لقد كانت قراءتنا لرواية محمد برادة قراءة تأويلية تفرض المناوسة بين معطيات النص وبين المعرفة الخارج نصية، إذ نكون أمام فاعلية القراءة التي تنتج خطابا قرائيا موازيا للنص الأصلي. والقارئ لنص محمد برادة يستشعر وجود أربعة مكونات أساسية تشكل سيرورة النص الروائي من مرحلة التمثيل إلى مرحلة التأويل. ويتعلق الأمر بالسرد والتاريخ والشهادة والتأويل. والسرد كما سنرى، يستثمر الذاكرة ويسائل التاريخ. والروائي محمد برادة في روايته سيكون شاهدا على العصر من خلال معالجة القضايا الإنسانية سرديا، يقينا منه أن الكتابة السردية لديه متمثلة في قوله: «قد نستجمع الأشخاص والفضاءات والأحداث التي عايشناها منذ الطفولة، لنعيد ترتيبها وإدراجها في حالات وتجسيدات متباينة. قبيلة من الشخوص والسحنات والحوارات نعيد عجنها وتسويتها وفق ما يحلو لمخيلتنا. صانعين عالما موازيا يكون حقيقيا وتخييليا في الآن نفسه»1. وبالتالي نتساءل ما مدى قوة تعالق التخييلي بالواقعي في تجربة محمد برادة السردية الذي تقلد وظيفة الشهادة؟ وفي سياق التمثيل لا الحصر، سنحاول تأويل سردية «المثقف» التي نراها حساسة في رواية «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات». ولا ننسى أن معالجة موضوعة المثقف لا يمكن فصلها عن موضوعة «النضال» التي هي مهمة المثقف.
1- محمد برادة والشهادة على العصر:
إن المتتبع للنماذج الروائية وبالخصوص الإبداعات الأخيرة التي جاءت كالخواتم والنهايات للسير الفنية للروائيين، يجدها تسائل التاريخ انطلاقا من معاناة تنوس بين جرح الذاكرة والرغبة في النسيان. هذا التاريخ الذي يحتوي في سيرورته وصيرورته العديد من القضايا والظواهر والمواضيع والتجارب الإنسانية، يبقى خزانا وذاكرة لمواد معرفية خامة تستثمر من طرف الروائي بغية تشييد خطاب روائي. ولقد كان حضور النسيان أداة لتقويض عنف الذاكرة الأليمة. والتمثيل السردي في الرواية التاريخية نراه يستعير فعل «الشهادة» محاولا استعماله على لسان شخصيات الرواية، هذا الاستعمال يختلف من سياق لآخر، فمثلا علاقة الشهادة بالسرد والتاريخ، نجدها علاقة وطيدة إذ أنها في السياق «الإبيستيمولوجي تشتغل على مستوى تمثيل الماضي في القصة وطرق البلاغة والتصوير»2، فهذا الماضي الذي يشكل حلقة من سيرورة التاريخ نجده يختزن الذاكرة، ولتمثيله يفرض استعمال الشهادة استعمالا سرديا بعيدا عن كل الاستعمالات المتعلقة بمجال القضاء والمحاكم. لقد سعى أغلب الروائيين الذين بنوا أعمالهم الروائية إلى الاعتماد على مرايا تختزن في بنيتها الزمان بمحدوديته. ونحبذ التمثيل هنا بالروائي محمد برادة الذي كانت
