سعيد مطيع : “تيفلوين” ليس مهرجانا بل احتفالية لها سرديتها وجمالياتها

“احتفالية الأرض والهوية”، هكذا اختار منظمو تظاهرة تيفلوين شعارهم لهاته الدورة. وهي احتفالية خاصة برأس السنة الأمازيغية أو “إيض إيناير”. يجتمع فيها ساكنة مدينة تيزنيت وضيوفهم في أجواء حميمية، لاكتشاف الثقافة الأمازيغية بمنطقة سوس، ليس اكتشافها فحسب، بل المشاركة فيها بتلقائية عن طريق إعداد أطباق أمازيغية محضة وارتداء الملابس الأمازيغية وحلي الفضة في عاصمة الفضة.

حضرت جريدة “بيان اليوم” لهاته الاحتفالية، واستغلت الفرصة لإجراء حوار مع مهندس هاته التظاهرة ومديرها الفني المخرج الفنان سعيد مطيع، الذي حدثنا عن تصوره لهاته التظاهرة، وعن رمزية المكان الذي يحتضن تيفلوين.

* في البداية أود أن أسألك: لماذا اسم “تيفلوين” كعنوان للمهرجان؟

** اختيار اسم “تيفلوين” له علاقة بجغرافية المكان الذي تتم فيه التظاهرة. حينما بحثنا وجدنا أن المكان اسمه “إيـڭي ن تيفلوين”، أي فوق الأبواب. ومن العين الزرقاء إلى تارڭة، المكان الذي تتم فيه الاحتفالية، كان هناك واد، وكان الناس يضعون أبوابا على ذلك الواد، ليستطيعوا التنقل للضفة الأخرى، ومن هنا جاءت التسمية “إيـڭـي ن تيفلوين”.

واختيارنا لتيفليون جاء لعدة اعتبارات، لما تتميز به المدينة العتيقة لتيزنيت من أبواب، هناك أبواب خاصة باليهود الذين كانوا في المدينة.. وأبواب أخرى بمختلف أشكالها وأنواعها وتعبيراتها. تيفلوين، أيضا، بتيفيناغ القديمة هي “إيض إيناير”، على اعتبار أننا نفتح أبواب السنة الجديدة، ونغلق أبواب السنة القديمة. بمعنى أن الكلمة تحمل في طياتها معاني كثيرة. هناك، أيضا، دلالة الضيافة، فحينما تريد الدخول عند أي أسرة، تدخل من الباب. 

* وما علاقة مهرجانكم بإيض إيناير؟ هل بالضرورة يتعين أن يتزامن مهرجان تيفلوين بإحياء رأس السنة الأمازيغية؟

** أكيد، فعندما أردنا أن ننظم هذا المهرجان، كانت لدينا نية في أن ينظم بالموازاة مع رأس السنة الأمازيغية. فلم يكن الهدف في أن يكون المهرجان خاصا بالتنشيط الثقافي والفني فقط. في تيفلوين، قمنا بعملية دراماتورجية لتجميع ما هو موجود عند ساكنة مدينة تيزنيت، وأعطيناها سردا يمتد من بداية المسار إلى نهايته. أي هناك حكاية داخل التظاهرة، نفتح الأبواب على كل ما يتعلق بالمدينة من العين الزرقاء، إلى المسجد الكبير بما يحمله من تاريخ ودلالات، لأغناج ثم تارڭة، حيث ربطنا بساتينها (تارڭة) بالمدينة القديمة.  

* إذن تصوركم الفني مرتكز أساسا على العلامات والأيقونات الأمازيغية.. مما قد يعني أنه مرتبط بشكل قار بالأمازيغية وقد لا تنفتح تفلوين على ثقافات أخرى مستقبلا؟ هذا مجرد تخمين..

