دروس من نيويورك

الأخبار التي وصلت من نيويورك، تفيد تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن مضمون وصيغة ما راج من قبل عن  مقترح تسعى لتقديمه إلى مجلس الأمن من أجل توسيع صلاحيات بعثة (مينورسو) لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، وبالتالي، فالتوجه العام يسير نحو اعتماد صيغة تستجيب لمطالب المغرب، وتحترم ثوابته المتعلقة بسيادته الوطنية. لقد تم التوصل إلى هذه النتيجة أساسا بفضل ما أبدته المملكة من إصرار على رفض أي استهداف لسيادتها الوطنية ووحدتها الترابية، وقد تجسد هذا الإصرار من خلال التحركات والاتصالات القوية والمتعددة لجلالة الملك، ومن خلال الدينامية الواضحة التي ميزت عمل الديبلوماسية الرسمية، وأيضا كل الاتصالات التي قام بها المغرب مع كل الدول الفاعلة في المجتمع الدولي، ثم من خلال الموقف الموحد الذي عبر عنه كل الطيف السياسي والمجتمعي المغربي، والتحركات الدولية لبعض الأحزاب الجدية، وهذا كله يذكرنا من جديد بمحورية الجبهة الداخلية الوطنية، وأهمية تقويتها في سياق الدفاع عن الحقوق الوطنية العادلة لشعبنا.
إن هذا الاختبار الجديد أكد مرة أخرى أن الانتصار يكون دائما حليف المغرب متى التقت مؤسساته الشرعية حول هدف واحد، فعندما توجهت المؤسسة الملكية والقوى الوطنية الحقيقية نحو هدف واحد، أمكن للبلاد أن تنتصر، وهذا درس بالغ الدلالة يمكن أن يفيد في كسب باقي الرهانات التنموية والديمقراطية المطروحة اليوم على بلادنا.
أما الدرس الثاني الواجب اليوم استخلاصه، فيتعلق بواقع العلاقات الدولية المعاصرة، ذلك أن كل الدول تتحرك اليوم بحسب مصالحها وحساباتها، ومن المفروض أن تنتقل سياستنا الخارجية بدورها إلى هذا المستوى، أي إلى تنويع علاقاتها، وتقوية حضورها الاقتصادي والإعلامي والجمعوي إلى جانب عمل التمثيليات الديبلوماسية الرسمية، وتستفيد، بذلك، من كل أوراق القوة التي في حوزتها، فقد لاحظنا كيف اضطرت واشنطن للتراجع جراء ما أبدته عديد عواصم عالمية من تحفظات، وكل هذا يجدر ببلادنا الانتباه إليه، والوعي بأن مصالح الدول هي التي تؤسس مواقفها من هذه القضية أو تلك.
وحيث أن المملكة تعاني دائما من ضعف في التعريف بحقائقها في الأوساط الإقليمية والدولية، فإن الدرس الثالث يتعلق بحاجة البلاد اليوم إلى الإسراع في تفعيل خطة محكمة لتطوير حضورها الإعلامي الخارجي، بما في ذلك وسط المجتمعات المغاربية والعربية والأوروبية، التي نتوهم أن لدينا فيها الحضور والصداقات الكافيين.
أما على المستوى الداخلي، فقد آن الأوان لمغادرة أدائنا «الدفاعي» تجاه خصوم وحدتنا الترابية، والانتقال إلى نوع من (الهجومية)، ديبلوماسيا وميدانيا، والمطلوب اليوم التفكير مثلا في خطوة أخرى إلى الأمام على مستوى تفعيل مقترح الحكم الذاتي على أرض الواقع، والشروع في تأهيل حقيقي للنخب المحلية في الأقاليم الجنوبية، علاوة على أهمية مواصلة التشبث بمقتضيات دولة القانون وحقوق الإنسان وتوسيع الممارسة الديمقراطية، فضلا على مواصلة البرامج التنموية لفائدة الأقاليم الجنوبية وسكانها.
إن ما جرى في نيويورك ليس نهاية، وإنما هو بداية الوعي بكل هذه الدروس، والشروع في تفعيلها.

Top