يواصل المبدع أحمد بلقاسم ممارسة عشقه المتمثل في كتابة القصة القصيرة لا يبغي عنها حولا، ولا يقبل عنها ضرة ولا شريكة له تصرفه عن اهتمامه أو تضايقه فيه أو تسرق منه هذا الاهتمام، وذلك بإصدار جديد يحمل عنوان “صخب يمزق سكون الليل” والصادر في طبعته الأولى سنة 2023 عن دار الولاء لصناعة النشر، وبتقديم معبر بقلم ميلود لقاح.
أغلبية قصص المجموعة مستوحاة من الجائحة العالمية التي فرضت قيودها علينا فثبتتنا في أمكنتنا وألزمتنا بيوتاتنا لا نغادرها إلا لغرض ما وبعد الحصول على إذن؛ فكانت، بذلك، جائحة ذات سلطان لا يمكن كسر شوكته، أو الانتفاض ضد هيمنته. يقول لقاح في تقديمه:
إنه ظهور فيروس كورونا أو كوفيد 19 الذي أرعب البشرية بمضاعفاته الخطيرة التي أودت بحياة عدد هائل من الناس، قد خصص له القاص سبع عشرة قصة يتناول فيها كل التفاصيل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المستجدة مع هذا الوباء المستجد الذي حير العلماء والأطباء والمسؤولين، وأرعب الناس العاديين ولم يفرق بين غني وفقير أو كبير وصغير، أو رجل وامرأة؛ إنه الوباء الذي شغل سكان الكرة الأرضية فكيف لا يثير اهتمام المبدع الذي يفترض فيه أن يكون شاهدا على عصره بقلمه المبدع الذي يستقصي الوقائع والتغيرات الطارئة على المجتمع في ظل الجائحة.
واللافت للانتباه أن المبدع قد اعتمد بشكل قوي على الحوار في بسط أفكاره، وتقديم رؤيته للحدث العام وما ترتب عنه من أحداث صغرى منوعة وتصرفات خاصة بكل شخصية على حدة.
والقارئ للعمل سيتأكد من براعة أحمد بلقاسم في توظيف هذه التقنية، واستخدامها في مواقف محددة لتعرية الواقع، ونقد الشخصيات وما تتحلى به من صفات، وما تقوم به من تصرفات في ظل هذه الأزمة العالمية.
وقبل أن نحلل بعض القصص لا بد من تعريف الحوار، فما هو؟
یعـد الحوار أحد الآلیات التي تعتمدها القصة فـي بناء تشـكیلها الســردي بجانب آلیة السرد والوصف، وله تأثیر بالغ الأهمیة في البناء العـام للقصـة على مستویات كثیرة، ومن هنا تتأكد العلاقة الدرامیة السردیة لآلیة الحوار فــي العمــل الســردي القصصــي، إذ یظــلّ ذا حمولــة درامیــة دائمــا حتــى وإن اشتغل في أي حقل من حقول السرد المعروفة، وبالنظر لأهمیة الحـوار فـي الســـرد كونـــه یحقـــق وظـــائف عدیـــدة، منهـــا تصـــویر الشخصـــیة وتطـــویر الأحــداث وتقــدیم الجــو أو الحالــة، فقد شغله المبدع بفطنة ودهاء فكان مليئا بالتلميحات والإيحاءات.
وبناء عليه، فإن الحوار مهم في القصة القصیرة. ونظرا لقلة المساحة الزمنیة التي تشغلها فإنه یعد وسیلة من وسائل السرد إذ یستعین السارد بالحوار عندما یجد نفسه عاجزاً عن أداء دور واقعي تمثیلي على نحو تفصيلي دقيق. وهو من الأساليب التي يتقمصها السارد للتعبير عن واقعية الأحداث.
وهكذا، يكون الحوار بمثابة رئة القصة الثانية التي تتنفس من خلالها هواء جديدا.