** حينما نتحدث عن إيض إيناير، لا بد أن ننفتح على ثقافات أخرى، لكن على أساس أن تنخرط ضمن تصورنا العام للتظاهرة. بمعنى يمكن أن نتعرف على ثقافات أخرى، لكن لا بد أن تكون في إطار إيض إيناير. فمثلا الخيم التي نشاهدها اليوم يمكن أن تنفتح على تعبيرات أخرى، موجودة في ثقافة طاطا والحسيمة والناظور وأمازيغ زيان في الدورات المقبلة، لأنها سنة أمازيغية وليست سنة خاصة بتيزنيت فقط، فلا بد أن ننفتح على جل التعبيرات الأمازيغية داخل الوطن.

* على هذا الأساس بنيتم دراماتوجيا بصرية انطلاقا من الصور والألوان والموجودات الأمازيغية.. ذلك ما يتجلى في ابتكار وتأثيث وتنظيم سينوغرافيا كل الفضاءات المختارة. حدثنا عن هذه السينوغرافيا.. مفرداتها، أشكالها، أحجامها، ألوانها، سرديتها.. 

** في البداية، لا بد أن نفصل بين تظاهرات البرمجة وتظاهرات التصور، نحن أمام تظاهرة لها تصور فني وسردي خاص. حينما نؤسس لتظاهرة من نوع التصور لا بد أن تندرج أو تبنى على ثلاثة دعائم، الدعامة الأولى هو أنه لا بد للتظاهرة أن تجيبنا على أسئلة القلق، لأن التظاهرة التي لا تجيب على أسئلة القلق هي ليست بتظاهرة.. في الدعامة الثانية، لا بد أن تكون هناك الدهشة، تظاهرة لا تؤمن بالدهشة ليست بتظاهرة، والثالثة هي السرد أو الحكاية، لا بد أن نحكي أو نسرد خطابا ما داخل التظاهرة. من خلال هاته الدعائم الثلاث، بنينا تصورنا العام لتظاهرة تيفلوين. بمعنى هناك انفتاح على كل ما يتعلق بحياتنا اليومية، لتشكيل موروثنا وخروجه من القاعات المظلمة إلى الفضاء.

ترون معي أن كل الأشكال التعبيرية التي أسست لتظاهرة تيفلوين تقام خارج  القاعات، لا من حيث المنتوجات في الخيام التي تجعلنا نرتبط بالأسواق القديمة وإحيائها، أو من حيث التأثيث السينوغرافي لإضفاء جمالية داخل فضاءاتنا بالمدينة القديمة.

* يلاحظ المتابع لهذه التظاهرة غياب كل الأشكال التقليدية المتعارف عليها في مثل هذه التظاهرات، فليس هناك لا حفل افتتاح ولا حفل اختتام ولا دعوات ولا بادجات.. ولا حتى كلمات رسمية تلقى بالمناسبة من طرف المنظمين.. فما الداعي لهذا الاختيار البعيد عن كل البروتوكولات المألوفة؟ وما علاقته بتصوركم الفني؟ أي بالجماليات وعلاقة الناس بالمجال..

** كما قلنا في البداية، يجب أن نفصل بين تظاهرات البرمجة وتظاهرات التصور، تظاهرات البرمجة تستدعي هذا النوع من البروتوكول كالتقديم وكلمات الافتتاح.. اخترنا، بل وتعمدنا، أن تكون التظاهرة احتفالية، لم نسميها مهرجانا، بل احتفالية، لأن الاحتفالية دائما تكون تلقائية وبسيطة.. لا نريد أن نخندق أو نضع التظاهرة في خانة لها بداية ولها نهاية وافتتاح وبروتوكولات وتراتبية بين الحاضرين.. أردنا أن يحس المواطن التيزنيتي والضيف أنه في حالة ضيافة وحميمية، ومن هنا ينبني صدق التصور العام للتظاهرة، وهاته هي التوابل التي تجعل الناس يعشقون احتفالية تيفلوين على شاكلتها، لأنهم لا يجدون فيها ما كانوا معتادين عليه في التظاهرات الأخرى.. قد يجد الزائر الاكتظاظ، ولكنه شبيه باكتظاظ المناسبات العائلية، لهذا فالزائر لا يشعر بأنه غريب عن المكان.