آخر أعماله رواية «بعيدا من الضوضاء قريبا من السُكات» والتي جاءت بعد سلسلة من الأعمال الروائية التي أمكن تعدادها في الأسماء الآتية: «لعبة النسيان» و»حيوات متجاورة»… ويمكن القول إن رواية «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات» تساءل التاريخ محاولة أن تعالج موضوع الخيبة التي حدثت لمثقفين نتيجة لحيثيات وظروف ومواقف، وحالت دون تأدية مهمتهم ونجاحها، وجعلت الشباب يتصادمون أمام طموحات مقوضة. من الواضح أن الخيبة مصطلح يحبل بقاموس الفشل والسقوط، وهي كذلك مكون من مكونات الذاكرة لحياة الإنسان، إذ سنكون بين جرح الذاكرة والرغبة في البوح والحنين للماضي ولو في صورته السيئة التي تؤرخ لصراعات وحراكات نضالية متأججة منذ أيام الستينيات. فإذا كانت خواتم الأعمال الروائية لأصحابها مسك ختام لجماع قول حول فترات مرت من تاريخ حياتهم، فإن القارئ لهذه الروايات يجد أن أصحابها حاولوا معالجة أنساق متعددة من قبيل «الهوية» و»المثقف» و»النضال» موازاة مع أنساق أخرى تندرج ضمن ما اصطلح عليه بالطابوهات التي تمثلت في الثلاثي «الحب» و»الجنس» و»الجسد»، هذا الثلاثي الذي قال عنه برادة في حديثه عن الرواية العربية أنها تعيش «رهانا جديدا بعد مرحلة التغيير الحاصلة في الوطن العربي لمرحلة جديدة لا وجود للطابوهات، والكتابة بين السطور، فقد ولى زمن الخوف إلى غير رجعة»3. ويضيف محمد برادة في كثير من لقاءاته، مؤكدا على ضرورة ملامسة الطابوه وجعله مكونا أساسا لشخصياته، إذ يعطي له بعدا جماليا يعكس أبعادا عدة منها «الحرية والتحرر» و»الثورة» و»التمرد». هذه الأبعاد تؤثث لجدلية الصراع القائم بين الثقافة المحافظة والثقافة المتحررة. فإذا كنا نسلم بأن جزءا من الحكمة الإنسانية قد يظهر في أواخر العمر، فإننا سنكون أمام حالة انتظار ستطال الروائي الذي خيبت الحياة آماله وطموحاته، يمكن أن نستعير له ما عرف بـ «انتظار غودو»، أجل، انتظار السراب. وفي هذا الانتظار سيكون الروائي محمد برادة يقاوم مواجع الضياع والفناء، ويحلم بالرغبة في الخلود عبر نصوصه السردية، ويعوض الخسائر التي تكبدها في لحظات شبابه، لحظات النضال، لحظات الصيحة بالذات والبحث عن هوية المثقف، الذي هو نفسه، يعيش الأزمة في الصراع الثلاثي؛ إذ الأول سيكون مع أقرانه المثقفين المخالفين له في التوجهات والآراء. أما الثاني فهو صراع مع المستعمر من أجل الدفاع عن الوحدة الترابية وحصول البلاد على الاستقلال، وصراع كذلك مع السلطة.
في كثير من الأحيان، يتضح لنا أن معظم المفكرين والروائيين وغيرهم من الذين تزعموا قضايا فكرية وعملوا على الدفاع عليها، أنهم في لحظاتهم الأخيرة من العمر نزحوا نحو المهادنة والاستسلام. كيف ذلك؟ ذلك أنك تجد الروائي مثلا في بداية مشواره حتى منتصفه، يقاوم باستماتة من موقعه ويعمل على طرح قضايا متعددة تلامس الوجود الإنساني، هذا الطرح أو المعالجة يكونان باستماتة لا تنطفئ جمرتها حتى آخر لحظات العمر لتتحول من لحظات حرب إلى لحظات تعايش ومهادنة توحي بإرخاء حبل الصراع والقبول بمعطيات تم رفضها زمن القوة والشباب من طرف الروائي.
