مستقبل النشر بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي

أصبح النشر الإلكتروني في الوقت الراهن واقعا وحقيقة تحاصرنا كل يوم بعد أن اعتبره إلى وقت قريب عديد من مقاومي (جبهة الورقيين) معركة خاسرة منذ البداية ووهما بل موضة لن تفتأ أن تمرق بعمرها القصير مثل كثير من الموضات الغربية التي برقت لفترة قصيرة ثم أفلت، في حين كانت جل المؤسسات الإعلامية العملاقة ودور النشر الرائدة خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية تعيد هيكلة بنياتها التحتية واللوجيستيكية وفق استراتيجية جديدة تتماشى والثورة التكنولوجية والرقمية التي انعطفت بعلاقات الإنسان وأسانيد النشر التقليدية إلى 180 درجة أي من أطنان الأشجار التي تحولت إلى ورق إلى فسحة فضاء الرقمية صديقة البيئة والقابلة للتمدد بلا حدود تماشيا مع طموح وغواية النص السردي وليس لإكراهات سلطة البياض وجغرافيته المحدودة …
ما يؤكد هذه الحقيقة أن جميع المنابر الإعلامية الورقية المستقلة ثم الحزبية فيما بعد قد أطلقت في مجرة النشر الإلكتروني نسخها الرقمية بعد سنوات من التردد مخافة انهيار صرحها الورقي الشامخ الذي شيدته قبل زهاء نصف قرن ونيف على أقل تقدير، وأيضا مخافة التراجع الكارثي للمبيعات اليومية والذي من دون شك يهدد بالدرجة الأولى مستقبل مؤسساتها بالإغلاق وطاقمها بالتسريح إن لم يكن التشريد مثلما وقع للعديد من المنابر الإعلامية السيارة مثل (لوموند والواشنطون بوست ونيوزويك ..إلخ ).
لم يعد إذن من باب السخرية اليوم أن نتحدث عن صحافة “البيجامة” كما كانت تنعت قبل عشر سنين حيث يكون باستطاعة الصحافي أو المدون عموما وهو على سريره يحتسي قهوته ويمارس مهنة “المتاعب” بعيدا عن جدران قسم التحرير ومحاطا فقط بملحقات إلكترونية معدودة على رؤوس الأصابع: هاتفه الذكي وحاسوبه أو أيباده والربط الشبكي وتلفاز متطور جدا وحساب بريد مايل لتلقي أو الرد على الرسائل ..إلخ
وأعتقد أن الصحافة الورقية اليوم على اختلاف توجهاتها حزبية كانت أم مستقلة، متنوعة أو موضوعاتية قد بدأت تتحسس ضرورة الانتقال بأقل الخسائر من السند الورقي إلى السند الإلكتروني، ما يؤكد هذه الحقيقة هو ارتفاع عدد زوار مواقعها الذي بات يتجاوز يوما بعد يوم مئات الآلاف فيما عدد مبيعات النسخ الورقية في المقابل لا يتعدى بضعة آلاف في أحسن الأحوال .
