منذ بداية الأحداث العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، وأنا أتردد في رفع القلم لتسطير بعض الخواطر التي تراودني حول هذا النزاع المؤلم الذي قفز بسبب هذا الطرف أو ذاك، وربما بدافع خارجي، بين إخوة الأمس القريب أو البعيد.
إن الجذور المشتركة بين أوكرانيا وروسيا تعود إلى الدولة السلافية الأولى، “كييفان روس”، الإمبراطورية التي أسسها الفايكنغ في القرن التاسع الميلادي، وحيث أن أوروبا بين القرنين الثالث والثامن الميلاديين كانت تنعت هؤلاء الشعوب، بمجموعات سلافية شرقية أجنبية عليها.
في سنة 1654م، أقسم شعب القوزاق ولاءهم لقيصر روسيا مع احتفاظهم بقدر كبير من الاستقلال الذاتي، وأصبحت كييف عاصمة للإمبراطورية الروسية، ومركزا للوحدات الإدارية للدولة الروسية العريقة (عن كتب التاريخ..).
في بداية القرن التاسع عشر، كانت روسيا الإمبراطورية، أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، امتدت حدودها من المحيط المتجمد الشمالي شمالا إلى البحر الأسود جنوبا، ومن بحر البلطيق غربا إلى المحيط الهادئ شرقا، وكان سكان روسيا آنذاك يشكلون ثالث أكبر تجمع بشري في العالم في تلك الفترة بعد الصين، وأما أوكرانيا برزت كأمة قومية مع ظهور النهضة الوطنية الأوكرانية التي يعتقد أنها بدأت في نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر.
بعد الحرب العالمية الأولى، اندلعت حروب فوضوية قسمت أوكرانيا بين بولندا وجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفييتية، تسببت في التمهيد لتغييرات سياسية كبيرة تضمنت ثورات 1917-1923 في العديد من الدول المشتركة. ساهمت الصراعات الخفية المعقدة في نهاية النزاع، إلى بداية الحرب العالمية الثانية بعد عشرين سنة.
ما بين (1917-1921)، اشتعلت، الحرب الأوكرانية السوفييتية، والتي فرض فيها الجيش الأحمر سيطرته المطلقة في نهاية عام 1919 على الأراضي الأوكرانية، وفي 30 ديسمبر من عام 1922، أسس الأوكرانيون البلشفيون جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية وعاشوا مع الشعوب الأخرى معاناة المجاعة القارية التي تميزت بالأمراض القاتلة، والتي حصدت آلاف الأرواح، ما بين 1932 و1933، وواجه الشعب الروسي والأوكراني وقوميات أخرى مآسي الحرب العالمية الثانية، وآثارها المدمرة بكل عزم وتلاحم.
خلال الفترة السوفييتية، عاش معظم شعوب الجمهوريات الخمسة عشر، حياة أخوية واحدة تميزت فيها علاقة المصاهرة بين الروس والأوكران على وجه الخصوص، فمن عاش فترة الاتحاد السوفييتي، وأخص بالذكر، الطلبة الأجانب، لاحظوا ظاهرة الاندماج الكبيرة التي عاشها الروس والأوكران، تجد روسيا من أم أوكرانية أو أب أوكراني والعكس صحيح، كانت جمهوريات الاتحاد السوفييتي مجموعة عملاقة، وكان العالم الغربي يضرب لها ألف حساب. لقد عشت شخصيا سنوات عديدة وأنا طالب بمعهد الطب الثاني بعد ما درست سنتين بمعهد السينما بموسكو، اعتبرت نفسي آنذاك محضوضا.. تعرفت على أشخاص عديدين من جمهورية أوكرانيا، ومن جمهورية روسيا وجمهوريات سوفييتية أخرى ومن دول أجنبية، وكان في نفس الفترة، مئات الطلبة المغاربة موزعين على معظم الجمهوريات السوفيتية، يدرسون بالمعاهد والجامعات في مختلف الاختصاصات العلمية والتكوينية، وكأن الاتحاد السوفييتي آنذاك، عبارة عن عالم موحد تحت راية التضامن والتعاون والأخوة.
