يتوزع النص المسرحي “منطق السقائين” لمؤلفه المسكيني الصغير على أربعة مشاهد أو لوحات كما تم التنصيص عليها في النص. وتدور أحداثه حول الصراع مع النظام الذي يمارس شططه في استعمال السلطة، غير أن نقطة ضعف هذا النظام تكمن في خوفه من القوة التي يمتلكها العلماء والحكماء أو شهود العصر، والمتمثلة في سلطة المعرفة.
يتم في هذا الصدد استحضار شخصية من التاريخ وهي فريد الدين العطار باعتبارها تمثل سلطة المعرفة في مواجهة الحاكم الذي يسيء استعمال السلطة ويصر على الاستحواذ على خيرات البلاد ويحاول بكل الطرق الاستمرار في نهجه، غير أنه يصطدم بشخصية فريد الدين العطار الذي سبق له أن ألف كتابا بعنوان “منطق الطير”، وبالتالي يخشى الحاكم أن يؤلف عنه كتابا يفضحه ويجعله عبرة للتاريخ باعتباره كان ظالما وغير عادل في زمنه.
ولأجل أن يصده عن ذلك، يحاول أن يغريه بالهدايا والكلام المعسول، لكن فريد الدين يظل متشبثا بمبدإه منحازا إلى صفوف المظلومين إلى أن ينالوا حقهم في حياة كريمة، إيمانا منه بأن الاحتفاء الذي حظي به من طرف الحاكم بني على باطل، وما بني على باطل فهو باطل.
تدور وقائع المشهد الاول من المسرحية في باب المدينة حيث تظهر فوق مدخله رؤوس طيور ترسل زقزقات إلى جانب همهمات غير مفهومة، وفي هذا إشارة رمزية إلى أن الوضع ملتبس. هناك سيلتقي السقاء بفريد الدين العطار حيث سيخبره بأن الحاكم منعهم من السقي من البئر، وبأنه يعاقب كل من يريد أن يصل إليه.
طبعا، فريد الدين الذي كان دائما ينشد المنطق وسبق له أن ألف كتابا حول هذا الموضوع، لم يقبل بمنطق الحاكم، وأصر على أن يكافح من أجل أن يسترجع الناس أبسط حقوقهم وهو الحق في ري عطشهم.
جاء الاحتجاج على لسانه: “ما أسمعه وأراه كفر وزندقة هذه سفينة يقودها القراصنة، ليس لهم مرفأ في الأرض، مهددة بالغرق. إني أخجل، كيف لحاكم يسمح لنفسه سرقة ماء الله، من حق الشعب..”.
المشهد الثاني من المسرحية، عبارة عن فضاء زنزانة في سجن حاكم المدينة، حيث تم الزج بالعالم فريد الدين العطار في السجن، لكن بالنظر إلى ما يمثله هذا من سلطة المعرفة، يضطر الحاكم إلى إعطاء أوامره للحراس لإطلاق سراحه والاعتذار له عن ما ارتكب في حقه. كل ذلك من أجل دفعه إلى التواطؤ مع السلطة الحاكمة وإن كانت ظالمة.
يرد على ذلك حريصا على التمسك بمبادئه:
“لكنكم تناسيتم اليوم منطق السقائين بعيون دامعة وقلوب مكلومة، تناسيتم وتماديتم في اغتيال الحق”.
لقد كان فطنا، فلم يأبه بكل الإغراءات التي عرضت عليه، لأن ما يهمه هو أن يستعيد الناس كرامتهم، ولهذا كان أول شيء عقب به هو السؤال عن السقاء باعتباره يمثل نموذجا للناس البسطاء الذين هضمت حقوقهم.
تدور وقائع المشهد الثالث في إحدى الغرف حيث يوجد السقاء مربوطا إلى عمود وحوله رجال السلطة يحاولون أن ينتزعون منه اعترافات مزيفة، من خلال دفعه إلى ادعاء أن ما أخبر به العالم فريد الدين العطار مجرد كذب وأن الحاكم لم يحرمهم من السقي من البئر الوحيدة باعتبار أن هذا من ابسط حقوقهم.
سيحاولون إغراءه بإخلاء سبيله بشرط الاعتراف بذلك.
غير أن السقاء يصمد أمام إغراءاتهم هو الآخر ويرفض أوامرهم الباطلة.
“يا للعار، أأكذب عن شيخ الأمة، إني أهين عقل رجل حكيم، لم يخن نفسه يوما وقد أهدى لكل الناس ولكم بلسم الخلاص من مكر أنفسكم، لا لا إنكم تدفعونني إلى اغتياله بسكين صدئة من أجل إنقاذكم من الفضيحة”.
يحضر بعد ذلك القاضي ليفصل في محاكمة السقاء بتهمة التمرد على النظام.
وسيتم إغراء القاضي بدوره بالمناصب العليا والهدايا لأجل إصدار الحكم الذي يرضي النظام وإن كان هذا الحكم باطلا. غير أن القاضي وهو في حالة صحو، يستيقظ لديه الضمير ويمنعه من الانسياق للأوامر وبالتالي التشبث بالحكم العادل المنصف.
فجاء قوله حاسما: “إني أخون نفسي قبل أن أخون العدالة يا سادة، أرى بنودها أفاعي تتلوى أمامي، تنتظر الانقضاض على كل من ينطقها، أنا أول المغتالين، لا.. لا.. أيها الخادم أغلق الكتاب..”.
يدور المشهد الأخير من المسرحية في فضاء خارج المدينة، حيث نجد فريد الدين العطار قد ألف كتابه الجديد “منطق السقائين” الذي يفضح فيه ظلم الحكام، وبرفقته السقاء الذي كان ملهمه في تأليف هذا الكتاب.
لقد تحقق النصر لديهما واستطاعا بصمودهما أن ينتزعا الحق في العيش الكريم، رغم ما عرض عليهما من إغراءات لأجل التواطؤ مع الحاكم الظالم.
لقد زهد العالم في المناصب والهدايا التي أراد الحاكم أن يتصدق بها عليه، أكثر من ذلك قرر أن يعيش حياة الناس البسطاء، من خلال امتهانه لحرفة السقاء، تأكيدا منه على أن أهم شيء في الحياة هو أن يتشبث الإنسان بالمبدأ الحق الذي يؤمن به.
إن العبرة التي نخرج بها من هذا العمل المسرحي المكتوب بلغة فصيحة، هي أن شمس الحقيقة لا يمكن إخفاؤها بواسطة الغربال، وبأن المعرفة إذا اتحدت والتحمت مع جرأة الصدق والنزاهة، لا يمكن إلا أن تعطي ثمارا طيبة، ومن هذه الثمار طبعا: العيش الكريم.
> عبد العالي بركات