4 أسباب رئيسية تجعل البحر المتوسط وسكانه في عين العاصفة المناخية

ترتفع درجة حرارة حوض البحر الأبيض المتوسط بنسبة 20% أسرع من المتوسط العالمي، في منطقة تعد إحدى النقاط الساخنة الرئيسية لتغير المناخ في العالم، ومن المتوقع أن يصبح 250 مليون شخص “فقراء مائيا” في غضون 20 عاما.

هذه هي خلاصة تقرير حديث لشبكة خبراء البحر الأبيض المتوسط حول المناخ والتغيّر البيئي (MedECC)، وهي شبكة خبراء علميين دولية مفتوحة ومستقلة تقدم الدعم لصانعي القرار والجمهور على أساس المعلومات العلمية السليمة المتاحة. وتدفع هذه التوقّعات إلى طرح الكثير من الأسئلة حول مدى وأشكال تأثّر المتوسط بالتغير المناخي، وتبعات ذلك على الدول المتوسطية وسكانها.

تأثير التغير المناخي على الدول المتوسطية

جاء إصدار هذا التقرير بعد جلسة مخصصة عن البحر الأبيض المتوسط في قمة المناخ كوب29 التي عقدت في أذربيجان خلال شهر نونبر الماضي. وعلى هامش هذه الجلسة، التقى (رصيف22) أمين عام الاتحاد المتوسطي محمد عبد الكريم بركات الذي يشير إلى أنه من الواضح جدا أن البحر الأبيض المتوسط هو نقطة ساخنة لتغير المناخ، ويبدو أن ارتفاع درجات الحرارة قد أثرت على المحاصيل، كما حصل في مصر وإسبانيا وفرنسا والمغرب، وعلى نحو خاص، تأثر محصول الزيتون بشدة بسبب تغير المناخ، ولم يقتصر الأمر على هذا بل تعداه إلى ظهور أمراض وحشرات جديدة لم تكن موجودة من قبل، إذ بدأت تظهر في البحر المتوسط، وهذا أمر خطير للغاية.

خطر آخر يهدد سكان المتوسط هو ارتفاع مستوى سطح البحر، الذي له تداعياته الكارثية على المدن في المناطق الساحلية مثل دلتا الإسكندرية، وارتفاع منسوب المياه لا يؤثر فقط على المناطق الحضرية في المدينة، بل يؤثر أيضا على ملوحة الأراضي الزراعية، بما يجعل إنتاج المحاصيل أقل، وقد يدفع الناس إلى ترك أراضيهم بسبب قلة المحصول، لذا فإن التأثير هائل حقّا، وأكبر مما نتخيل، بحسب بركات.

وفي لقاء آخر خلال كوب29، تقول الأستاذة في معهد سكريبس لعلوم المحيطات في جامعة كاليفورنيا سان دييغو الأمريكية، ليزا ليفين، لرصيف22، إن التغير المناخي يؤثر على كل شيء في المحيطات والبحار وعلى اليابسة أيضا، وبما في ذلك البشرية، ويعد أحد الأنواع الموجودة، ويمكن التطرق إلى هذا التأثير من خلال ارتفاع درجات حرارة المياه في البحار والمحيطات وتحمّض المياه وفقدان الأوكسجين، وارتفاع مستوى سطح البحر، وذوبان الجليد، كل ذلك يغير كيمياء المحيطات والبحار، وبالنتيجة فإن ذلك يغير بيولوجيا المحيطات وحركتها، التي تتحكم في الطقس والمناخ على اليابسة، وهي بالوعة أو مصرف من مصارف الكربون.

