أصبح المغاربة يحتفلون برأس السنة الأمازيغية كعطلة رسمية مؤدى عنها بالمغرب، بعد أن أصدر جلالة الملك محمد السادس توجيهاته إلى رئيس الحكومة لتفعيل هذا القرار الملكي.
وقد تفاعل الملك محمد السادس بشكل إيجابي مع مطالب الحركة الأمازيغية، من خلال بلاغ للديوان الملكي، يوم 3 ماي 2023، الذي أعلن أن “جلالة الملك محمد السادس تفضل بإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية في المغرب”، مبرزا على أن هذا القرار يأتي “تجسيدا للعناية الكريمة التي ما فتئ يوليها جلالة الملك محمد السادس للأمازيغية باعتبارها مكونا رئيسيا للهوية المغربية الأصيلة الغنية بتعدد روافدها، ورصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء. كما يندرج في إطار التكريس الدستوري للأمازيغية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية”.
ومعلوم أن هذا المطلب برز بشكل لافت مباشرة بعد إقرار دستور 2011، وأصبح على رأس المناشدات التي توجهها الحركة الثقافية الأمازيغية لأعلى ىسلطة بالبلاد.. حيث كانت منظمات وجمعيات أمازيغية، قد بادرت بتوجيه رسالة إلى جلالة الملك محمد السادس، ورد فيها: “نتوجه إلى جلالتكم، بهذه الرسالة، وكلنا أمل في أن يحظى رأس السنة الأمازيغية بعنايتكم السامية، ويعطي جنابكم العالي تعليماته السامية لإقرار رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا رسميا بعطلة مؤدى عنها، على غرار باقي الأعياد والعطل الرسمية، ما من شأنه أن يعيد الانتعاش للأمازيغية تماشيا مع روح وفلسفة الدستور وانسجاما مع خطاباتكم السامية”.
نظرة تاريخية موجزة
ويحتفل ﺳﻜﺎن ﺷﻤﺎل إﻓﺮﻳﻘﻴﺎ، حتى الذين لا يتحدثون الأمازيغية منهم، برأس السنة الأمازيغية “إيض إيناير”، أو السنة الفلاحية، أي “حاكوزة” كما تسميها المناطق المغربية الناطقة بـ “الدارجة”.
ولإلقاء نظرة تاريخية عن بدايات الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، يفيد الأستاذ المحفوظ أسمهري، الباحث في تاريخ شمال إفريقيا القديم بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، في اتصال أجرته معه بيان اليوم، قائلا: “مثل جميع التقاويم الزمنية العريقة في القدم، لا نعرف الكثير عن الأصول التاريخية لإيض إيناير (إخف ن أسـكس/ تبورت ن أسـكس)، لكن الدراسات التي تناولت الموضوع ترى أن جذور هذا التقويم لها علاقة بالدورة الزراعية (السنة الشمسية) وما يصاحبها من طقوس تتفاءل بسنة فلاحية ذات محصول جيد.
ويضيف الباحث أسمهري أنه من المعلوم أن “تاريخ الزراعة في شمال إفريقيا لا يقل عن 6000 سنة، وآخر الاكتشافات الأثرية تتحدث عن قرى زراعية بضواحي الرباط منذ أكثر من 3000 سنة قبل الميلاد. وكل ما نعرفه من بعض مصادر ما قبل الإسلام أن المجموعات البشرية بشمال إفريقيا كانت تقيم طقوسا واحتفالات في مطلع يناير، وأن القديسين المسيحيين الأفارقة (أمثال القديس أغسطين والقديس ترتوليان) كانوا يحاربون مثل هذه العادات التي يعتبرونها من التقاليد الوثنية المخالفة لتعاليم المسيحية”. وهكذا يمكننا، يؤكد المتحدث، أن “نستنتج من هذه الإشارات التاريخية أن الأمر يتعلق بطقوس موروثة عن فترات موغلة في القدم. لكن ومع ظهور الحركة الثقافية الأمازيغية منذ ما يزيد عن 4 عقود، تم ربط بداية السنة الفلاحية بالتاريخ السياسي لمصر القديمة، وبالضبط مع حدث اعتلاء الليبيين (الأمازيغ المجاورين لمصر) لعرش مصر وتأسيس شيشنق للأسرة الحاكمة رقم 22، وهو الحدث الذي تؤرخ له بعض الروايات بسنة 950 قبل الميلاد (والبعض الآخر يؤرخ له بـ 945 ق.م). ورغم أن الحدثين (رأس السنة الفلاحية وسنة اعتلاء شيشنق عرش مصر) منفصلان ولا علاقة تاريخية بينهما، إلا أن هذا الربط بدأت معه “أسطورة شيشنق” تؤسس للتقويم الفلاحي من منظور جديد”.