2- المثقف ورسالة النضال في رواية «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات»
إن المطلع على رواية «بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات» الرواية المغربية الحديثة لمحمد برادة، يجدها عملا أدبيا يسائل التاريخ المغربي الحديث، وينبش في الظروف والحيثيات التي كانت من موقع الفاعل في إحداث تبدُّلات للمراحل والحقب التاريخية التي بدّلت ملامح أوجه الحقب المتعاقبة خلاله، وكذا استيعاب حيثيات تاريخ المغرب في الفترة ما قبل وما بعد الاستقلال، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أي بدءًا من حدود الأربعينيات من القرن العشرين، وحتى العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين. ونحن أمام موضوعة المثقف، نتساءل مع أنفسنا، من هو المثقف؟ وإلى أي طبقة اجتماعية يمكن تصنيفه؟ إلى أي حد يسهم المثقف في التغيير؟ وهل كل مثقف يسعى لتحقيق التغيير؟ ونورد سؤالا طرحته شخصية ‹›الراجي››: «هل نتوفر على الشروط الضرورية للانخراط في الألفية الثالثة؟»4 ونجيبه، بسؤال آخر، ما الشروط اللازم توفرها حتى يتسنى للمثقف أن يخترق الواقع ويساهم في تغييره؟ والرواية هذه، تعالج هذه الإشكالية: المثقف، دون معزل عن الواقع، فالمثقف المغربي يشكل نقطة تماس رئيسة. نستحضر السؤال الذي طرحته شخصية ‹›الأستاذ الرحماني›› في رواية «بعيد من الضوضاء قريبا من السكات»: «كيف ترى أن الأزمة تعبّر عن نفسها الآن من خلال الواقع اليومي؟»5، إذ من خلال الفهم الأولي للسؤال نرى أن ‹›الرحماني›› يؤكد على أن المغرب يعرف أزمة؟ فإذا كان يعيش أزمة، فكيف
الأزمة، فهل يستطيع المؤرخ الرحماني من خلال جمع الإجابات أن يصل إلى حلول للأزمة أم أنه يريد أن يشاطرنا نحن القراء بآلامه كمثقف حلما بالتغيير للأحسن؟ وهل نحن في حاجة إلى مثقف ينهض حالما بالتغيير وكفى؟ أما «توفيق الصادقي» الذي عايش فترات الاستقلال، حيث مرَّ بخندقةٍ وتيهٍ وعجزٍ في التحرر من منطقة التذبذب الحضاري الرامي لتسوية الماضي والحاضر، حيث إن توفيق يهتم بصنع قالب حياتي يميل إلى رؤية الهوية الوطنية بكونها طرائق في اللباس والأكل والزواج، إضافة الحفاوة بما هو غربي فكرا، وثقافة، وسياسة. حينما نفكر في موضوعة المثقف نجد في ذاكرتها التاريخية أنها قد تعلقت برسالة النضال كمهمة يقوم بها المثقف، أعني ذلك المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي بعيدا عن المثقف النسقي الذي يؤثث لخطاب السلطة المفعم بالاستبداد والظلم. ومن نافلة القول، إن النضال كمصطلح، نجد في دلالته المباشرة أنه حال المتمردين والحالمين بالحرية، والإنسان من طبعه ثائر على النظم والقيم التي تكبل حركته، إذن، فالنضال اعتبارا للامتدادات النصية نجده كمعطى دلالي نراه قد تغلغل في ذهنية الشباب المغربي الحالم بالتغيير في الفترة الما قبل الاستقلال وما بعده، فقد سعى الشباب المغربي لمواجهة كل أساليب النهب والريع، ولما أوردنا موضوعة النضال سنتبعها بموضوعة القمع، فهذا الأخير يعتبر عاملا معارضا في نجاح هذا الفعل (النضال). وقد كان العامل الفاعل في تبلور الفعل النضالي هو افتتان بعض الشباب بالثورة الفرنسية 1789 منهم؛ «علي» أخ توفيق الصادقي، وهذا الأخير، فاسمه في دلالته الموسوعية: يحيل على اسم لشخصية مسلمة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك مفردة العلو والارتقاء. أما الأخ توفيق الصادقي؛ فأول دلالة موسوعية لهذا الاسم نجدها هي: التوفيق، النجاح، الفلاح، بالإضافة إلى الاسم الثاني «الصادقي» تحيل على قيم الصدق والوفاء والعهد. إذن نحن أمام العائلة المسْلِمة التي تفتخر بتسمية أبنائها