تعد مسرحية “الماكينة” التي عرضتها فرقة كلندستينو التونسية والتي قام بتأليفها وإخراجها وليد الدغسني، قراءة في المرحلة الانتقالية لتونس، بعض مظاهر تحولاته الاجتماعية بعد ثورة الربيع العربي، في محاولة لاستشراف المستقبل. مبرزا مدى الفوضى التي تخبط فيها هذا البلد عقب الثورة، والتوجس مما تسفر عنه الانتخابات الرئاسية.
لقد تم في هذا العرض تناول هذه التداعيات بأسلوب رمزي، محاولا إبراز إلى أي مدى كان للثورة تأثير على العقلية التونسية، وطبيعة التعامل بين مختلف الفئات المجتمعية.
وإن كان العرض المسرحي “الماكينة” يتناول موضوعا ذا طابع سياسي بالدرجة الأولى؛ فقد ظل مراعيا الجانب الجمالي، وعيا بأن الفعل المسرحي، يظل في البداية والنهاية إبداعا، لا بد من مراعاة شروطه، وإلا لن يكون هناك فرق بينه وبين أي خطاب سياسي آخر.
كما أن هذا العرض يميل في بعض مشاهده إلى النزعة التجريبية، دون أن يضع قطيعة بينه وبين المسرح التقليدي الكلاسيكي، ولعل هذه النزعة التجريبية تتجلى بدرجة أكبر في اللجوء إلى المشاهد غير المترابطة مع بعضها البعض، باعتبارها اختيارا جماليا، وهذا الاختيار لامسناه في مجموعة من العروض التي قدمت خلال هذه الدورة.
لقد حاول هذا العرض مستعينا بالرمز في أغلب مشاهده، إبراز إلى أي مدى أن الحلم التونسي بمستقبل أفضل تعرض للاغتيال، وكان لهذه الدلالة الرمزية بعدها الجمالي الذي راهن عليه العرض، انطلاقا من العنوان في حد ذاته؛ فالماكينة هي رمز للتفكيك، وهذا العرض المسرحي هو بدرجة أساسية محاولة لتفكيك مسألة سياسية جد معقدة وتسليط الضوء على الجانب الخفي فيها، من خلال تقديم قراءة نقدية وجمالية لتحولات المجتمع التونسي بعد ثورة الربيع العربي، في المقابل هذه المسرحية لم تكن في مثل تعقد المسألة السياسية، بل كانت بسيطة في طرحا الموضوعي الحكائي.
هذا العمل المسرحي إذن قائم على التفكيك، تفكيك مسألة ذات بعد سياسي، ملمحا تارة إلى بعض الجوانب التي تم الوقوف عليها في تونس بعد الثورة، ومصرحا تارة أخرى، دون الوقوع في المباشرة.
هذا الطرح السياسي قدم في قالب يجمع بين السخرية والجدية إلى حد المأساة، مستحضرا بعض أجواء أوديب ونيرون.
الدموع بالكحول: استنطاق المسكوت عنه
قدمت فرقة أنفاس المغربية عرضها المسرحي “الدموع بالكحول” وهي من تأليف عصام اليوسفي، وإخراج أسماء هوري، وتشخيص أربعة ممثلين برعوا إلى حد بعيد في أداء أدوارهم: هاجر كريكع ومحسن مالزي ووسيلة صابحي وزينب الناجم.
كل واحد من هؤلاء يحمل همومه الاجتماعية والذاتية ويسعى إلى التخلص منها عبر البوح بكل ما ينغص عليه حياته، إنهم أشخاص متوترون قلقون تعساء لكنهم كذلك ثوريون، وهذا ما يضفي على حياتهم قيمة معنوية. لعل السلاح الوحيد الذي يمتلكونه هو أصواتهم وجرأتهم على البوح بما يعتمل بداخلهم، وإدانتهم للفساد الذي يتخبط فيه بلدهم وللعلاقات الإنسانية الزائفة السائدة في مجتمعهم.
