الميزة الكبرى التي يتمتع بها المصمم الفرنسي موريس بيجار (1927 ـ 2007) إلى جانب كونه من أهم محدثي فن الباليه في العالم هي، علاقته بالموسيقى، حيث كان يقترب منها إلى أقصى درجة، متحدياً غموضها وصعوبتها ومنافساً لها على الجدارة التعبيرية من خلال الرقص، كما أن اختياراته الموسيقية كانت مثيرة طوال الوقت وغريبة في بعض الأحيان، فقد صمم مثلاً رقصة الإشراقات على أنغام أغنية «تائب تجري دموعي ندما» لأم كلثوم، بعد أن اعتنق الإسلام عام 1974، وباليه باكتي على أنغام الموسيقى الهندية التقليدية القديمة، بالإضافة إلى موسيقى رافيل ومالر وسترافينسكي وغيرهم من مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية.
وعمله الضخم «باليه السيمفونية التاسعة» الذي قام بتصميمه على وقع موسيقى بيتهوفن الجليلة، ويعد باليه للحياة الذي عرض للمرة الأولى عام 1996 من أغرب تجاربه الموسيقية التي جمع فيها بين موسيقى موتسارت وموسيقى فريق الروك الإنكليزي كوين، وصوت فريدي ميركوري مغني الفريق، ويقول موريس بيجار إن السبب وراء هذا المزيج الموسيقي الغريب، هو «تخيله الدائم لفريدي ميركوري يعزف على البيانو مع موتسارت في العالم الآخر» كما أن موت فريدي ميركوري عام 1991 كان ملهماً أو محفزاً من المحفزات، لكن الدافع الرئيسي الذي خلق فكرة هذا العمل هو موت جورج دون الراقص الأول في فرقة بيجار عام 1992 نشأ «باليه للحياة» إذن من الموت، وأهداه بيجار إلى كل من ماتوا مبكراً ورحلوا قبل أوانهم، ومنهم موتسارت الذي توفي في الخامسة والثلاثين من عمره، بينما كان كل من ميركوري ودون في أوائل الأربعينيات عندما فارقوا الحياة.
لا يمكن القول إن هذا العمل من أعظم عروض بيجار، أو أعمقها فلسفياً، لدى مصمم لا يخفي ولعه بالفلسفة التي تربى في ظلها كابن لفيلسوف، ومن يشاهد «باليه للحياة» يشعر بأن بيجار ذهب إلى مدى بعيد في الحداثة غير المفهومة أحياناً، ومنح نفسه الحرية المطلقة في التجريب، رغم إنه كان في السبعين من عمره في ذلك الوقت، كما يشعر بذلك التضارب في المشاعر بين الرغبة في الموت والاستسلام، والتشبث بالحياة والمقاومة من أجلها، وتمزقه النفسي بين الحزن والفرح، ومحاولات رأب صدوع الروح وترميم الذات، في عرض صاخب مزدحم يموج بالراقصين، ويمتلئ بالحركات المختلفة المتناسقة والمتزامنة أحياناً، ولا تعرف الانتظام ولا توحي إلا بالعبث في أحيان أخرى، كما يتحول العرض في لحظات معينة إلى ما يشبه الجمباز وألعاب الأكروبات، أو مشاهد تمثيلية حيث تتوقف الموسيقى ويتقدم راقص الباليه ليلقي جملة أو جملتين، ثم ينقلب الأمر إلى سينما أو شاشة تعرض مشاهد مصورة، ثم تلفزيون صغير هو أغرب ما يمكن مشاهدته في هذا العرض، يرتديه الراقص كحذاء أو يسير بجهازين مثبتين في قدميه يعرضان صوراً متحركة، بالإضافة إلى الكثير من الخطوات والأوضاع، وتشكيلات الجسد الحداثية بدرجة كبيرة، وإن احتوت على بعض حركات الباليه الكلاسيكي الأساسية.
جعل بيجار الحياة أو محاولات الحياة في أغنيات فريدي ميركوري، بينما وجد الموت في موسيقى موتسارت، ونقل الإحساس به إلى المشاهد من خلال الرقص، فالأداء الحركي المصاحب لمقطوعات موتسارت يعد الأكثر وضوحاً من ناحية الفكرة، وإن لم يخل من بعض الأمور الغريبة أيضاً، لكنها مفهومة على كل حال، وينتقل الباليه الذي تبلغ مدته ساعة ونصف الساعة بين موسيقى موتسارت وأغنيات ميركوري، أو بين الموت والحياة، يبدأ العرض بالراقصين الممددين على المسرح تحت الأغطية البيضاء، ثم ينهض الواحد منهم تلو الآخر كأن الحياة تعود إليه من جديد على وقع أغنية «يوم جميل» وينتهي العرض كذلك بذهاب جميع الراقصين للتمدد تحت الأغطية البيضاء على خشبة المسرح، ما يوحي بأن الباليه يدور في حلقة الحياة والموت التي لا تنتهي.