الروح المرحة واللغة الأنيقة والسخرية الهادفة في قصص أحمد بلقاسم
إن القاص أحمد بلقاسم، على غير قصصه السابقة، يدخل تجربة جديدة تتسم بكثير من التحدي الذي يتجلى في تحويل ِ(ظرف مستجـد معقد) إلى مادة إبداعية يخصص لها عددا مهما من القصص بروح مرحة ولغة أنيقة، وسخرية هادفة. وتتجلى هذه الروح المرحة واللغة الأنيقة والسخرية الهادفة في الحوار الذي يشكل مهيمنة المجموعة نظرا لكونه يخترقها جميعها، دون أن يعني هذا خلو باقي المكونات من ذلك.
ففي قصة “عجلة تحتاج إلى أنبوبة أكسيجين” نلمس روح الدعابة إلى جانب السخرية المرة كل ذلك بلغة بسيطة ومعبرة فضلا عن براعة تشغيل الحوار.
غلاف المجموعة القصصية “صخب يمزق سكون الليل” للقاص أحمد بلقاسم
فقد تعمد السارد جعل أحد المحاورين يتحدث مع الطرف الثاني عن كثرة الفيديوهات التي يرسلها له وذلك بغرض عرض مجموعة من ردود الأفعال تجاه الجائحة وكيفية التعامل معها، حيث نجد المرأة التي تؤكد أن الفيروس مذكور في القرآن، والثانية التي وجدت مصله في البيصارة كعلاج للفيروس، ليصل إلى قضية نزع أنابيب الأكسيجين من المسنين في دولة إيطاليا، هذا الفعل الذي سارت به مراكب المواقع الاجتماعية في كل اتجاه وخلفت ردود أفعال متباينة بين الرافضة والمؤيدة، كما جاء في حوار الصديقين:
– إنه الفيديو الذي برزت فيه امرأة شقراء اللون أندلسية البيان عسلية العينين.
– آه تذكرت لقد شاهدته، فما العجب؟
– ألم تسمع أنها قالت: إن الأطباء هناك ينزعون أنبوب الأكسيجين من المسنين ليستفيد منه الشباب! – إجراء طبيعي. –
– عجيب أمرك يا رجل، أترى تصرفا لا إنسانيا كهذا أمرا طبيعيا !
– أجل!
– على أي وجه حق تبرره؟
– هب، أنك كنت هناك، هناك في إيطاليا، وتملك شركات وشركات تدر عليك الملاييرالملايير من الدولارات، وفجأة تتوقف عجلتها عن الدوران حينا من الدهر، فماذا سيحدث لجيوبك؟
– ستتكمش شيئا فشيئا.
– بم ستنفخها؟
– بإعادة الحركة إلى عجلة الشركات.
– ومن يحركها؟
– العمال!
– أيهم الشبان أم العجزة المسنون؟
– الشبان طبعا.
– هل اقتنعت؟
– مشكيييييلة. ص 15.
كان الحوار يسير بانسيابية نحو تلك الختمة المطلوبة والمستفزة كونها تعبر عن فلسفة الرأسمال الذي لا يقيم وزنا للإنسان، فالمال هو القيمة الأساس، وغيره باطل. وليس بدعا أن نجد استدعاء النص المقدس أثناء الحوار، فكأن المبدع يرمي من ورائه إلى نقد هذه النزعة المادية التي تغيب البعد الروحي الحاضر في ديننا الإسلامي الذي يعد حياة الإنسان قيمة القيم.
وفي قصة “بائع الطيور” نلمس العناصر الآنفة، وسخريتها لم تكن مجانية بل هادفة تروم نقد واقع الأزمة وما تركته من وشم لا يمحي في نفوس الشخصيات، فها الأب يرسم معالم طريق كيفية تدبير الأزمة وكيفية مواجهة نقص التموين وشكل صرف المؤونة:
– تقليص الاستهلاك من مواد التغذية إلى النصف؛ وتناول كوب شاي لكل فرد بدل اثنين وثالثة، وكسرة خبز على مقاس راحة يد كل واحد، مع تأخير وجبة الغذاء لتنوب عن وجبة العشاء. ص 18.
فكيف تصرف مرزوق لتجاوز الأزمة وماذا حل به؟
يجيبنا الحوار عن هذا بالقول إنه كان يمارس التجارة مع الصينيين ببيعهم طيورا من نوع خاص:
– صراحة يا ابني؛ عمال الشركة الذين حطوا بجوار أرضنا هم من الصين، وأخوك كان يمونهم..