عام 1992، حدثت تغيرات كبيرة في العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت معظم الجمهوريات السوفييتية مستقلة عن الاتحاد، الشيء الذي جعل أطماع الدول الغربية ومعها الولايات المتحدة، تتسارع في التدخل المباشر في الأحداث التي تربط الفدرالية الروسية بجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، كجمهورية جورجيا عام 2006 وأوكرانيا عام 2014 وحاليا منذ بداية العمليات العسكرية الأخيرة بين البلدين في السنة الماضية 2022.
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي والأنظمة الاشتراكية الشرقية، ظهرت قوى عالمية جديدة مثل الصين وروسيا الاتحادية، والاتحاد الأوروبي وإيران والاتحاد الإفريقي وغيرهم من التكتلات الاقتصادية الحديثة كمجموعة بريكس، وأصبح العالم الآن عالما متعدد الأقطاب، لكن أطماع الدول القوية كأمريكا وأوروبا ودول الاستعمار السابق، تنهج إما بمفردها أو في تكتلات جيوسياسية، ضغوطات سياسية واجتماعية، وتفرض عقوبات اقتصادية، على دول ذات سيادة، وتتدخل في شؤونها الداخلية، مبررة تصرفها بفرض الديمقراطية عليها بقوة، كما حصل في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى، فهي لا ترغب في أن تدخل دول أخرى ضدها في المنافسة، خاصة دولة الصين وروسيا والهند، وغيرها من القوى الآسيوية الصاعدة.
التاريخ يسجل كذلك أن الاتحاد السوفييتي قام بغزو أفغانستان عام 1979 وكانت روسيا ضمن الاتحاد، وربما كان الغزو لسبب إيديولوجي أو لعلاقة بالحرب الباردة المهيمنة في العلاقات الدولية آنذاك، بين الغرب ودول الحلف الاشتراكي.
عاشت روسيا الاتحادية أوقاتا عصيبة بعد استقلالها من الاتحاد، في بداية وأواخر التسعينات (1991-1999)، فترة حكم بريس نيكولايفتش ييلتسين، حيث عمت الفوضى مناطق روسيا الشاسعة، وانتشر الفساد وانهار الاقتصاد، وتراكمت المشاكل السياسية والاجتماعية، حيث تدهورت الخدمات، ونزل مستوى المعيشة إلى حد غير مسبوق، وتصاعد معدل البطالة والتضخم، وكثرت الجريمة المنظمة في ظل ما يعرف بالمافيا الروسية، التي تغلغلت في معظم مناح الحياة في روسيا. ولم تكن مرحلة التنقل من النظام الاشتراكي إلى النظام الليبرالي سهلة، ثم زاد الطين بلة، دخول روسيا في الحرب مع الشيشان وحدوث عمليات إرهابية متكررة في مناطق عديدة، ولم تنجو موسكو من ذلك.
روسيا الاتحادية اليوم، تحت قيادة فلاديمير بوتين، اتجهت إلى الخوصصة وتحرير الأسعار والأجور، وارتفع عدد المشغلين بالقطاع الخاص، مقارنة بالقطاع العام، وزادت الصادرات الروسية إلى الخارج، وأصبحت قطبا اقتصاديا وعسكريا يندرج في قائمة الدول القوية، من حيث الترسانة العسكرية، لكن الدولة الروسية، لا تخلو من مشاكل اجتماعية كتباين الدخل الفردي من منطقة إلى أخرى، وضعف نظام التقاعد.
بعد نيل معظم الجمهوريات التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي استقلالها، ومن بينها جمهورية أوكرانيا التي ورثت على أراضيها معامل ومصانع للسلاح، أشارت روسيا في كثير من المناسبات، إلى أن هذا البلد يعتبر إرثا تاريخيا داخل الجغرافية الروسية، من حيث قواعد قانونية وإنسانية، وذلك من عهد الإمبراطورية الروسية العظمى، وتعتبر أن الغرب وأمريكا يتجاهلان تاريخ علاقة الشعب الأوكراني بالشعب الروسي، وحتمية الجوار المشترك، المبني على العرق والعقيدة الدينية المشتركة تحت راية الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وعلى اللغة والثقافة والتقاليد والمصاهرة.