جعل بيجار الحياة أو محاولات الحياة في أغنيات فريدي ميركوري، بينما وجد الموت في موسيقى موتسارت، ونقل الإحساس به إلى المشاهد من خلال الرقص، فالأداء الحركي المصاحب لمقطوعات موتسارت يعد الأكثر وضوحاً من ناحية الفكرة.
وهناك تجسيد لشخصية فريدي ميركوري وشخصية جورج دون، أما الشخصيات الأخرى من أصحاب الرقصات الفردية فهي غير معروفة وتمثل نماذج مطلقة من الحياة، كالأرملة التي ترقص على أغنية
I Was Born To Love You
والفتاة العاشقة ورقصها على أغنية
You Take My
Breath Away
التي قد يظن البعض للوهلة الأولى أن ضربات البيانو في بدايتها تعود لموتسارت، والحق أن الرقصات الفردية تماماً قليلة في هذا الباليه، فهناك دائماً رقصات أخرى على المسرح، فمع رقصة الأرملة مثلاً توجد رقصة ثنائية بين عروس ترتدي فستان الزفاف وراقص يرتدي ملابس الباليرينو، وكذلك رقصة الفتاة العاشقة تصاحبها في الخلفية رقصات غريبة ومجسمات صغيرة ينكمش في داخلها جسد الراقص أو الراقصة.
قام مصمم الأزياء الإيطالي جياني فيرساتشي بتصميم ملابس العرض الكثيرة والمتنوعة، إلى درجة قد تسبب الإرهاق البصري للمشاهد، وقد استلهم بعضها من أشهر القطع التي ارتداها فريدي ميركوري على المسرح في حفلاته، مع بعض التعديلات وإضافة لمساته الخاصة عليها بالطبع، وقد يشعر المشاهد أحياناً بأن فيرساتشي حول هذا الباليه إلى ما يشبه عرض الأزياء الكبير المليء بالأفكار والخطوط والألوان والأحذية اللافتة بشكل غريب، وفساتين الزفاف البيضاء، والسترات الرجالية، وربطات العنق، وكان الاعتماد على اللونين الأبيض والأسود بشكل أساسي للتعبير عن الحياة والموت، مع حضور كبير للأحمر ثم الأصفر والفضي وبعض الألوان الأخرى، ويبدو أن أجواء عرض الأزياء، قد انعكست على حركات الباليه، في الرقصة التي يؤديها الراقصون بالسترات وربطات العنق على إيقاعات أغنية «نوع من السحر» حيث يتحول المسرح إلى ما يشبه الكات ووك ويميل الأداء نحو خطوات عارضي الأزياء ثم يتجه إلى الرقص.
لم يكن ذهاب بيجار إلى موسيقى كوين غريباً في ذاته، لكن الغريب كان جمع هذه الموسيقى مع مؤلفات موتسارت، فإن فريق كوين يحظى بالتقدير النقدي والاعتراف الفني من الجميع تقريباً، وكذلك صوت فريدي ميركوري كان يحظى بالتقدير والاعتراف من نجوم الأوبرا كالسوبرانو الإسبانية مونتسرات كاباييه، التي شاركته في إصدار ألبوم «برشلونة» عام 1988 وغنت ما قام هو بتأليفه من كلمات وألحان، وكان ذلك في بدايات احتضار ميركوري، لذا لم يتردد في الإعلان عن حبه لها على الملأ ورغبته في الالتقاء بها خلال مقابلة كان يجريها مع التلفزيون الإسباني، بعد أن ظل لسنوات طويلة يكتفي بحضور حفلاتها صامتاً متخفياً لا يعلن عن وجوده، فقد كان يؤمن بأنها صاحبة الصوت الأجمل في العالم، ومن يستمع إلى أغنية «برشلونة» يجد أنه كتبها بمشاعر معجب كبير ينظر عالياً إلى نجمته المفضلة، وتبدأ الأغنية بوصف مشاعره لحظة تحقق الحلم وضربات قلبه المتسارعة وأنفاسه المتلاحقة وانبهاره بسحرها الذي غمره بمجرد أن ظهرت أمامه، وكذلك لا يعد وجود فريدي ميركوري في عالم الباليه غريباً، لأنه كان مولعاً بالأوبرا والباليه، يقضي وقته في المسارح لمشاهدة العروض الغنائية والراقصة، وكان الأمر يتخطى متعة التلقي أحياناً ويصل إلى الرغبة في الاشتباك مع الخيال والامتزاج به، وأن يصير جزءاً مما يشاهده على المسرح، لذا قدم عرضاً مع فرقة الباليه الملكي عام 1979 التي رقصت على موسيقى أغنياته، وكان هو بينهم يرتدي ملابس الباليه، ويؤدي بعض الرقصات البسيطة إلى جانب الغناء الحي، حيث يؤدي أعلى النوتات وهو محمول من الراقصين في وضع مقلوب ورأسه إلى الأسفل، كما كان يرتدي ثياب الباليه في حفلاته الغنائية أحياناً بلا سبب، وفي فيديو أغنية «بريك فري» قام بأداء بعض حركات الباليه مع عدد من الراقصين في محاولة للتقريب بين هذا الفن الكلاسيكي وجمهور موسيقى الروك.