ما بعد الإقرار الرسمي برأس السنة الأمازيغية..
من جانب آخر، وللاطلاع على أجواء احتفالات المغاربة برأس السنة الأمازيغية، بعد إقرار هذا اليوم كعطلة رسمية مؤدى عنها، يقول الأنثروبولوجي أحمد سكونتي، في اتصال أجرته معه بيان اليوم، “الاحتفال برأس السنة الأمازيغية منذ الاعتراف الرسمي يكتسي أهمية كبيرة داخل المجتمع المغربي، كما نرى منذ السنة الماضية التي كان فيها أول احتفال، ونحن الآن في السنة الثانية”.
يضيف سكونتي، وهو خبير لدى اليونسكو في التراث الثقافي غير المادي، “في الحقيقة التغيير الأساسي الذي وقع، هو أن الاحتفال أصبح يتزامن مع يوم عطلة سنوية مؤدى عنها. التغيير الثاني، هو أن المؤسسات الرسمية للدولة، أصبحت تحتفل برأس السنة الأمازيغية، كما نرى في بعض الوزارات، خاصة وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة التي صارت تدعو المؤسسات التعليمية إلى تنظيم تظاهرات للاحتفال برأس السنة الأمازيغية”.
كما أفاد سكونتي، بأن بعض قطاعات المجتمع خاصة القطاعات الاقتصادية، “كانت مرتبكة وتتوجس من هذا اليوم، لكنها الآن أصبحت تشارك في الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية. علما أن جمعيات الحركة الأمازيغية، كانت قد أخرجت هذا الاحتفال من المنازل منذ عدة سنوات، أي من الاحتفال العائلي إلى الفضاء العام، قبل الاعتراف برأس السنة الأمازيغية كعطلة رسمية”.
يرى سكونتي أيضا بأن الاحتفالات، ستتخذ بعدا آخر في السنوات المقبلة، وستتقوى أكثر فأكثر، مردفا “أظن أن الاحتفال في المجال الخاص أي بين العائلة سيبقى وسيستمر، وهذا أمر مهم جدا لكي تتعدد أشكال الاحتفال، بما فيها العائلي، واحتفالات الجمعيات والمؤسسات العمومية.. يعني أن يكون الاحتفال ظاهرة عامة متنوعة، وهنا ينبغي ابتكار أشكال متعددة لكي يساهم هذا العيد في اقتصاد البلاد وخلق فرص تنموية مرتبطة بهذا الاحتفال”.
من جانبه، قال امحمد صلو، الأستاذ بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، في تصريح خص به الجريدة: “المغاربة عادة ما يحتفلون في أجواء عائلية برأس السنة الأمازيغية أو ما يسمى بـ “إيض إناير” كل سنة، وهو تقليد عند المغاربة جميعا، بغض النظر عن كونهم أمازيغ أم لا. لأن هذا العيد يدخل في تراثنا وتقاليدنا العريقة المتوارثة بين المغاربة جيلا عن جيل”.
قد لا يعرف المغاربة الجذور التاريخية لهذا العيد ولكنه “تقليد متوارث أبا عن جد عند الأسر المغربية، ومنهم من يسميه بالسنة الفلاحية” يقول صلو في حديثه لبيان اليوم، قبل أن يضيف: “تاريخ هذا اليوم يتحدد في منتصف ما يسمى بـ “الليالي”، التي تصادف ليلة 14 يناير، وهكذا تؤرخ الأسر المغربية للسنة الأمازيغية”. ويؤكد المتحدث أن “هذا العيد يكتسي رمزية مهمة جدا عند المغاربة، وتكمن في التشبث بالحضارة الأمازيغية وتراثها الذي ما زال مستمرا منذ قرون، وهو ما يعكس الحضور القوي لهذا العيد في الثقافة والذهنية المغربية. حيث تعتبر الأسر المغربية هذا اليوم بداية لسنة فلاحية تتمنى أن يكون محصودها جيدا، هو أيضا، دليل على التشبث بهذه الأرض واحتفال بخيراتها”..
أما بخصوص المأكولات التي تصاحب هاته الاحتفالات، فقد أبرز الأستاذ بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، بأنها تكون تقليدية، فمنهم من يحضر طبق الكسكس بالخضر، بالإضافة إلى الفواكه الجافة مثل الجوز واللوز.. وغالبا ما تحرص الأسر على أن تطبخ المأكولات التي لها دور مهم لمقاومة البرد، لأنها ترفع من حرارة الجسم.
