في كتابهما “انهيار المدنية الغربية”، يرسم مؤرخا العلوم ناومي أورسكس وإيريك كونواي صورة مستقبلية قاتمة لضعف الحكومات في مواجهة مشكلة تغير المناخ، مما يؤدي إلى حصول الانهيار العظيم سنة 2093. ويتوقع الكاتبان فشل محاولات الإصلاح البيئي التي لم تستطع إيقاف تسلسل الأحداث، حيث لم تتحول المعرفة إلى قوة مؤثرة رغم إدراك الجميع لما يحصل.
ويعرض الأكاديميان الأميركيان قراءتهما لما سيحدث مستقبلا، فيجعلان 2023 سنة “الصيف السرمدي”، الذي سيودي بحياة 500 ألف شخص حول العالم. ويتوقعان أنه في سنة 2040 سيصبح الجفاف وموجات الحرّ أمرا اعتياديا في كل مكان، وتتبعها في السنة التالية موجة حر أقوى تقضي على المحاصيل وتؤدي إلى هجرات واسعة واضطرابات نتيجة نقص الغذاء.
كتاب أورسكسوكونواي، الذي صدر سنة 2014، يصنف ضمن كتب الخيال العلمي، وإن استند إلى المعطيات العلمية المتاحة في حينه. وخلال السنوات التي تلت صدور الكتاب، تابعت درجات حرارة الكوكب صعودها محققة أرقاما قياسيةغير مسبوقة. فالسنوات من 2014 إلى 2020 هي الأعلى حرارة منذ البدء بتسجيل درجات الحرارة قبل 142 عاما. وتتوقع الوكالة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي أن يقارب متوسط حرارة سنة 2021 ما هو مسجّل في السنوات القليلة التي سبقتها.
ثغرة في توقع المستقبل
شهِد صيف 2021 موجات حر وفيضانات وحرائق واسعة في أكثر من مكان، حيث أظهرت الكوارث الأخيرة أن تأثيرات المناخ يمكن أن تضرب من دون اعتبار للحدود الوطنية ومستوى الدخل والنفوذ السياسي. في الولايات المتحدة، اختنق الغرب الأوسط بدخان حرائق الغابات التي اندلعت على بعد مئات الكيلومترات في كندا. كما عانت ألمانيا من أضرار بمليارات الدولارات من فيضانات يوليوز التي أودت بحياة العشرات.
اللافت أن النماذج المناخية للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ فشلت في توقُّع شدّة الفيضانات في ألمانيا وقساوة موجة الحر في شمال أميركا. ويتعذر حتى الآن تقدير ما إذا كانت مناطق مثل ألمانيا أو شمال أميركا ستواجه ظروفا مماثلة كل 20 سنة أو كل 10 سنوات أو حتى سنويا. وغالبا ما تميل تقارير الهيئة إلى التحفظ والبحث عن التوافق بين أغلب الآراء التي تتجاذبها السياسات، ولذلك تخضع السيناريوهات الأكثر تطرفا للتهميش.
ويبدو أن الوقائع ستفرض نفسها في النهاية، حيث يشير تقرير الهيئة، الذي صدر في أغسطس الجاري، إلى أن التأثير البشري على الظواهر المناخية المتطرفة “تعزز” منذ آخر مراجعة قامت بها الهيئة سنة 2014، خاصة ما يتعلق بموجات الحرّ والأمطار الغزيرة والجفاف والأعاصير.
ويسلط التقرير الضوء أيضا على زيادة محتملة في الأحداث المتطرفة المركبة، عندما تتسبب كارثة مناخية بكارثة أخرى وتزيد من حدّتها. وكمثال على ذلك، يبرز ما حدث مؤخرا عندما سجّلت قرية ليتون في مقاطعة “بريتش كولومبيا” رقماقياسيا لدرجات الحرارة في كندا عند 49.5 درجة مئوية، ثم تبعتها في اليوم التالي حرائق غابات مدمرة.
وينوه التقرير إلى أن العلماء تجنبوا في السابق تعليل أحداث الطقس الفردية بتغير المناخ، فيما زادت الثقة الآن للربط بين المعطيات وقياس تأثير ارتفاع درجات الحرارة. ويظهر ذلك جليا بعد الموجة الحارة في شمال غرب المحيط الهادئ وكندا في أواخر يونيو الماضي، إذ وجدت مجموعة من العلماء أن تغير المناخ الذي يسببه الإنسان زاد من فرصة حصول هذه الموجة 150 مرة على الأقل.
ويذكر التقرير على نحو قاطع، لأول مرة في سلسلة تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ، أنه لا يوجد شك علمي متبقٍ بان البشر “يغذون” تغير المناخ، فهذا الأمر “لا لبس فيه”. ويقول مؤلفو التقرير إن عدم اليقين الوحيد المتبقي هو ما إذا كان العالم قادرا على حشد القدرات لدرء مستقبل أكثر قتامة من المستقبل الذي فرضناه على أنفسنا.
ويشير التقرير إلى أن ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي ارتفع إلى مستويات لم يشهدها الكوكب منذ مليوني سنة، وأخذت المحيطات تتحول إلى حمضية، واستمرت مستويات البحر في الارتفاع، وتابع الجليد في القطب الشمالي ذوبانه، وازدادت الكوارث المرتبطة بالطقس حدة وأصبحت تؤثر على مناطق واسعة في جميع أنحاء العالم.
