ضرورة إعمال الاجتهاد الفكري لتقييم العدالة الانتقالية ومعالجة البطء الشديد في وضع السياسات وفي إخراج القوانين

جدد عبد الحي المودن، العضو السابق بهيئة الإنصاف والمصالحة، التأكيد خلال الندوة التي تمحورت حول موضوع “من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة إلى الدستور” المنظمة من طرف المجلس الوطني لحقوق الإنسان في إطار فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالرباط، والذي أسدل الستار على دورته 29 يوم الأحد الماضي، على سمات مفهوم العدالة الانتقالية الذي اختاره المغرب وجل الدول التي عرفت هذه التجربة، والتي أبرزها تجنب المساءلة التي تعد عنصرا أساسيا ضمن العدالة التقليدية، مما مكن إفلات المسؤولين من العقاب عن الانتهاكات التي مورست خلال فترات السلطوية.
وحرص المودن الذي اشتغل داخل تجربة العدالة الانتقالية، بخلفيته الأكاديمية باعتبار أنه زاول مهمة تدريس العلوم السياسية بكلية الحقوق بالرباط، خلال مداخلته على تقديم تأطير لمفهوم العدالة الانتقالية ولمفهوم الحقيقة، كمفهومين جديدين، لم يظهرا إلى سنة 1999، والسياق الذي تحكم في هذا الظهور، والأسئلة التي أحاطت بانطلاق المسار بل والصعوبات والمنزلقات وحتى المقاومات التي واجهت تجربة البناء الديمقراطي”.
وأورد في هذا الصدد، في توضحيه لمفهوم العدالة الانتقالية وانطلاقها، ” أن الأمر كان يتعلق بمحاولة لإيجاد مخرج لأزمة عرفتها الأنظمة السياسية التي شهدت الانتقال من الأنظمة السلطوية إلى الأنظمة الديمقراطية، بالخصوص في أمريكا اللاتينية وتحديدا بالأرجنتين، والتي سعت بعد هذا الانتقال إلى تطبيق العدالة العقابية، على المسؤولين عن هذه الانتهاكات”.
ونبه المودن في باب الصعوبات التي واجهها المسار، وذلك حينما سعت تلك التجارب بعد الانتقال إلى تطبيق العدالة العقابية على المسؤولين عن الانتهاكات، حيث واجه الأمر مقاومة شرسة من هؤلاء المسؤولين الذين كانوا لايزالون يحتلون المناصب في النظام ما بعد السلطوي، وكانت هذه الوضعية تهدد مصير المسار الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، وبالأخص في الأرجنتين.
وأوضح أنه في تجربة الأرجنيتن سعى السياسيون بمساهمة مفكرين في إيجاد مخرج من هذه الوضعية، حيث برزت نقاشات توزعت بين خيارات إمكانية تأجيل أو التضحية حتى بالعدالة العقابية من أجل تسهيل عملية الانتقال الديمقراطي، أو تسهيل هذا الانتقال عن طريق تأجيل محاكمة هؤلاء المسؤولين، مشيرا أنه في إطار تيسير هذه الصيرورة كانت أحيانا تصدر قرارات بالعفو عن الجرائم التي ارتبكوها.
ولفت إلى أن هذه الوضعية طرحت حتى بالنسبة للتجربة الرائدة الأخرى للعدالة الانتقالية والتي تتعلق بتجربة إفريقيا الجنوبية، التي عمل فيها الساسة والمفكرون والمنظرون على إعطاء الأولوية لتجنب الحرب الأهلية في ظل نظام الأبارتايد وتسهيل الانتقال إلى نظام يؤمن بالمساواة بين الأعراق، عبر تغليب كفة تأجيل أو تهميش محاسبة المسؤولين طيلة تاريخ النظام العنصري.
وأشار المودن إلى أن المغرب بدوره واجه هذه المفاهيم، في نهاية التسعينات عندما بدأ مشروع البحث عن كيفية التعامل أو فتح ملف الانتهاكات الجسيمة التي شهدتها البلاد، حيث طرحت مسألة كيفية التعامل مع هذا الإرث و إيجاد جواب عن كيف يمكن للفاعلين السياسيين أن يتعاملوا معه عن طريق مواجهته وفتح ملفه وإيجاد أجوبة للضحايا وفي نفس الوقت عن كيفية إقرار عدالة انتقالية أي عدالة مختلفة عن العدالة العقابية، و”هذه العدالة الانتقالية التي كانت من أهم محاورها البحث عن الحقيقة وطرح الحقيقة “.
وفيما يخص العدالة الانتقالية وعلاقتها بالديمقراطية، اعتبر المودن أن تجربة العدالة الانتقالية لم تكن إلا عامل من العوامل التي تساهم في عملية الانتقال من الأنظمة السلطوية إلى الأنظمة الديمقراطية، مشيرا بذلك إلى أن موضوع العلاقة كان مبالغ فيه، بالنظر لكونه جاء في سياق هيمنة موضوع الانتقال الديمقراطي الذي كان سائدا، حيث كان في ظل ظهور ما يسمى ب ” الموجة الثالثة التي كانت تعني الانتقال السلس غير العنيف من الأنظمة السلطوية إلى الأنظمة الديمقراطية.
وقال العضو السابق في هيئة الإنصاف والمصالحة، ” إن هذه النظرة إلى الانتقال الديمقراطي ظهر على أنها نظرة مبالغ فيها وأن الانتقال ليس جاري في جميع الأنظمة وأن التوجه نحو الديمقراطية ليس مسارا موحدا تعرفه جميع الدول بل إننا نشاهد منذ العشر سنوات الأخيرة أن هناك تراجعا حتى في قلب الديمقراطيات التقليدية التي تعرف مشاكل مرتبطة بالتجارب الديمقراطية فيها “.
وحرص المودن على التوجه للمستقبل، والتأكيد على أن التفكير في هذه القضايا يحتاج إلى تجديد مستمر ويحتاج إلى البحث عن مشارب ومصادر مختلفة للبحث عن أجوبة وليس تكرار الأجوبة التي صيغت في فترات سابقة، بما يعني إعمال الاجتهاد الفكري والنظرة النقذية للتراث الذي يدرس والبحث عن مخارج جديدة اعتمادا على الاجتهادات والمؤهلات الشخصية “.
ومن جانبه، اعتبر كمال الهشومي، أستاذ العلوم السياسية وحقوق الإنسان بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال بالرباط، في تـقييم مستوى ومضمون الدستور وإن كان فعلا قد عكس كل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، أن دستور 2011، مثن متقدم جدا على مستوى الصياغة والحمولة والعمق.
لكن على مستوى التطبيق، ووفق ما أبان عنه الواقع الملموس يوجد بطء شديد في وضع السياسات وفي إخراج القوانين وفي مراجعة أساليب العمل، وذلك على مستوى السلط الثلاث فيما يهم أجرأة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.
وحذر الهشومي، من المقاومات التي يواجهها المسار الديمقراطي والتغيير، قائلا” المناعة المكتسبة التي يسعى إليها، الاتجاه الثالث، فإنه كلما كانت هناك قوانين لضبط المسار الديمقراطي وللتغيير كلما تم تشكيل مضادات أجسام لهذا التغيير التي تظل هي المتحكم في الأمر”.

< فنن العفاني

Top