* يلاحظ المتابع أيضا أن كل الفرجات الفنية تقام في الشارع العام وفي الساحات المفتوحة على الهواء الطلق بشكل متواز وبدون توقف… حيث يكاد المشاهد لا ينتهي من فرجة حتى يبدأ في أخرى.. فإلى أي حد استطعتم التحكم في كل الفضاءات أمام الإقبال الكبير للجمهور؟

** هناك دائما سباق مع الزمن ومحاولة لوضع تصور معين للدورات المقبلة، وهاجسنا يكمن في كيف يمكن أن نجعل التظاهرة تعيش بدون هاته الإشكالات. صحيح أن المسار يمتد على كيلومتر ونصف، أعتقد أنها مسافة كبيرة بالنسبة للتظاهرة، لكننا سنحاول إضافة مسارات أخرى لتجنب هذا النوع من الضغط. لأن تصورنا العام هو أن تشمل الاحتفالية مدينة تيزنيت برمتها.

* ارتوى تصوركم العام من معين الثراث الأمازيغي العريق لمدينة تزنيت العتيقة، لكن ثمة لمسة حداثية وعصرية أضفت جمالية على المشهد العام.. ظهر ذلك بشكل جلي في الإخراج الفني من خلال السينوغرافيا ومن خلال الدور الذي لعبته الإنارة في تأثيث وتثمين الحقل المرئي ولا سيما الأسوار والأبراج والآثار المعمارية.. وكذلك من خلال الدعامات التواصلية المعتمدة في ترويج المهرجان… فما هو الخيط الناظم في هذا التعاطي بين التقليدانية والحداثة؟ وكيف استقبل الجمهور هذه الجماليات المندمجة؟

** في الكتابة السردية أو الدراماتورجية، يجب أن تكون كل التظاهرات هي ذريعة وليست غاية، حينما نبني تظاهراتنا على هذا الأساس، لا بد أن نضفي عليها هاته الجماليات. ففي أي مشهد لدينا نقط قوة ونقط ضعف، وهناك أيضا، الخطوط القوية والخطوط الضعيفة، والذكاء يكمن في كيفية استغلال هاته النقط واستثمار الخطوط القوية، بل ويجب تحويل نقط وخطوط الضعف إلى قوة. في الجمالية البصرية، لا يجب أن تتخوف من شيء ما، لأنه ليس هناك بشاعة، كل شيء جميل.. أنت فقط من تستطيع جعل البشاعة جمالا.

* إذن تريدون إيصال فكرة مفادها أن الثراث المادي واللامادي ليس جامدا في الأسوار والأزياء وكل المخلفات البشرية بقدرما هو كائن حي ومتجدد دوما مع حياة الناس، أليس كذلك؟

** نحن نحتفل برأس السنة الجديدة لأنه يمثلنا، ولأنه كينونتنا، إيض إيناير هو احتفال رمزي المراد به القول بأننا موجودون. والتعدد والاختلاف هو أمر جيد، لأنه يساهم في بناء لحمة وطنية حقيقية. إيض إيناير “ماشي شي حاجة فوق الشبعة”، بل هو اعتزاز بوطنيتنا، بالتالي لا بد من الاحتفال بتراثنا، من أسوار المدينة إلى الكسكس الذي تعده النساء.. حاولنا أن تكون الاحتفالية عفوية، وأن لا نوجه الناس، أردناهم أن يشاركوا في الاحتفالية من تلقاء أنفسهم، دون أن نعطيهم خارطة للطريق. يجب أن يحس المواطن بأنه مساهم في إنجاح التظاهرة.

* السردية العامة لمهرجان تيفلوين تبدأ كتابتها من العين الزرقاء، فما حكاية هذه العين وما موقعها الرمزي في ذاكرة تزنيت؟

** يحكى في الأسطورة أنه كانت هناك امرأة اسمها لالة الزنيتية (قبرها موجود قرب العين)، وهي التي سميت عليها مدينة تيزنيت، كانت قد جاءت مع كلب لها، ومن شدة عطشه بدأ يحفر إلى أن انفجرت العين الزرقا. هاته هي قصة العين الزرقا التي تمتد مجاريها إلى تارڭة.. والماء، أيضا، له رمزية الحياة، والعلاقة التاريخية بين تارڭة والعين الزرقا هي التي أعطتنا بداية السرد، والاحتفال بحكايات هاته المدينة من تارڭة إلى العين الزرقا إلى الجامع الكبير إلى أغناج. من المهم أن نحكي تاريخنا، كيفما كان، للحفاظ على ذاكرة المدينة.