كما تؤكد روسيا أن 85% من المواطنين الروس، يعيشون حاليا في شرق أوكرانيا و5% في غربها، و60% في إقليم القرم الذي انضم إلى روسيا بعد الاستفتاء، والذي حصل في شهر مارس 2014 على الحكم الذاتي، كما تعتبر أن إقليم القرم، كان في التاريخ تابعا لروسيا سواء القيصرية أو السوفييتية، إلى حين أهداه لأوكرانيا الزعيم السوفييتي خروشوف، الذي كان من أصول أوكرانية، بمناسبة ذكرى وطنية، وبهدف الدفاع عن الأسطول الحربي السوفييتي، الموجود في البحر الأسود، ذي الموقع الاستراتيجي.
إن الانقسام الحاصل بين السلطات الأوكرانية، وبين مناطق شرق أوكرانيا التي يسكنها القوميون الروس، الذين يرغبون في الانضمام إلى روسيا الاتحادية، وإلى المحافظة على التعلم وتسيير الإدارة باللغة الروسية، أحدث شرخا بين الانفصاليين والنظام الأوكراني الحالي، الأمر الذي أدى إلى مواجهات عسكرية في منطقة دونباس بين الطرفين في السنوات الأخيرة. هذه الأحداث المتوالية دفعت الأطراف المعنية، إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، وتوقيع اتفاقيات مينسك الأولى والثانية سنة 2014 و2015، بحضور رؤساء روسيا وأوكرانيا، وألمانيا وفرنسا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) والتي باءت بالفشل.
بدأ التوتر الروسي الأوكراني عندما اندلع ما يسمى بالثورة الأوكرانية، عام 2014، المعروفة أيضا باسم ثورة الميدان الأوروبي في شهر فبراير، وانتهت بطرد الرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، الذي كان مواليا لروسيا، إضافة إلى ذلك، القرارات الأوكرانية التي اعتبرتها موسكو امتدادا للنازية الفاشية من لدن التيار البنديري الحاكم، المتعلقة بالشروع في إلغاء اللغة الروسية في المناطق الشرقية الموالية لروسيا، وعزم نظام كييف تقوية علاقات التقرب من الغرب وأمريكا، وطلب فتح المجال لأوكرانيا لتصبح عظوا في حلف الناتو.. الأمر الذي أثار حفيظة المسؤولين الروس، إلى درجة أن مجلس الدوما ومجلس الأمة الروسيين، وأحزاب سياسية وشخصيات مرموقة طالبوا القيادة الروسية، بالتدخل عسكريا لحماية الأقلية الروسية التي تستنجد بالدولة الروسية لحمايتها من “بطش النظام الأوكراني الانقلابي الجديد، ومن ترهيب المواطنين ذوي العقيدة الروسية، الذين يعيشون في هذه المناطق” .
موازاة مع التوتر الأوكراني الروسي أخذت العلاقات الروسية الأمريكية تتدهور شيئا فشيئا بسبب ملف أوكرانيا، حيث صرح الرئيس الأمريكي السابق أوباما قائلا “في حال تدخل روسيا عسكريا في أوكرانيا فإنها ستدفع ثمنا باهظا، وستندم على ذلك..”.
توالت الأحداث، وازداد التوتر بين النظام الأوكراني وروسيا الاتحادية، حيث تنظر أوكرانيا لروسيا كدولة محتلة لأراضيها بعد ضم شبه جزيرة القرم ودعم منطقة دونباس المطالبة بالاستقلال عن كييف.
اشتدت الأزمة الأوكرانية الروسية مؤخرا ووصلت إلى اندلاع حرب ساخنة بين البلدين في 24 فبراير سنة 2022، وصفها الجانب الروسي بأنها “عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا”..
روسيا تنظر إلى قضية أوكرانيا على أنها مسألة أمن قومي، حيث تعتبر البحر الأسود جزءا من جغرافيتها الجيوسياسية، كما تعتبر تواجد الأسطول الأمريكي وعدد من الأساطيل الأوروبية بالمنطقة، تهديدا لأمنها القومي. وترى في نفس الإطار، سعي الغرب ضم أوكرانيا للناتو من أجل بناء قواعد عسكرية متطورة في أراضيها، تهديدا لوجودها.. كما يسعى الحلف إلى جعل أراضي أوكرانيا ورقة مفاوضات للضغط على الدولة الروسية عندما يتعلق الأمر بملفات دولية وغيرها.