على ما يرتبط بالقيم الدينية الإسلامية. ويذهب «الصادقي» في التعليق على أخيه «علي» ومرحلة الاستقلال، بأنها هي «التي جعلته شبه مستلب تجاه إيديولوجية أمشاج تبشر بالأفضل فيما هي تقفز على الواقع»6، فشخصية توفيق الصادقي كمعطى نصي يمكن أن نُؤَوِّله بناء على المعطيات النصية والموسوعة الممتدة خارج النص، بأنه رمز الانتهازية، الذي سعى لخدمة المجد الفردي، دون أن ينخرط في صفوف الشباب والطلاب لتحصيل التغيير والتحديث، بَيْدَ أن تاريخ فرنسا الزاخر بالفلاسفة والمفكرين قد استهواه ، وكذلك حيرته في عدم إيجاد تسويغ لبلاد مثل فرنسا «يستبيح أبناؤها أن يستعمروا بلادا أخرى يتصرفون فيها بجبروت وعنجهية واستغلال»7، فتسويغ الاستعمار الفرنسي لن يتحقق، فالظَّالِم لا يقر بظلمه، لكن قوانين الإمبريالية والاحتلال الغربي هو دافع الفرنسيين إلى توسيع المستعمرات على جميع الأقطار الضعيفة، إلا أنه رغم ذلك، يرى فيها (فرنسا) المخَلِّصَ من كل ما يعيشه هو ووطنه من أزمة، وفي حين آخر نستعطف مع موقفه الفردي إذ أنه وقف بجانب أمه ليخلصها من وطأة الفقر بعد وفاة أبيه، وبالتالي نكون أمام شخصية مثالية للابن، الرجل المخلص لأبيه، وعدم تملصه من دعم أمه في الدفع بعجلة العائلة إلى الأمام، دون الوقوع في معضلات الفقر واليتم والترمل. ونورد شخصية ‹›فالح الحمزاوي›› إذ نحاول أن نؤول تمثلات النضال عبر هذه الشخصية، حيث يقول «فالح»: «النضال من أجل التغيير يصبح جزءًا من وجودي ومستقبلي..كنت أتفاعل مع الأحداث الساخنة، متعجلا الوصول إلى الجامعة والانخراط في صفوف الطلاب الذين يجرؤون على فضح الاستبداد»8، هنا ‹›فالح›› يتراءى له أن الهدف من النضال هو فضح وتعرية الواقع السياسي، وكشف أشكال الاستبداد والظلم. بَيْدَ أنه في موضع آخر يرى في النضال ضياع العمر والجري وراء السراب والوهم، لأنه لا يغني شيئا في تحقيق الذات وتحصين المجد الفردي، وقد تمثل ذلك من خلال نصحه لابنه، إذ يقول: «وأنا لا أريده أن ينخدع ويندفع باتجاه التطرف والطوبوية التي تؤول إلى ضياع العمر، وإعلان التوبة للحصول على الفتات»9، ويمكن للنضال كذلك في زمن ‹›فالح›› أن يفتح أفاق السياسة، فهناك سياسيون يجنون أموالا طائلة و››فالح›› واحد منهم إذ يقول لابنه: «أنت تعرف أني لي رأس مال سياسي في الحزب والمجتمع»10، لكن نصيحته لابنه تحيل على شيء من الحكمة التي يتفوق فيها الكبار على الصغار، فـ›فالح›› يدرك الواقع السياسي وما يمر به المغرب من مشاكل وأزمات، حيث استفاد من تجربته، وقد أراد ألاَّ يسقط ابنه كمثقف في هوَّة قد سقط فيها الأوَّلون. أما صديقه ‹›حفيظ››: طالب جامعي رفيق لفالح الحمزاوي، قضى تجربة الاعتقال، وهو «مناضل متصوف.. ناضل ليجعل من العمل السياسي أداة للرفض والتغيير، وعندما صدته حيطان المخزن وهلامية الحزب وبراغماتيته قصيرة النظر، آثر أن ينعزل ويكتفي بالتأمل والانتقاد»11، هنا العجز والاستسلام يسكن شرايين حفيظ الذي وهنت قواه في مواجهة المخزن.
هوامش:
1- بعيدا من الضوضاء قريبا من السُكات›، ص: 136 2- الذاكرة، التاريخ، النسيان، بول ريكور، ترجمة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد. ص:245
3- دبي الثقافية: سيف المري: الرواية العربية ورهان التجديد محمد برادة، ع49، دار الصدى، ط1، 2011، ص:(4).
4- محمد برادة: رواية «بعيدا من الضوضاء قريبا من السُكات»، نشر الفنك، الدار البيضاء 2014، ص:9 نفس المصدر، (ص: 9).
5- 6- بعيدا من الضوضاء قريبا من السُكات، (ص:71).
7- نفس المصدر، ص:33
8- نفس المصدر، ص:998
9- نفس المصدر، ص: 150
10- نفس المصدر، ص:149
11- نفس المصدر، ص:1481
بقلم: عبد اللطيف الدادسي