* بعيدا عن تزنيت وتيفلوين فأنت أيضا أحد الصناع الأساسيين لمهرجان تيفاوين بتافراوت ومهرجاني تالگيتارت وتالويكاند بمدينة أگادير، حدثنا عن هاته  التظاهرات الهامة خصوصا وأنكم تعيشون حاليا العد العكسي لإقامة الدورة الجديدة لتالويكاند خلال الأسبوع الأخير من هذا الشهر..

** تالگيتارت وتالويكاند لديهما تصور آخر ينبني على فعل ثقافي وفني آخر، البداية في تصوري لهاتين التظاهرتين، هو كيف يمكن لحي أن يساهم في تسويق مدينة، لأنه في الأصل المدينة هي التي تسوق لحي. تالگيتارت هو مهرجان دولي يسعى إلى تسويق مدينة عبر مناطق العالم. وتالويكاند أراد أن ينفتح على الطاقات الشابة، وكل الطاقات الواعدة، وإعطائها فرصة لأن تبرز في الأشغال اليدوية والموسيقى والرسم والتصوير الفوتوغرافي والنحت والمسرح..

فمثلا هناك فتيات لم يسبق لهن أن عرضن أعمالهن، وبعد أن عرضن عندنا، أصبحن يعرضن لوحاتهن في معارض كبرى.. فالمهرجان إذن بمثابة فرصة أو دفعة تعطي للناس فرصة ليخرجوا إلى الوجود.. الفكرة أيضا، هي تنظيم هاته التظاهرات دون حضور رجال الأمن، لأني أؤمن أن المواطن يستطيع حماية نفسه.. كل هاته أوهام، المواطن يجب أن يتعلم العيش في الفضاء العام بشكل ديمقراطي بعيدا عن الشجارات والنزاعات.. وحتى إذا حصل ذلك، فيكون مع حالات شاذة. في الدراماتورجية التي أشتغل بها، أحاول الابتعاد عن البرمجة، وأريد من خلال ذلك تكسير القواعد المتعارف عليها.

* انتعشت الحركة المهرجانية بالمغرب خلال السنين الأخيرة، وهنا تنتصب إشكالية كبرى مفادها أن أغلبية المهرجانات الموسيقية والمنوعاتية تكاد تتشابه بل منها ما يفتقد للروح وللهوية، ولكن ثمة مهرجانات استطاعت أن ترسم لنفسها هوية خاصة بحكم أنها اختارت أن تكون موضوعاتية كمهرجانات الموسيقى الروحية بفاس وگناوة بالصويرة وأخرى قليلة عرفت نجاحا حتى ولو لم تكن موضوعاتية كمهرجان موازين بالرباط وتيميتار بأگادير مثلا… ما هو تعليقكم باعتباركم ممارسا احترافيا ومجربا؟

** أنا مع مهرجان كناوة، ومع هذا النوع من المهرجانات التي لها تصور. مهرجان فاس للثقافة الصوفية، أيضا، هو مهرجان له تصور، ويمكن من خلاله أن تسوق لخطاب ما. وهي تظاهرات تشعرك بأن لها روح، لأن المهرجانات يجب أن تخلق لك عشقا جديدا للحياة.

موازين وتيميتار هي مهرجانات للبرمجة.. ولا تعجبني، لأنني لا أحس نفسي أمام فرجة، وأيضا لأنها لم تترك لي شيئا في ذاكرتي، وكل دورة تمسح سابقتها بالرغم من أن هناك بعض المحطات التي يمكن تذكرها.

حاورته: سارة صبري

تصوير: إبراهيم فاضل

Top