في بداية الحرب، تباينت مواقف الغرب وأمريكا اتجاه الحرب الروسية الأوكرانية، حيث اتخذت الولايات المتحدة موقفا صارما ضد روسيا، بفرض عقوبات لم يسبق أن استعملتها من قبل، غير أن الموقف الأوروبي كان متذبذبا في بداية الأزمة، لكنه تحت ضغط أمريكا المتواصل لحد الساعة، غيرت الدول الأوروبية موقفها بعد ذلك، وبدأ حلف الناتو الذي يضم معظم الدول الأوروبية وأمريكا، يعقد اجتماعات شبه يومية، كأداة سياسية وعسكرية للضغط على روسيا وعلى دول أخرى كالصين مثلا ولتقديم الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا.
على المستوى الدولي تباينت المواقف الدولية تجاه الأزمة الأوكرانية الروسية، هناك من أعلن رفضه للعملية العسكرية الروسية وسماها بالحرف “غزو أوكرانيا”، ومنهم من لم يعلن موقفه، وآخرون يتفرجون مع استعمال سياسة الكلام تحت الطاولة، تجنبا لخسارة هذا الطرف أو ذلك، وهذا مسموح به في الدبلوماسية الوقائية.
عقدت مؤخرا الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعها السنوي 78 بنيورك في بداية شهر شتنبر 2023، ألقى السيد لافروف وزير الخارجية لروسيا الاتحادية، كلمة مطولة قال فيها: “أجبرت روسيا على اتخاذ تدابير لحماية أمن قومها وحماية المدنيين الروس في المناطق التي يعيشون فيها، ويجري تنفيذ العملية العسكرية الخاصة، التي بدأت في 2022 بما يتفق بدقة والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وسيجري تنفيذها حتى تتم تصفية التهديدات لأمن بلدنا”.
من حق أوكرانيا أن تعيش استقلالها السياسي والاقتصادي وتقيم علاقة سياسية واقتصادية مع أي دولة تشاء، ومنها الاتحاد الأوروبي وتكتلات اقتصادية عالمية، لكن على النظام الأوكراني أن لا يدير ظهره لروسيا الجارة التي لا مفر من التعايش معها، بحكم الحبل السري الذي يربطهما والذي من خلاله تمر كل المواد المغذية والمشاعر القائمة بين شعبيهما.
فمسألة الغاز مثلا، لا يمكن أن تحصل عليه بأسعار تفضيلية إلا من روسيا، وكلما دفئت العلاقة بين البلدين، ازدادت عرى المودة والمحبة بين الأفراد وبين العائلات.. من صالح النظام الحالي أن يحافظ على علاقة طيبة مع روسيا، وأن يبتعد عن المحرضين على قطع الحبل السري الذي يحوي شريان الحياة.
إنه لأسف شديد، أن نعيش هذه الحرب المدمرة ولو عن بعد، عبر الإعلام السمعي والبصري ووسائل التواصل الحديثة والفوضوية، بين إخوة في الدم والعرق، بين شعبين توأمين، كانا بالأمس يعيشون تحت مظلة واحدة، اكتسبوا من خلالها مهارات وتكنولوجيا وعلوم واقتصاد مزدهر، وصداقات مع شعوب أخرى، ومصاهرة بين عائلات من هنا ومن هناك.. من هذه القارة ومن تلك.. فهل ثمار الاتحاد السوفييتي ذهبت سدى بسبب غياب حكمة العقل والمنطق.. أو بسبب الأطماع الخارجية لإضعاف البلدين الجارين والشعبين التوأمين، وزرع العداوة بينهما إلى ما لانهاية…؟
وأختم مقالتي بما صرح به السفير الأمريكي السابق ميتلون دجيك الذي مثل بلاده في السفارة الأمريكية بموسكو، قائلا: “لا مفر لأوكرانيا إلا أن تقيم علاقة صادقة على الأقل غير عدوانية مع روسيا، فإدخال أوكرانيا في حلف الناتو مخالف لإرادة الشعب الأمريكي، وفيه إساءة لأوكرانيا ولمستقبل العلاقة بين الشعبين التوأمين الأوكراني والروسي، وللبلدين الجارين أيضا أوكرانيا وروسيا”.
د. عبداللطيف البحراوي
رئيس جمعية الصداقة المغربية الروسية