ويستند التقرير، الذي أعدّه 234 مؤلفا، بمشاركة آلاف الباحثين، إلى أكثر من 14 ألف دراسة بالإضافة إلى مجموعة من بيانات الرصد الجديدة من الأقمار الاصطناعية ومحطات الطقس، التي أعطت العلماء مزيداً من التفاصيل غير المسبوقة حول ما يحدث على كوكب الأرض.
استشراف الظواهر المتطرفة
بعيدا عن حالة اليقين التي يتضمنها التقرير، يزداد القلق من قدرة العلماء على تقدير عواقب تغير المناخ. ويقول زيك هاوسفاثر، مدير المناخ والطاقة في معهد بريكثرو والمساهم في إعداد التقرير: “إن احتمالات المجهول أصبحت كبيرة على نحو متزايد. ليست لدينا أية حالات مرجعية للمقارنة في آخر مليوني سنة أو نحو ذلك. وهذا يجعل التنبؤ بما سيحدث لأنظمة الأرض أمراً صعباً للغاية”.
ويستدرك التقرير هذه الفجوة، فيحذر من أنه في المستويات الأعلى من الاحترار تزداد صعوبة التنبؤ بكيفية استجابة الكوكب، لأن نماذج الكمبيوتر المتطورة تصبح غير مؤكدة، ولا يمكن للعلماء البحث بسهولة عن أدلة في الماضي، لأنه لا يوجد وقت مسجل في تاريخ البشرية كان فيه تغير المناخ شديدا للغاية ويحصل بسرعة كبيرة مشابهة لما نشهده اليوم. كما أن الاحترار الذي يتجاوز عتبة الدرجتين المئويتين فوق مستويات ما قبل النهضة الصناعية يحمل أيضاً مخاطر كامنة تتسبب في تسارع تغيُّر المناخ ويصعب تحديد أبعادها.
مع ارتفاع درجات الحرارة، سيتابع الجليد الدائم في القطب الشمالي ذوبانه، مما قد يؤدي إلى إطلاق الكربون الذي ظل محتجزاً في حالة تجمد عميق لآلاف السنين. ويمكن أن يشق الميثان المحاصر في أعماق البحار طريقه إلى الغلاف الجوي، كما يمكن أن تحوّل حرائق الغابات ملايين الفدادين من الغابات الغنية بالكربون إلى مصدر إضافي لغازات الدفيئة. ومن المتوقع أن تستمر نوعية الهواء في العديد من الأماكن بالتدهور.
لقد باتت قدرة النماذج المناخية على التنبؤ بالظواهر المتطرفة موضع تساؤل، بعد حوادث الطقس الشديدة التي اجتاحت العالم خلال السنوات القليلة الماضية. وكانت دراسة أجراها باحثون من المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زوريخ، على نماذج حاسوبية لمحاكاة موجة الحر التي شهدتها أميركا الشمالية وأوروبا مؤخرا، خلُصت إلى أن احتمالية حدوث مثل هذه الظواهر القياسية ترجع إلى حد كبير للسرعة التي ترتفع بها درجة حرارة الأرض، وليس فقط إلى درجة الحرارة ذاتها.
وقد أبدى غيرت جان فان أولدنبورغ، الباحث في المعهد الملكي للأرصاد الجوية الذي نجح في ربط موجة الحر الأخيرة في أميركا الشمالية بتغير المناخ، قلقه من أن بعض النماذج المناخية أشارت إلى استحالة ارتفاع درجات الحرارة إلى الأرقام القياسية التي شهدتها المنطقة. وينوه بيتر ستوت، من مكتب الأرصاد الجوية في بريطانيا، بأن النماذج المناخية الأقدم لم تتوقع شدّة بعض الظواهر المناخية الإقليمية المتطرفة كتلك التي سُجّلت مؤخراً في كندا.
ويتفق العلماء على أن الوصول إلى مستويات أعلى من الدقة في بعض النماذج المناخية يستلزم حوسبة متقدمة للغاية. ولن يساعد تحسن القدرة على معالجة المعطيات في رصد الظواهر المناخية المتطرفة فقط، بل سيساهم أيضا في تقديم توقعات مناخية ممتدة على سنوات طويلة. ويدعو بعض العلماء إلى تحالف دولي، يماثل منظمة “سيرن” لفيزياء الجسيمات، على أن يكون خاصا بتغير المناخ، ويقوم على مشروع حوسبة عملاق يمكن تشغيله بنحو 200 مليون يورو سنويا.
إن تحسين النماذج المناخية أمر حيوي للتكيف مع تغير المناخ وإبلاغ أنظمة الإنذار المبكر لتجنب الوفيات. ولكن النماذج المناخية الدقيقة لا تكفي وحدها لتحويل المعرفة إلى قوة تغيير مؤثرة في مجتمعات يصعب عليها تخيل أشياء لم تحصل بعد. وأيا تكن إخفاقات الماضي أو احتمالات المستقبل، يعتبر كل إجراء لإبطاء وتيرة الانبعاثات الكربونية فرصة لمزيد من الوقت للتكيف مع التغيرات الآتية، كما أن كل درجة من درجات الاحترار يتجنبها البشر تساهم في وقف كوارث يجب ألا تحدث.