– يمونهم بماذا؟
– يمونهم بالطير طبعا! بائع طيور
– بأي طير؟
– طير الليل، والآن منع من ذلك بسبب الحظر من جهة والجائحة من جهة أخرى، والناس يقولون إن هذا الطير هو سبب انتشار الوباء!
– هل أنت خائفة؟
– طبعا؛ أنا خائفة.
– خائفة من ماذا؟
– خائفة من انقطاع رزق أخيك يا ابني! ص 20.
لم يتم اختيار الصينيين في هذه القصة إلا من أجل التأكيد على أن أصل الوباء أتى من تلك الأرض التي تستهلك هذا النوع من الطيور والتي سميت بـ “طير الليل” نظرا لكونها لا تعيش إلا في الظلام.
والحوار الساخر كان حاضرا في قصة “كائن هلامي”، وتجدر الإشارة إلى أن هذه القصة قد شغلت بشكل رمزي الحوار الداخلي الذي أتى على ذكر عدد كبير من أسماء فن الغناء بكل تلاوينه، فلننصت لمقطع من الحوار الخارجي والذي جرى بين الزوج وزوجته بعد انقطاع الماء عن الزوج وهو يستحم حيث صار بسبب رغوة الصابون كائنا هلاميا:
– ماذا دهاك؟!
– أكاد أتجمد بردا، ولا أستطيع فتح عيني بسبب الصابون.
– بماذا أساعدك؟
– ناوليني الماء.
– افتح الصنبور، واغسل وجهك!
– كح كحكح..
– أسمعك تسعل!
– كح كحكحكح
– سعالك جاف؛ هل درجة حرارتك عادية؟
– أية حرارة هذه التي تسألينني عنها يا هذه، هاتي الماء إن كان هناك ماء، قبل أن أتسمر في مكاني كما الصواعد في الكهوف.
– ألم تسمعني؛ تحسس الصنبور وافتحه، واغسل عينيك!
– الماء مقطوع؛ تبت يدا من قطعه. ص 24.
والواضح أن القصة قد استدعت النص القرآني هي أيضا من خلال سورة “المسد” التي تلعن أبا لهب وامرأته.
إن استدعاء السورة كان من أجل لعن كل من تسبب في هذا المرض وفي كل من قام بقطع شريان الحياة عن الناس.
أما صورة تجمده المحتمل، فتجعلنا نتخيله قد صار كالصواعد، وهي صورة ولا شك قد تنزع من القارئ ابتسامة نظرا لطرافتها وبعدها الساخر.
وتمتد السخرية إلى قصة “عطلة مؤجلة” حيث نجد السارد يختار إيطاليا ضمن برنامجه المحتمل، ليرسم معالم الفكاهة في قوله:
– أستهلها بزيارة مدينة البندقية، ومنها أقفز إلى مدينة بيزا لا حبا في البيتزا وإنما لدعم برجها المائل وأقوم اعوجاجه، أو أدفعه دفعة لله فأريحه من معاناة الميلان، وما أن أنهي مهمتي هناك، أستقل قطارا فائق السرعة ووجهتي مدينة فلورنسا، ودون ضياع دقيقة واحدة، أقصد كنيسة سنتا كروتش الشهيرة الكنيسة الفرنسية الفرنسيسكانية الرئيسية في المدينة، وأقف دقيقة صمت ترحما على روح غاليلو غاليلي.
فروح الدعابة نلمسها من خلال تقويم اعوجاج برج بيزا المائل أو إراحة الناس من تهديداته بدفعه لينهار نهائيا؛ وقد استعمل الدارجة المعربة في قوله: أدفعه دفعة لله، ولا تكون هذه الجملة إلا في مقام العجز وطلب المساعدة ومد يد العون لإنهاء المعاناة.
وكذا في خلق نوع من التماثل بين اسم المدينة واسم الأكلة المشهورة.