وما كان لهذه الطفرة أن تحقق غاياتها في استهداف مئات الآلاف من القراء والمتلقين الرقميين لولا الانتشار الواسع للحوامل الإلكترونية وارتفاع عدد المواطنين المتصلين بالإنترنت في مختلف الأوساط والشرائح الاجتماعية وبحث هذه المنابر عن المعلومة الطازجة وأخبار الإثارة التي تحقق إشباع فضول القارئ وتجعل منه مواطنا متشبعا بالمواطنة ومتفاعلا كل لحظة وحين مع أحداث مجتمعه على اختلاف مستوياتها وأهميتها …
لا يمكن أن نتحدث بهذا الصدد عن ثورة النشر الرقمية دون أن نتحدث عن استحواذها على مختلف وسائط نشر المعرفة والعلوم وفي مقدمتها (الكتاب) بما رسخه في ذهنية وذاكرة الإنسانية وعقلها أيضا منذ قرون كوسيط مقدس بين تعاليم وشرائع ووصايا الله وعباده من البشرية وباعتباره أيضا ذخيرة وأثرا وشاهدا على تطورها العلمي والمعرفي والفلسفي والأدبي .. إلخ
آفاق شاسعة إذن فتحتها الرقمية والنشر الإلكتروني منذ مطلع التسعينات حيث عمد مايكل هارت عبر مشروعه الموسوم بـ “غوتنبرغ” الرائد عالميا على مستوى النشر النتي، عمد إلى رقمنة الآلاف من الكتب العالمية المجانية غير الخاضعة لحقوق النشر إلى كتب إلكترونية متاحة عبر الشبكة العنكبوتية لملايين القراء عبر العالم.. ثم في أواخر التسعينات تم اختراع برنامج (لوجيسيال) أدوب رايدر (بي يدي إيف) الذي أتاح للمتلقي إمكانية تخزين الكتب وأرشفتها في المكتبة الافتراضية، ومسايرة للتطور الرقمي والتكنولوجي صارت هذه الكتب عبارة عن كتب (ميلتيميديا) تتضمن بالإضافة إلى النص السردي فقرات صوتية وفيديوهات وصور وعناوين متحركة في الاتجاهين، مما جعل عالم النشر ينتقل من الكتاب البضاعة المحسوسة المعروضة على الرفوف وأرصفة الأكشاك، والتي نقلب صفحاتها بين أيدينا، إلى بضاعة رقمية افتراضية وربما بأبعاد ثلاثية مخبأة في جيوبنا ترافقنا في كل مكان وزمان بالليل كما بالنهار، مما مكن عديد من الدول في العالم، وفي عملية استدراكية للوقت الضائع، إلى نسخ تراثها العلمي والأدبي وعرضه على الأونلاين وبالمجان إلا فيما ندر.. وبالتالي فقد أصبح كل مواطن يملك حاملا إلكترونيا (حاسوبا أو هاتف سمارتفون) مجهزا بالتطبيقات الضرورية للقراءة الفائقة، وصار هذا المواطن حاملا أوتوماتيكيا لأضخم مكتبة عالميا لم يكن ليتصورها عقل إنسان قبل ربع قرن، وتضم أشهر الأعمال الكاملة للأدباء العالميين مثل تولستوي وتشيخوف وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأبي الطيب المتنبي وامرؤ القيس وغيرهم …
أما في المغرب فمازالت تجربة نشر الكتب الإلكترونية تجربة غائبة إن لم تكن مغيبة من برامج واستراتيجيات دور النشر بسبب الارتباط العضوي لهذه الصناعة أساسا ببنية تحتية اقتصادية وثقافية وعلمية متجذرة وحاضرة بقوة على المستويين العمودي والأفقي، وهي على كل حال غير مستعدة في الوقت الراهن بل حتى على المدى المتوسط على المغامرة بالاستثمار في هذا المجال الرقمي استئناسا واقتداء بتجارب بعض الدول الرائدة مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي فاق فيها إنتاج الكتب الإلكترونية عدد الكتب الورقية بفارق مهول يجعلنا نخمن أننا فعلا قد ولجنا عصر نهاية الورق بكل تأكيد..
وتعتبر تجربة مجلة احاد كتاب الإنترنت المغاربة التجربة الوحيدة الرائدة على المستوى المغربي حيث بادرت إلى نشر ما يناهز ثلاثين كتابا إلكترونيا على مدى سنتين فقط لأشهر الشعراء والكتاب المغاربة والعرب نذكر من بينهم الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة (ديوان شعر في ثلاثة أجزاء) والشاعر العراقي سعدي يوسف ومحمد سناجلة رائد رواية الواقعية الرقمية وأفنان القاسم والشاعر الليبي سعد المنصوري والقاصة والإعلامية المغربية ليلى الشافعي ومحمد أديب السلاوي وغيرهم..
ولا مراء في أن هذا التطور التكنولوجي فضلا عن دمقرطة وسائط الاتصال ودسترة الحق في الوصول إلى المعلومة والانخفاض التدريجي في أسعار الحوامل الذكية  كل هذه العوامل سوف تكون حوافز قوية على حث دور النشر على الولوج إلى عصر صناعة الكتب الإلكترونية وإعداد الآليات القمينة بالانتقال السلس وبأقل الأضرار إلى عصر التواصل والمعرفة.
وخاتمة القول إن الكتاب الإلكتروني قادم رغم أنفة الكتاب الورقي. إن الأمر لا يتعلق هنا بصراع أو حرب بين غريمين بل بحتمية التطور أحب من أحب وكره من كره …

Top