومقتضيات التعاطي التكنولوجي. ولذلك تعددت مسؤولية الناقد. وللأسباب ذاتها قل تعاطي النقد مع الإنتاج المسرحي. حتى ما كان يسمى “النقد” الصحفي يكاد يكون قد اختفى اليوم مع أنه كان يقوم بأدوار مهمة في التعريف بهذا الإنتاج، وبتقديم قراءات أولى تسمح للمتلقي بتكوين فكرة أولى عن الأعمال المسرحية. ربما لهذا السبب نبه المسرحي محمد قاوتي، في إحدى المناسبات، إلى وجود مفارقة بهذا الخصوص حيث لاحظ أننا في عقدي الستينيات والسبعينيات كنا نلاحظ غزارة في الإنتاج “النقدي” مقابل ندرة في الإنتاج الإبداعي، مع العلم أن النقد المسرحي في تلك المرحلة كان منخرطا ضمن التدافع الإيديولوجي الذي كان يعبر عن الصراع بين مشروعين ثقافيين في المجتمع المغربي: مشروع تحديث الثقافة والمجتمع ومشروع مناهض لذلك. أما اليوم فقد ندر النقد أمام غزارة الإبداع. 
مع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن هذا التوصيف ليس خاصا بالمغرب، إذ ينسحب كذلك على المستوى العربي والفرنسي. حيث صار الميل، هنا وهناك، إما باتجاه الأبحاث الجامعية المهتمة بتطورات السؤال النقدي نظريا، أو بتناول الظواهر المسرحية بشكل عام.
مجمل القول إننا إزاء حالة قائمة يصبح فيها الحنين إلى “النقد الصحفي” أمرا مشروعا في انتظار أن تسوى العلاقة مسرحيا بين النقد والإبداع.

< ألاحظ، بهذا الخصوص، أن هناك تقصيرا ما أدى إلى الوضع الذي أشرت إليه، ولكن المفارقة الغريبة بالاستناد إلى تأكيدك تأتي اليوم من كون الجامعات أصبحت تنتج عارفين ببعض قواعد قراءة العرض المسرحي إذا ما تتبعنا الأبحاث التي تقدم في الجامعات في موضوع المسرح، لكن ذلك لا يتفاعل مع الإبداع المسرحي الراهن. كيف نفسر هذه المفارقة؟
> هناك بالفعل هذه الحلقة الضائعة بين ما ينجز داخل الكليات والمنجز المسرحي على الخشبات. ويمكن لأصدقائنا المشرفين على الدرس الجامعي اليوم أن يستعيدوا هذه الحلقة بتوجيه طلبتهم نحو الاشتغال تطبيقيا على العروض التي تتم بالمهرجانات الوطنية، أو على تلك التي تشهدها بعض المدن من حين ﻵخر. آنذاك سيكون البحث الجامعي يختبر المعرفة النظرية، ويطورها على ضوء الممارسة.

 

المسرح في زمن الطوارىء

< على سبيل الختم، وعلى ضوء ظرفنا الراهن أسألك:
نعيش، منذ مارس 2020، فترة الحجر الصحي التي يتغير إيقاعها من حين لآخر. كيف تعيش الحجر؟ وما نوع القراءات والمشاهدات التي تقدم عليها في هذا الظرف الاستثنائي؟
> عشتها، في البداية أي خلال مرحلة الحجر الكامل، كما يعيش المرء كل حجز احتياطي لا يسلبك فقط حرية التنقل الحر. بل ويشملك بمشاعر الذهول إزاء ارتباك وعجز البشرية عن مواجهة المجهول. وحين رفع الحجر الكامل نسبيا صار التحرك وسط الأمكنة والناس أشبه بالتحرك على أرض ملغمة: حذر وارتياب وتباعد وحظر… أما في البيت فكان علي أن أتكيف مع المرحلتين حيث شرعت في مراجعة أوراقي القديمة، واستئناف النظر في مشاريعي المعلقة. في هذا الإطار هيأت كتاب أسفاري للنشر، وكتابا آخر حول المسرح يشمل قراءات ودراسات غير منشورة. ثم عكفت، بشكل خاص، على مشاهدة المسرحيات على منصات اليوتوب. لقد عشت بهذا الخصوص تجربة فريدة حين وجدتني في الشهر الأول من الحجز محبوسا في غرفة مغلقة تماما كما هو حال بعض شخصيات ألبير كامو ويوجين يونيسكو وأرتور أداموف…