هكذا، نجد السارد كرياضي يقوم بخلق معادلات جديدة بناء على مواد الواقع بتصغير الكبير وتضخيم الصغير، واقفا في زاوية قد لا يقف فيها الناس جميعا، ليرى الصورة على نحو مخالف لرؤية الآخرين لها، وذلك لتكريس قيم آمن بها المجتمع، ومهاجمة تطرف وغلط وشطط ينفر الناس، مما يسهم في استتباب المفاهيم والقيم، ويشجع على السلوك السوي والسليم.
إن السارد في كل قصص المجموعة لا يشغل الحوار والسخرية إلا بغاية تقويم ما اعوج كرغبته في تقويم برج بيزا المائل، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح الذي ترضاه القيم النبيلة والحس الإنساني السليم:
“وقبل أن أقفل راجعا إلى المغرب؛ أحط الرحال بالأندلس؛ رغبة في ولوج ميدان مصارعة الثيران، فأنا أعتبر هذه الهمجية عطلة مؤجلة… صخب يمزق سكون الليل رياضة البتة بقدر ما أنظر إليها على أنها إرث إغريقي خبيث يجب تطهير النفس من رجسه، وإنما أحل بغرناطة، وأحث السير نحو الساحة التي يقف فيها فديريكو غارثيا لوركا منتصب القامة يواجه رصاص قاتليه بصدره، رابط الجأش والنهى ثابت القلب والقدم”.. ص 26.
فنرى السارد في هذا المقطع يتجول في أمكنة متعددة، راسما ما يتميز به كل مكان من معالم بقلمه الساخر، فبعد برج بيتزا، ينتقل إلى إسبانيا برغبتين، نقد الرياضة الهمجية المتمثلة في مصارعة الثيران، بحس إنساني يعطف على الحيوان من عنف الإنسان، وينتقد عنف الإنسان تجاه أخيه الإنسان من خلال قصة شاعر الأندلس لوكا الذي تم إعدامه من طرف خصومه اليمينيين في حرب أهلية عنيفة وقف ضدها، معلنا انتسابه للجناح المعارض ذي القيم الإنسانية الرفيعة.
وما تشغيل السارد للسخرية إلا لكونها نمطا من أنماط أدب المقاومة؛ فهي تهدف إلى مواجهة المشكلات المجتمعية، ومحاولة ممارسة سلطة خطابية مناهضة لسلطة الواقع الاجتماعي المعيش، ومن ثـم ينضوي ذلك الخطاب على وسائل لغوية بنائية تعكس مقاصد منتج الخطاب؛ في الكشف عن تلك المشكلات الاجتماعية، وخلخلة تصور استقرارها، وتحفيز المتلقي نحو الرفض وعدم الاستسلام لسلطة الشيوع والركود، وضرورة التغيير. (د/عزة شبل محمد أبو العلا، الوسائل اللغوية وبناء خطاب السخرية في القصة القصيرة، مجلة كلية الآداب جامعة الفيوم، مج 13، عدد 1، يناير 2021.)
وتنتهي القصة بعدم مغادرة السارد لبيته ليقضي عطلته بين جدرانه، ولم يكن البقاء بالمنزل اختيارا بل كان اضطرارا فرضته سلطة الجائحة، فكان الالتجاء إلى السخرية من واقعها المر، والالتجاء إلى الخيال كعنصر معوض؛ فقد أتاح له هذا الخيال فرصة تحقيق السفر المحلوم به. لقد تمكن من السفر رغم أنف الجائحة، وتمكن من فتح باب الحياة بواسطته على الحياة.
وتمتد السخرية كما الحوار إلى قصة “لوحة سوريالية”. فالواقع البئيس الذي وضع فيه الناس يشبه لوحة سوريالية بريشة دالي بل ربما كان أكثر قسوة، ولتلطيف أجواء الحزن التي رانت على المجتمعات كان لابد من خلق فسحة للترويح عن النفس باعتماد تقنية السخرية في الحوار كما في الوصف ورسم الشخصيات:
قبل أن أجيبها، وقبل أن يرتد إليها طرفها؛ أغمي عليها عندما وقعت عيناها على جدران الغرفة، وقد أضحت لوحة سريالية.