وتشدد ليفين على أن جميع الأنواع في المحيطات والبحار تطورت في ظل مجموعة معينة من الظروف الثابتة في الزمن البشري، وعندما تتغير تلك البيئات، تتحرك الأنواع وتهاجر حيث ينتقل معظمها إلى المياه العميقة للعثور على درجة الحرارة المناسبة، وكذلك ارتفاع درجة حرارة المياه يؤدي أيضا إلى فقدان الأوكسجين في المحيطات والبحار، ومعظم الكائنات البحرية تحتاج إلى الأوكسجين للتنفس، لذلك عندما ينخفض الأوكسجين في المناطق الداخلية من المحيط، فإن ذلك يؤدي فعليا إلى فقدان موائل الأنواع، وهذا يؤثر على البشر، خاصة الدول التي تعتمد على صيد الأسماك في اقتصادها، بحيث يخسر الكثيرون مصادر دخلهم.

علاقة الاحتباس الحراري بالتلوث

في الحديث عن التغير المناخي والدعوات الدائمة إلى التكيف مع الواقع الجديد، يلح السؤال: أي كوكب هذا الذي بإمكانه أن يتكيف في ظل كوارث ونكبات طبيعية مهولة كالتي تحدث على الأرض بوتيرة متزايدة أخيرا؟ في هذا السياق، يلفت أستاذ فيزياء الغلاف الجوي وعلم المحيطات في جامعة ليتشي في إيطاليا، بييرو ليونيلو، في حديثه لرصيف22، إلى أن الاحتباس الحراري والتلوث أمران منفصلان ولكنهما يسيران بالتوازي. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك شخص ما يتمتع بصحة جيدة فهو غالبا سوف يتحمل مواجهة موجات الحر والبرد، أما إذا كان مريضا، فهو على الأرجح يموت لعدم استطاعته المواجهة والصمود والتكيف. وهكذا تماما ما يحدث للنظام البيئي، فإذا كان ملوثا فهذا يجعله ضعيفا وبالتالي أكثر عرضة للتأثر الشديد بالتغير المناخي.

هذا الرأي إذا ما قارناه بتقرير (MedECC)، فإنه يضعنا أمام حقيقة واحدة وهي أن منطقة البحر المتوسط بحالة صعبة وستصبح أصعب مع ارتفاع درجة حرارة الأرض، الأمر الذي سينعكس على سكانها.

في سياق متصل، تشدد المديرة التنفيذية في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، غوى النكت، على أن تدهور سلامة البحر الأبيض المتوسط يشكل تهديدا مشتركا لجميع الدول المتوسطية والعالم، ويزيد من الضغوط على الموارد البحرية، في وقت يعاني الكوكب من أزمة مناخية حادة، لذلك يجب -وفق ما تقول- التعامل مع حماية البحر كأولوية عالمية، ودمج الحلول البيئية في خطط الاستجابة للحروب والنزاعات، لضمان استدامة الموارد الطبيعية ومنع الكوارث البيئية التي تؤثر على الجميع.

وتلفت النكت إلى أن البحر الأبيض المتوسط يعد واحدا من أهم النظم البيئية والمائية في العالم، ويشكل شريانا حيويا للدول المحيطة به اقتصاديا وبيئيا وغذائيا، ومع ذلك فإن الحروب الحالية في غزة ولبنان تفاقم التحديات البيئية التي تهدد سلامة هذا البحر. يضاف إلى ذلك الأساطيل العسكرية التي تتحرك عبر البحر أثناء الحرب والتي تستهلك كميات هائلة من الوقود، وهو ما يساهم في انبعاثات الكربون وتلوث الهواء والمياه، بالإضافة إلى إطلاق الملوثات الناتجة عن عمليات الصيانة والتخلص من الوقود والزيوت في البحر، هذا التلوث يضر بالنظم البيئية البحرية ويؤثر على الكائنات البحرية بشكل مباشر.

مكافحة التغير المناخي أمر إستراتيجي

أمام هذا الكم الهائل من الأزمات المناخية والتلوث الحاصل للمتوسط، ما الذي يجب فعله لمكافحة تداعياته على البلدان المتوسطية وسكانها؟ يشدد الإيطالي بييرو ليونيلو على ضرورة مكافحة التغير المناخي والتخفيف من حدته، لأن التكيف مع 1.5 درجة من الاحتباس الحراري يختلف عن التكيف مع 3 درجات بنسبة كبيرة جدا، من حيث التكلفة ومن حيث الفعالية الإستراتيجية، وهو أمر يراه ممكنا بالتأكيد، علاوة على أنه من الضروري أن نواجه مشكلة ارتفاع مستوى سطح البحر، وكذلك مواجهة مشكلة تغير نوع المحاصيل، ومشكلة الكفاح من أجل مصايد الأسماك.