< وأنت تتابع تلك المسرحيات. هل يمكن القول إن الوسائط (اليوتوب وغيره) قادرة على تعويض متعة اللقاء الحي داخل المسرح؟ أم أن المفروض فيها أن تعطي حياة أخرى للمسرحيات؟ 
> أعتبر أن مثل هذا الموضوع ينبغي أن يحاط بنوع من تنسيب الأفكار، ذلك أن القول بأن المسرح هو الخشبة واللقاء الحي مع الجمهور فذلك من باب تحصيل الحاصل.
السؤال بالنسبة إلي الآن:
ماذا لو تعذر ذلك اللقاء الحي مثل ما يحدث لنا اليوم في ظل الجائحة؟ أو مع حالات الاستثناء السياسي كما في الأزمنة الديكتاتورية، أو مع الاستثناء الاجتماعي كما في مرحلة الإضرابات المناهضة لقانون التقاعد في فرنسا التي حرمتني شخصيا من مشاهدة مسرحية “حياة غاليلي” على خشبة “لاكوميدي فرانسيز” في دجنبر2019؟ هل نقف على الأطلال للبكاء؟ أم نبحث عن المتعة عبر المسرح المنقول على الأنترنيت؟
ما أريد ان أذهب إليه حين تحدثت عن ضرورة اعتماد التنسيب هو الوعي بأن أشكال التعبير الثقافي من المحتمل أن تتعرض إلى الانحسار، أو التغير مع التطورات التكنولوجية فتتحول نحو أشكال تعبير أخرى. لقد كانت الحلقة في زمن سابق مثلا هي الفرجة الحقيقية حيث اللقاء الطبيعي مع الجمهور. ولقد صارت السينما اليوم مهددة بمنصات بديلة تسوق للسينما في البيت، أو لنقل تحديدا للسينما عبر الحاسوب والهاتف المحمول. ثم إننا حين نعرف المسرح بأنه اللقاء الحي مع الجمهور نتصور، في وضعنا المغربي والعربي، كما لو أننا شعب يحيا بالهواء المنبعث من الخشبات، بما يعني أن المسرح هو سلوك حضاري مترسخ في تقليدنا اليومي.
مجمل رأيي أن علينا، في الوضع الحالي، أن نستمتع بالمسرح في الأيام العادية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نتهيأ لأوضاع الاستثناء والطوارىء عبر الاشتغال على إمكانية ترويج الأعمال بشكل منقول على الشاشات والمنصات. أي علينا، وكما كتبت في سياق مشابه، “أن نتمرن على قبول واقع جديد: الحاجة بالفعل إلى تدخل الوساطات التكنولوجية الجديدة لإنقاذ الفرجات الحية على المسارح حتى لا تظل مشاهداتنا المسرحية معلقة، وموقوفة التنفيذ مع سبق الإصرار دائما، والحاجة كذلك إلى أن نتكيف مع التقنيات الجديدة (…) من شأن هذا الحل السماح لنا بأن نواصل الاستمتاع بالمسرح، وفي نفس الوقت نحفظه موثقا كذاكرة للمستقبل. ومن ثم سيكون على صناع الفرجات اليوم استحضار هذا البعد، والاشتغال عليه لنهزم لاحقا فكرة الطابع العابر للمسرح. آنذاك لن نخسر شيئا، وإلا سنكون في حالة النكران كمن لا يزال يفكر في التواصل مع أهله بطابع بريدي، وبرسالة لا تطمع أكثر من “النظر في الوجه العزيز”.

Related posts

Top