واختتم صلو حديثه للجريدة بالقول: “بالرغم من أن المغاربة جميعهم كانوا يحتفلون بهذا العيد، إلا أنه أخذ زخما آخر بعد إقرار جلالة الملك محمد السادس، هذا اليوم، عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها للمغاربة جميعا. وهذا يدل على أن صاحب الجلالة، يقدر الخلفية التراثية للمغاربة، وهو بمثابة اعتراف من أعلى سلطة بالبلاد بهذا العيد وبأهميته من حيث التشبث بالوطن والأرض، والحفاظ على تراث وثقافة المملكة، والمغاربة جد سعداء بهذا الاحتفال. والملاحظ أن جميع مناطق المغرب تحتفل بهذا العيد، من المؤسسات العمومية وجمعيات المجتمع المدني التي تنظم احتفالات بمناسبة هذا اليوم.. وهي بادرة مهمة جدا، ليكتسب الأطفال ثقافة الاحتفال بهذا العيد”.
في تصريح مماثل، قالت خديجة أروهال، النائبة البرلمانية عن حزب التقدم والاشتراكية: “هذا اليوم، هو يوم للمغاربة قاطبة بدون استثناء، حيث أصبحوا يحتفلون برأس السنة الأمازيغية بكل فرح وشغف، خصوصا بعدما أقر صاحب الجلالة الملك محمد السادس، في بلاغ أعلنه الديوان الملكي، بجعل رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية وعيد وطني”.
وأضافت أروهال، في تصريح لبيان اليوم، “كنا نحتفل بهذا اليوم كتراث عريق، وكثقافة متجذرة في تاريخ المغرب، لكننا اليوم نفتخر بهذا القرار بعد أن أصبح مؤسساتيا عيدا وطنيا نفتخر به، خصوصا وأن هذا الإقرار جاء من صاحب الجلالة، الذي جعل من القضية الأمازيغية مسألة مجتمعية هامة جدا، على اعتبار أن جميع المكاسب جاءت على يد جلالة الملك محمد السادس منذ توليه العرش، أي بعد خطاب أجدير سنة 2001، مرورا بتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ثم دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في دستور 2011، وكل ذلك يشكل خدمة جليلة ونبيلة من الملك للثقافة الأمازيغية”؛ تذكر أروهال الشاعرة والإعلامية مضيفة أن “هذا الاحتفال لا تستقبله فقط الحركة الأمازيغية أو المغاربة الذين لهم تصالح هوياتي مع القضية الأمازيغية سواء من المتواجدين على أرض الوطن أو خارجه، بل المغاربة جميعا. لأن هاته العادة الاحتفالية ليست جديدة على مجتمعنا، فالاحتفال بالرغم من أنه لم يكن رسميا إلا أن مجموعة من الفعاليات كانت تحتفل به كل سنة في طقوس جماعية بهيجة، يتم فيها استحضار الطبخ والزي الأمازيغيين، والثقافة الأمازيغية بتجلياتها وأوجهها المتعددة”.
وحسب أروهال، فإن رأس السنة مرتبط، أيضا، بكل ما تنتجه الأرض من بذور “حتى الأطباق التي يتم طبخها في بعض المناطق لها علاقة بالبذور، مثل أكلة تدعى (أوركيمن) التي تجمع فيها جميع البذور التي تنبث في الأرض من الذرة والزرع والحمص و(الجلبانة) والفول.. كلها بذور تجمع في طبق واحد وتعطينا هاته الأكلة، لنبارك هاته السنة الجديدة ونحتفل بما أعطانا الله فوق هاته الأرض”.
وترى أروهال أن الاحتفال أصبح يكتسي طابعا ثقافيا وتربويا أكثر بعد أن أعطيت تعليمات للمدارس للتعريف بهذا الطقس الاحتفالي داخل المؤسسات التعليمية، وهي مبادرة جيدة لترسيخ هذا العيد لدى الناشئة والأجيال ليكون لديهم وعي بالثقافة والهوية الأصلية.
واختتمت أروهال تصريحها للجريدة بالقول: “إن التصالح الهوياتي مع الثقافة الأمازيغية، ينعكس من خلال الاحتفالات التي تعرف استعدادات مكثفة قبل يوم 14 يناير في مجموعة من الفضاءات. هي فرحة ينتظرها المغاربة جميعا لأنها تعكس ثقافتهم، ويحتفلون بهذا اليوم بقلوبهم ومشاعرهم وطقوسهم. فقد أصبحت الأسواق ممتلئة بإبداعات في اللباس الأمازيغي، الذي كان يلبس في المناسبات فقط. لكننا أصبحنا نراه اليوم، في الاحتفالات بهذا اليوم الذي نحييه بطقوسنا وثقافتنا الأمازيغية متعددة الأوجه، التي تجمع الروافد الأمازيغية كاملة والتي تجعل من بلادنا مثل الزليج المغربي الأصيل، كل قطعة منه لها رمزيتها وجمالياتها، وهذا انتصار يعكس افتخار المملكة بهويتها”.
سارة صبري