ويقول أستاذ فيزياء الغلاف الجوي وعلم المحيطات، لرصيف22، إنه لطالما ارتبط التغير المناخي بالانقراضات الجماعية مع تغيرات دراماتيكية في البيئة، وبالطبع تغيرت النظم الإيكولوجية ثم أصبح لدينا نظم بيئية جديدة، لكن بالوقت عينه يجب أن لا ننسى أنه لم يكن انتقالا متناغما سلسا وممتعا، بل كان صعبا، جدا.

بدوره، يدعو أمين عام الاتحاد المتوسطي، ناصر كامل، جميع البلدان التي تأثرت بتغير المناخ إلى أن تنظر في سبل التعامل معه من حيث التكيف، فالتخفيف من آثار التغير المناخي مهم جدا في المقام الأول، ولكن التكيف أيضا مهم خاصة عند النظر إلى تبعات التغير المناخي على بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، وخاصة بعد ما حصل في إسبانيا، لذلك من المهم للغاية التأكد من أن لدينا تدبيرا ماليا، وطريقة مستدامة من الناحية المؤسسية لتمويل الأثر، وتمويل التأثير السلبي لتغير المناخ على الاقتصاد ومعيشة الناس.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه مع اختتام قمة المناخ كوب29، جرى التوصل إلى اتفاق يوفر تمويلا سنويا بقيمة 300 مليار دولار أمريكي من الدول المتقدمة إلى أكثر الدول النامية تضررا من تغيّر المناخ لمكافحة التغيّر المناخي.

ويضيف كامل: “كل زيادة بمقدار درجة واحدة تجعلنا نخسر كثيرا، وكذلك المجتمع العلمي والمحلي. يجب أن تكون لدينا الأدوات الصحيحة، من حيث  الدراسات والتقييم الحقيقي للأرقام. ويجب أن نتأكد أننا سنخسر الكثير إذا لم نتخذ الإجراءات الصحيحة  أو أننا سندفع كثيرا”.

وتحث ليزا على ضرورة مكافحة كل مسببات التغير المناخي، بدءا من التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، ووقف انبعاثات الكربون وثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز، والطريقة الوحيدة للقيام بذلك -في رأيها- هي التوقّف عن استخدام النفط والغاز والفحم لتغذية اقتصادات الدول. كما تلفت إلى أن جميع آليات إزالة الكربون الأخرى لن تحل المشكلة.

الجدير بالذكر أن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ (IPCC) كانت قد أعدت تقريرا حول البحر المتوسط وتأثره بالتغير المناخي، ودعت في الفصل الرابع منه إلى أن تكون إستراتيجيات التكيف الحضرية المحلية متكاملة وتتناول الإسكان والبنية التحتية، مع زيادة المناطق الخضراء الحضرية، وتثقيف أكثر المجتمعات عرضة للخطر، وتنفيذ أنظمة الإنذار المبكر للأحداث المتطرفة ومراقبة الأمراض الناجمة عن تغيّر المناخ، وتعزيز خدمات الطوارئ والرعاية الصحية المحلية، والقدرة على التكيف بشكل عام في المجتمع والمؤسسات المحلية.

لا شك أن التغير المناخي أرخى بظلاله على كوكب الأرض، شاملا البحر الأبيض المتوسط، الذي بات يشكل تحديا حقيقيا للدول المتوسطية وسكانها، ومن هنا ينبغي العمل على الحد من التدهور المناخي عبر انتهاج الطرائق العلمية الناجعة، وعدم الركون للشعارات والتوصيات غير الملزمة التي لطالما تهربت منها الدول الملوّثة، لإنقاذ لكوكب والبشرية جمعاء. 

Top