لقد صير السارد غرفته لوحة صادمة للزوجة حين صيرها حجرة درس افتراضية، وانغمس في دوره دون أن ينتبه لما اقترفته يداه من جرم في حق الزوجة التي عليها أن تضيف عبئا جديدا إلى أعبائها المتعددة.
ولا يمكن للسارد أن يشغل سخريته دون أن يوظف النص القرآني، كما في قوله: قبل أن يرتد إليها طرفها، فهذا النص كان في مقام الحديث عن سرعة استجابة الجن لطلب سيدنا سليمان، أما مقامه في القصة فكان للإشارة إلى المباغتة وسرعة الفعل غير المتوقع.
وتبلغ السخرية أوجها في قصة “درس عن بعد” حيث يتم نقد المنظومة التعليمية ككل، والدروس عن بعد التي فرضتها الجائحة. مستلهما أجواءها مما وقع فعلا من أحداث غاية في الغرابة والشذوذ، لننظر إلى هذا الحوار بين الأستاذ وزوجته، وفعل النظر يستوجبه الحوار لأنه مستمد من المسرح، والمسرح يعتمد على العرض والنظر:
– ما مصدر الفاصل الإشهاري؟
– فقط أحد تلاميذي طلب مني مهلة استراحة..
– استراحة وهو غارق فيها!
– استراحة للمراجعة.
– مراجعة ماذا؟
– مراجعة الثلاجة، ولم يطفئ الكاميرا، بل صحب اللوحة معه، وجاب بها المنزل حتى.. حتى..
– (صمت..)
– حتى ماذا؟
– (صمت).
إنها فعلا لوحة سريالية يقدمها لنا السارد في طبق ساخر، يؤكد من ورائه فشل التعليم عن بعد، وعدم جدواه؛ وقد أثبتت التجارب ذلك. فالتلاميذ لا يعيرون أدنى اهتمام للدروس في الفصل فبالأحرى في منازلهم وخلف شاشاتهم..
وتنتهي القصة على غير المتوقع، إذ ما شاهدته الزوجة من ورائها القارئ، هو غير ما كانت تتوقعه وتسعى إليه:
تخرج الزوجة خلسة من المطبخ على رؤوس أصابع قدميها، متوجسة من أن يكون زوجها قد وقع في المحظور، ويا لخيبة أمل المسكينة، يا لهول المفاجأة، لقد ضبطته متلبسا لم تترك له ولو قليلا من الحظ ليطمس معالم فضيحته، وهو يأكل البرتقال الذي قطفته أنامل تلميذه من الثلاجة.
ولنلاحظ الجانب العجائبي الذي جاء لتقوية البعد الساخر في النص، يتجلى ذلك في تحطيم المسافة الفاصلة بين الواقعي والافتراضي، فكأن الافتراضي ما هو إلا امتداد لهذا الواقع، بالرغم من أنه منفصل عنه ولا يشبهه.
ويأتي صوت القصة معلنا عن حضوره وتميزه، أو لنقل قيم السارد في قصة “برقية مستعجلة” بإظهار افتتانه بالقصة وجعلها أس نصه “برقية مستعجلة” لحد تخيل إدارة المستشفى تستعين به لقراءة القصص القصيرة لنزلائه. ولم يخل النص من دعابة ولطافة حين يصف القائدة وحين يرسم معالم الابتسامة على وجوه أتباعها، مع نقد المكان الجاف الذي لا يعتمد على وسائل الترفيه والترويح عن النفس فكان أن تم تخيل مستشفى يستعين بقاص.
عن التناص في المجموعة
لنتوقف قليلا عند التناص مع القرآن الكريم. ففضلا عن القصص التي تم إيرادها أعلاه. نجد نص “مقاس حذاء الشيطان” مثالا بارزا وقويا على هذا التوظيف. فاختيار المسجد كمكان مقدس جاء لخلق مفارقة مع المدنس المتمثل في السرقة صحبة رمز الغواية الشيطان. لكن المهم في القصة هو هذا التوظيف الذكي لآيات بينات من القرآن الكريم؛ توظيف ساخر ينتقد السلوك المعوج بغاية تقويمه؛ وخلق مرح يمنح فرصة للقارئ للتنفيس عن غضبه. إنها تقنية تربوية تقوم على جذب القارئ وشده إلى أحداث النص وهو ما اعتمده الجاحظ في كتبه عبر الجمع بين الجد واللعب؛ بين العقلاني واللاعقلاني. بين الجاد والمرح.
