نساء في مراكز القرار

حكايات عديدة نسجت في كل مراحل التاريخ عن طبيعة المرأة الفيزيولوجية والبيولوجية واعتبار هذه «الطبيعة» محددا لتدني مكانتها في المجتمع قياسا بموقع الرجل فيه. وقد كان حيفا كبيرا في العديد من مراحل التاريخ البشري أن يُزج بالمرأة، فقط لأنها امرأة، في الدرك الأسفل من المجتمع. لقد كانت المرأة وما تزال ضحية الذهنية الذكورية التي تجعل منها كائنا لا يستقيم إلا بتبعيتها للرجل وموالاتها له، ولهذا، فالأدوار الأساسية والمناصب ذات الحساسية في أي مجتمع كانت وما تزال تسند، في عمومها، إلى الرجل ولا يُلتفت إلى المرأة حتى ولو كانت كفاءتها وأهليتها العلمية تؤهلها لتحمل المسؤولية والوصول إلى مراكز القرار السياسي إسوة بالرجل. من قلب هذه المعاناة التاريخية للمرأة، جراء إقصائها الظالم، يظهر بين الحين والآخر الاستثناء الذي معه تتبوأ المرأة مناصب عليا قد تكون بالغة الحساسية في بعض الأحيان، كما تبرهن على ندّيتها للرجل، وتدحض بذلك كل «الحجج» أو الادعاءات التي تتدرع بها عقلية الذكورة من أجل تثبيت دونيتها. وإنصافا للمرأة من ظلم التاريخ، نورد في ما يلي نماذج من هؤلاء اللواتي كسرن ادعاءات الرجل بشأنهن، بوصولهن لمناصب النخبة والقرارات السياسية في بلدانهن.

إميليا ماري إيرهارت.. “السماء” لإثبات التحدي المستمر للرجل

أميليا ماري إيرهارت أمريكية عالمية، اختارت السماء لتعطي نساء العالم وميضًا بأن الأحلام هي الحقيقة الوحيدة في تعدي الحدود. وأن المرأة دائمًا في تحدٍ مع الرجل، وفي إثبات نفسها للعالم في كل مكان توضع فيه. وفي الوقت الذي يسخر فيه الكثيرون من قيادة المرأة للسيارة، فإن العديد من السيدات خرقن كل مألوف، وحققن النجاح بوصفهن قائدات للطائرات منذ عشرات العقود.
اميليا ماري ايرهارت، ابنة صموئيل” ادوين” ستانتون إيرهارت واميليا “ايمي” اوتيس إيرهارت ولدت في 24 يوليو1897، بأتشيسون بكنساس في منزل جدها لأمها، ألفريد جديون اوتيس.
سميت أميليا، وفقا لتقاليد الأسرة، على اسم اثنتين من جداتها (اميليا جوزفين هاريس وماري ويلز باتون). كانت اميليا تلقب في صغرها بـ “ميلي” ذات شخصية قيادية، بينما أختها الصغرى جريس موريل ايرهارت (تصغرها بسنتين) كانت تلقب بـ”بيدجى” وتمارس دور التابع المطيع. ظل يطلق على الفتاتين تلك الأسماء المستعارة طوال الطفولة حتى كبرتا. كانت تربيتهم غير تقليدية فايمي إيرهارت لا تحب تنشئة أطفالها في قالب “فتاة صغيرة لطيفة”. فكانت الجدة للأم لا توافق على ارتداء أطفال ايمى للسراويل وعلى الرغم من أن اميليا تحب الحرية التي توفرها لهن، إلا أنها كانت على وعي بأن الفتيات الأخريات في الحي لا تلبسن السراويل.