يقوم الراقص الفرنسي جيل رومان، الذي تولى فرقة بيجار بعد موته، بأداء عدد من الرقصات الفردية في نسخة الباليه الأصلية القديمة، ومنها رقصة على موسيقى «تاموس ملك مصر» لموتسارت.
وأغنية «بريك فري» حاضرة في عرض بيجار أيضاً، لكنه جعلها تصاحب أكثر فقراته حزناً، على الرغم من مرحها وإيقاعاتها الصاخبة، تلك التي يظهر فيها جورج دون على شاشة عرض كبيرة على المسرح، فلم يكتف بيجار بأن يجسد شخصيته أحد الراقصين، وأراد أن يكون موجوداً في شكل أكبر، أو في أي شكل ممكن، فيرى المشاهد لقطات للراقص الراحل وهو يضحك ويبكي ويدخن سيجارته، كما يرى لحظات من أشهر رقصاته كعصفور النار، وحياة وموت دمية بشرية، وسيمفونية لرجل وحيد، وغيرها من الرقصات، ويبدو إحساسه الذي لا مثيل له، وتأثير تعبيرات وجهه الدرامية التي كانت تميزه بشدة، وتواصله البصري العميق مع تلك النقطة البعيدة الغامضة أثناء الرقص.
يقوم الراقص الفرنسي جيل رومان، الذي تولى فرقة بيجار بعد موته، بأداء عدد من الرقصات الفردية في نسخة الباليه الأصلية القديمة، ومنها رقصة على موسيقى «تاموس ملك مصر» لموتسارت، ومع النغمات السريعة الغاضبة يؤدي رومان حركات توحي بالقوة وفرض السطوة من خلال امتداد الذراعين وانفتاحهما، والدوران في أرجاء المسرح وامتلاك مساحته، بعد أن يدخل بملابسه السوداء لينهي رقصة «نوع من السحر» فيُسكت الموسيقى ويُوقف الرقص ويصرف الجميع، وكذلك توحي خطواته المتسللة الماكرة وابتسامته الخبيثة بأنه يرمز إلى الموت، ويرقص رومان منفرداً على الجزء الأخير من أغنية «بوهيميان رابسودي» بعد أن تختفي المجموعة التي أدت الجزء الأول وراء ستار يعكس ظل رومان، بينما يرقص كرقص جورج دون ويؤدي بعض حركاته الشهيرة، لكن بطريقة أسرع وأكثر حدة، كما يؤدي وحده رقصة على لحن جنائزي لموتسارت بملابس سوداء أيضاً، حيث ينجذب الجسد إلى الأرض دائماً، وتنتهي محاولات النهوض إلى الأرض مرة أخرى، كما توجد الارتعاشات واختلال التوازن والسقوط المفاجئ وارتطام الجسد بالأرض وسماع صوت هذا الارتطام.
وتجتمع «سيمفوني كونسيرتانت» لموتسارت مع أغنية «راديو غاغا» لكوين في رقصة واحدة، أو رقصتين تشتركان في الفكرة نفسها، وتكوين مسرحي يتطور تدريجياً في الرقصة الأولى فيؤدي إلى الرقصة الثانية، يبدأ كل شيء من خلال غرفة خشبية من ثلاثة جدران وبدون سقف، ومع تدفق نغمات موتسارت يدخل الراقص تلو الآخر إلى هذه الغرفة، وكلما نما اللحن وتطور امتلأت الغرفة حتى تتكدس، ولا يوجد رقص بالطبع في هذه المساحة الضيقة المزدحمة، وإنما بعض الحركات التعبيرية البسيطة، ثم يدخل على المسرح الراقص الذي يلعب دور جورج دون والآخر الذي يلعب دور ميركوري، وتنطلق إيقاعات أغنية «راديو غاغا» ويؤدي كل راقص حركاته المختلفة عن الآخر، بالإضافة إلى حركات المجموعة داخل الغرفة الخشبية، وبالفعل تمتلئ موسيقى كوين بالحياة وتقضي على الإحساس بالموت في موسيقى موتسارت التي سبقتها للتو، وقد وجد بيجار في كونشرتو البيانو رقم 21 لموتسارت، تعبيراً عن الموت بشكل غريب ومخيف، أظهره في رقصة تعد من أهم رقصات هذا الباليه، تبدأ ثنائية بين راقصة ترتدي ثوباً يغلب عليه كل من اللون الأصفر واللون الأحمر، ورجل يرتدي ملابس سوداء، وعلى وقع ضربات البيانو الهادئة تسير الحركات كلاسيكية، ثم يتم كسرها بلمسات حداثية، وسرعان ما تدخل الأجساد الميتة الممددة على أسرة بيضاء كئيبة أشبه بطاولة مشرحة الموتى، يحركها بعض الراقصين، الذين يرتدون ملابس التمريض البيضاء، وتتوالى التشكيلات على المسرح إلى أن تُحمل الأجساد الميتة وتوضع على الأرض، ثم يتمدد كل من الراقص والراقصة على سرير الموت الذي يفرقهما ويذهب بكل منهما في اتجاه بعيد عن الآخر.
< مروة صلاح متولي