النص مشبع بالآيات القرآنية، فالمسجد يرخي بظلاله على النص من البداية حتى النهاية، وقدسيته تستدعي استحضار النص المؤسس، فنجد الاقتباسات التالية:
لعنت الشيطان الرجيم.
استغفرت الله على إثم الظن.
توكل على الله.
قل بسم الله مجراها ومرساها.
قل لن يصيبنا الله إلا ما كتبه لنا.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بجوارب بياء تضحك الناظرين.
على غير العادة لم نسمع لك وقعا.
بعض هذه الاقتباسات تكرر لأن السياق يفرضها، كما أن بعضها جاء للتسليم بقضاء الله، وأخرى كان استدعاؤها بغاية إضفاء قليل من البسط للتخفيف من أثر صدمة سرقة الحذاء في مكان مقدس يفترض فيه الاحترام والانضباط لقوانينه.
ولا يقتصر استحضار النص المقدس في قلب القصة؛ فقد يأتي في العنوان كما في نص “كمامات لم يطمثهن إنس ولا فيروس”، وغير خاف بعد السخرية المتضمن في هذا الاقتباس. بل نجد النص بكامله يسير في هذا السياق بسخرية لاذعة تتغيى منح القارئ متعة القراءة، ودهشة الحكي، وغرابة الأحداث.
وقس على ذلك بقية القصص التي تمنح المتلقي اللذة والمتعة والفائدة حيث أنها برصدها لوقائع متنوعة في حياتنا التي شهدت حالة من الرعب جراء الفيروس القاتل، جعلتنا ننكمش في بيوتاتنا متابعين بانفعال شريط الأحداث في وطننا الصغير ووطننا الكبير، وكانت لا تزيدنا إلا رعبا وتوجسا من القادم، وفرضت علينا الإسراع إلى الانضباط لتوجيهات السلطات الصحية وسلطة الداخلية في آن معا.
يقول السارد بضمير المتكلم المفرد، وهو ضمير الحكي المهيمن، ما يؤكد ما سبق:
من حسنات حظر التجول الذي فرضه على العالم فيروس كورونا سيء الذكر والسمعة، أنه جعل المرء ينطوي على نفسه، وهو محشور قهرا في زاوية من زوايا معقله الإجباري، يحجم عن التفكير في الغد، أو فيما ستؤول إليه حياته في مرحلة ما بعد كورونا، فانكب على ماضيه يفليه فليا، مفتشا عن لحظات السعد والمرح التي عاشها، ويخشى عليها من الضياع، فعكف عليها يمسح عنها غبار النسيان بحميمية صبيانية عميقة لا تخلو من براءة. شكرا للحظر الذي لولاه ما نضت في ذاكرتي هذه الجوهرة النفيسة، ص 41 من قصة “ضفدعة تنط في فمي”.
نصوص المبدع أحمد بلقاسم تتميز برشاقتها وخفة ظلها واعتمادها على السخرية وتشغيل الألفاظ بطريقة فنية محملة بمعاني معلنة ومضمرة، وبلغة بسيطة ذات عمق تنتمي إلى ما يسمى بالسهل الممتنع. ملامسة بذلك واقع الناس وتعدد ردود أفعالهم تجاه الجائحة، بل كانت الجائحة مصدر إلهام استقى منها المبدع أحمد بلقاسم بأسلوبه الخاص موضوعاته التي بسطها على سرير التشريح ليبين ما تحمله من عيوب وما تعبر عنه من فداحات نتيجة اعتقال الناس في أحياز ضيقة خلقت صراعات وأنتجت مصائب نفسية واجتماعية واقتصادية جمة.
هامش:
1 أنماط التشكيل الحواري في رواية “حكايتي مع رأس مقطوع”، بقلم م. د. علي صليبي مجيد المرسومي، مجلة ديالي، العدد السابع والخمسون، سنة 2013
بقلم: عبد الرحيم التدلاوي
ناقد وقاص