تعليمها

بقيت الشقيقتان أميليا وموريل (أصبحت تعرف باسمها الثاني منذ المراهقة) مع أجدادهن في أتشيسن، في حين انتقل والداهما إلى ديس موينس. خلال هذه الفترة، تلقت اميليا وشقيقتها شكلا من أشكال التعليم المدرسي في المنزل على يد والدتها والمربية. قالت في وقت لاحق أنها كانت “مولعة بالقراءة للغاية”، وكانت تمضى ساعات لا تحصى في مكتبة الأسرة الكبيرة. في عام 1909، اجتمع شمل الأسرة في دي موين أخيرا، والتحق الأطفال بالمدارس العامة لأول مرة، والتحقت اميليا بالصف السابع في سن 12 عاما.
تخرجت اميليا من مدرسة هايد بارك الثانوية في عام 1916. طوال طفولتها كانت اميليا تتطلع إلى مهنة المستقبل، وكانت تحتفظ بقصاصات من الصحف حول نجاح المرأة في المجالات التي يسيطر عليها الرجال، بما في ذلك مجالات السينما والإنتاج، والقانون، والإعلان، والإدارة والهندسة الميكانيكية ثم التحقت بمدرسة اوجونتز في ريدال، ولاية بنسلفانيا لكنها لم تكمل البرنامج.
في لونغ بيتش، 28 ديسمبر 1920، زارت هي ووالدها مهبطاً للطائرات حيث قابلت فرانك هوكس (الذي اشتهر لاحقا في سباقات الطائرات) وعرض عليها ركوب الطائرة مما غير حياتها إلى الأبد. بعد تلك الرحلة قررت على الفور تعلم الطيران. عملت في مجموعة متنوعة من الوظائف، فعملت مصورة، وسائقة شاحنة وكاتبة اختزال في شركة الهاتف المحلية كي توفر 1،000 دولار لدروس الطيران. [33]
التزام اميليا بتعلم الطيران تطلب منها الكثير من العمل الشاق وتحمل الظروف الصعبة باعتبارها مبتدئة. اختارت سترة جلدية ولكنها تدرك أن الطيارين الأخرين سيحكمون عليها، ونامت بها لمدة ثلاث ليال لاعطائها مظهرا باليا. لاستكمال تغيير صورتها، قصت شعرها على غرار الطيارين النساء الأخريات. بعد ستة أشهر اشترت اميليا طائرة Kinner Airster ذات السطحين وكانت مستعملة وصفراء زاهية أطلقت عليها اسم “الكناري”. يوم 22 أكتوبر 1922، حلقت إيرهارت بطائرتها Airster 14,000 قدم (4.300 م)، محققة رقما قياسيا عالميا جديدا للطيارين من الإناث. في 15 مايو 1923، أصبحت إيرهارت المرأة رقم 16 في العالم التي تصدر رخصة قيادة طائرة (#6017) [35] من الاتحاد الدولي للطيران.

أول امرأة تحصل على صليب الطيران الفخري

وتعد “إيرهارت” أول امرأة تحصل على صليب الطيران الفخري، كونها أول واحدة تقود الطائرة بمفردها عبر المحيط الأطلسي، كما حطمت العديد من الأرقام القياسية وحصلت على الكثير من الجوائز، وحققت انجازات عديدة في مجال الطيران فهي مثلا أول امرأة تقود طائرة تعبر المحيط الأطلسي، وأول امرأة تقود طائرة عابرة للقارات، وغيرها الكثير من الألقاب.
ونالت “إيرهارت” شهرة خيالية في المجتمع الأمريكي حينها، كما كانت شركات الطيران والخطوط الجوية تتنافس كي تقوم “إيرهارت” بتجربة أي طراز جديد من الطائرات كون ذلك كان يعتبر أكبر دعاية لهذه الشركة ولهذه الخطوط.
واختفت “إيرهارت” فوق المحيط الهادي قرب جزيرة هاولاند أثناء محاولة للدوران حول الكرة الأرضية عام 1937 باستخدام الطائرة Lockheed L-10 Electra بتمويل من جامعة بوردو الأمريكية.
وبدأت القصة عندما غادرت “إيرهارت” مدينة ميامي، واستطاعت أن تقطع أكثر من 53 ألف كلم، وذلك بعد التوقف للاستراحة والتزود بالوقود في كل من أمريكا الجنوبية وأفريقيا وشبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا، ولم يبق لإتمام الرحلة سوى 11 ألف كلمترا، وكانت معظم المسافة المتبقية فوق مياه المحيط الهادي، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان وانقطع الاتصال مع “إيرهارت” والملاح المرافق لها على بعد 300 كمترا من جزيرة هاولاند.
وبدأت عمليات البحث عن “إيرهارت” أو حطام طائرتها المفقودة منذ ذلك الحين حيث كلفت الولايات المتحدة الأمريكية أسطول جوي وبحري بملايين الدولارات للعثورعلى “إيرهارت”، كما شارك أسطول حربي حامل للطائرات بعمليات البحث وانضمت كذلك سفينتين يابانيتين.
وبعد عامين من البحث وتحديدا في يناير 1939 أعلنت الحكومة الأمريكية عن مقتل “إيرهارت” والطيار المرافق لها وذلك بدون أي إثبات مادي لذلك، ولا تزال وفاتها تخفي كثير من الأسرار والحقائق، خاصة أن التاريخ لم يشهد شخصاً تكلف البحث عنه مئات الملايين من الدولارات وعلى مدار أكثر من 7 عقود، كما هو الحال مع “إيرهارت”.

اعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top