هذا الشعور بالضيق الذي يلازمهم طيلة مشاهد المسرحية، والذي يتجلى في معاناتهم النفسية والاجتماعية، تم تجسيده حتى على مستوى الفضاء المسرحي، حيث أن الجدران تحيط بهؤلاء الأشخاص الأربعة من كل الجهات، وليس هناك منفذ للهروب من واقعهم المتردي، ورغم محاولاتهم المتكررة في اختراق جدار هذا الواقع، غير أنه كان دائما يصدهم ويجبرهم على البقاء حيث هم، كان الواقع أقوى من تطلعاتهم وأحلامهم. مع ذلك ظلوا يتمردون على واقعهم بشتى الوسائل، وإن كانت تبدو في كثير من المشاهد أنها عبثية: الصراخ، النباح أحيانا، الرقص، البوح، الاحتفال بالألوان وباللباس، إخفاء المرآة، الجنون.. تذويب الفرد داخل الجماعة.
هذا العرض المسرحي إذن هو انفتاح على أسئلة المجتمع الآنية، وإبراز تناقضاته، بأسلوب فني ممتع، يشد إليه المتلقي من البداية إلى النهاية. هذه المتعة تتحقق عبر عدة مستويات: أداء الممثلين، حيث هناك انصهار في الشخصية إلى حد بعيد، كذلك أداء الموسيقيين الذين رغم أنهم كانوا خارج الركح، إلا أن حضورهم كان بارزا، سيما وأنهم قدموا عرضهم الموسيقي بشكل حي، أي أنهم لم يعتمدوا على تقنية التسجيل، التي عادة ما تقتل الفرجة. يمكن القول إن الموسيقى في هذا العرض تحكي حكاية موازية للنص المسرحي، وبإمكان مشاهدة هؤلاء الموسيقيين وهم يؤدون عرضهم، على اعتبار أنهم كانوا بين الجمهور، لقد كان هناك تناغم بين الأداء الموسيقي وبين حركات الممثلين، لا بل يمكن القول إن إيقاعاتهم الحركية كانت مضبوطة على النوطة الموسيقية، التي أبدعها الفنان رشيد البرومي خصيصا لأجل هذا العرض، دون أن نغفل الأداء الغنائي للفنانة خديجة العامودي الذي قدمته بشكل حي، وإن كان ذلك خارج فضاء الركح كذلك. من بين العناصر التي ساهمت أيضا في تحقيق متعة هذا العرض، نجد الاشتغال على الألوان، وبالأخص الألوان الحارة، التي ترمز إلى التمرد والرغبة في عيش حياة أفضل، بالإضافة إلى تجسيد بعض المواقف التي بالرغم من طابعها العبثي، إلا أنها كان لها دور كبير في خلق المتعة البصرية والذهنية كذلك.
لقد حاول هذا العرض استنطاق المسكوت عنه، عبر التعبير الجسدي ولغة مسرحية شاعرية، لفتح مجال أوسع للخيال.
الزيبق: عندما يحكم الشعب
تدخل مسرحية “الزيبق” التي قدمتها الفرقة المصرية فرسان الشرق للتراث، ضمن المسرح الاستعراضي، الذي يستوحي مادته الحكائية من التراث، وهو من إخراج طارق حسن.
وضم مجموعة كبيرة من الممثلين، لتجسيد فئات اجتماعية معينة، هناك من جهة الشعب ومن جهة أخرى السلطة.
و”الزيبق” هنا إحالة على تلك الحكاية الشعبية التراثية التي ترمز إلى الصراع بين الخير والشر.
وبالرغم من الأجواء التراثية التي تسود هذا العرض، فهناك إسقاطات على واقعنا الحاضر، في محاولة لإبراز مدى حفاظ الإنسان على قيمته التاريخية التي ميزته عبر العصور السابقة.
هناك تكامل بين العناصر التقنية للعرض: الموسيقى، الرقص، اللباس، الديكور، ولعل هذا العرض من بين العروض النادرة في هذه الدورة التي عنت بتجسيد ديكور حقيقي قائم بذاته، متجسد في بناية قديمة ضخمة بجدرانها الشامخة وبعض أثاثها الفخم، وبالأخص الكرسي الذي يرمز هنا إلى السلطة، سعيا إلى خلق عنصر الإبهار البصري لدى المتلقي.
لعل الرسالة التي أراد إيصالها هذا العرض بالرغم من طابعه الاستعراضي الراقص، هو أنه في تراثنا ثمة حلول للعديد من مشاكلنا السياسية والاجتماعية، وأن الشعب هو الجدير بأن يحكم، يكفي أن يكون متحدا وأن تكون له الجرأة على الكلام وأن لا يفقد الأمل.