بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة، وبشراكة مع المجلس الجماعي لمدينة الدار البيضاء، وبتنسيق مع المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، نظمت جمعية “أوتولييه ٱثارٱرت”، تظاهرة فنية بعنوان “نور العتمة” خصصت لتكريم الفنان التشكيلي الراحل عمر أفوس (1949-2005)، وذلك خلال الفترة ما بين 26 أكتوبر و02 نونبر 2023.
بهذه المناسبة، وخلال صباح الجمعة 27 أكتوبر 2023، أقيمت بقاعة العروض بالمدرسة مائدة مستديرة حول المنجز الصباغي للفنان عمر أفوس، نشطها الناقد ابراهيم الحَيْسن، استهلت بكلمة/شهادة لسعيد كَيحيا، مدير المدرسة العليا للفنون الجميلة، أبرز فيها أهمية هذا الحدث الفني وقيمة المحتفى به الذي اعتبره من خيرة فناني جيل الثمانينيات، مستعرضاً في ذلك بعض المحطات الإبداعية الجميلة التي جمعتهما. كما أكد كَيحيا في هذه الكلمة أن المدرسة مفتوحة أمام مثل هذه المبادرات الفنية والإنسانية التي تروم رد الاعتبار لمجموعة من المبدعين المغاربة الذين طالهم النسيان مع ضرورة استحضار مساراتهم الفنية والجمالية لتكون نبراسا للاقتداء. هذا إلى جانب عرض شريط توثيقي حول الورشة الفنية أعده وأخرجه الإعلامي إبراهيم كرو.
هذا وشهدت الندوة مشاركة النقاد والباحثين: عبد الله الشيخ، شفيق الزكاري، ادريس كثير وحسن لغدش الذين قدموا مقاربات متنوعة همت بالخصوص التجربة الحروفية عند الفنان المحتفى به وكذا التجربة الغرافيكية التي تميز بها، فضلا عن مقاربات تأويلية لجوانب من أسلوبه الصباغي الذي اعتمد أساساً على الاشتغال على ثنائية الضوء والظل واستعمال الألوان الترابية والبياض النوراني…
في ما يلي إضاءات على مداخلات الندوة:
عبد الله الشيخ: البحث عن النور في العتمة
تلقننا تجربة عمر أفوس درسا جماليا لا محيد عنه: القبض على نور العتمة. مفهوم العتمة لدى هذا الفنان الناسك ليس مرادفا للظلام والخوف والتيه الأعمى. العتمة تصبح في مسكنه الرمزي معادلا موضوعيا للنور والأمل والتفاؤل. أذكر وأنا منغمر تماما في أشكاله وألوانه الفياضة قول جلال الدين الرومي: “أبق عينيك على النور لتعبر كل هذا الظلام”. لكن عمر أفوس يهمس إلى قلبي في صمت جواني: “أبق عينيك على العتمة لتعبر كل هذا النور”. إن النور المتدفق من عوالم لوحاته الإيحائية مثل “خيط أريان” في المتخيل الأسطوري الإغريقي يهدينا إلى إشراقات هذا العبور وتجلياته في بعدها الصوفي والوجودي معا.
النور للعتمة. العتمة للنور. نبسط أجنحة فكرنا وخيالنا لنحلق بعيدا في سماء هذا الهباء الذي قد نسميه وجودا، وهذا الوجود الذي قد نسميه هباء.
تبقى الرؤية الجمالية هي مرشدنا الروحي عبر هذا المدى البصري لعلنا نتصالح مع أرواحنا المنكسرة في زمننا الموحش الذي ضاقت فيه مغارات الجسد واتسعت فيه جراحاته. هل العتمة هي مقام البصيرة والنور هو مقام البصر؟ هل العتمة هي عتبة الفراغ والنور هو عتبة الامتلاء؟ ألم نتواجد في ليالي غياهب الأزمنة قبل أن نتواجد في ليالي أنوارها؟ بين العتمة والنور حضور وغياب. هذا هو بيان أعمال عمر أفوس التي نحتفي بها بصيغة الجمع، مستحضرين طقس عبورنا من عتمة الولادة إلى نورها، ومن سكر الليل إلى صحو نهاره. أليس النور هو هذه القوى الخفية التي علينا إيقاظها بتعبير الكاتب الأمريكي توني روبينز.
عندما أرخى موج بحري سدوله وأنا أبوح بهذه الشهادة في حق الفنان والمربي عمر أفوس تذكرت على التو قول الشاعر الكبير محمود درويش:
“من سوء حظي
نسيت أن الليل طويل…
ومن حسن حظك
تذكرتك حتى الصباح”….
ادريس كثير: الإبداع عربون الوفاء والإخلاص
رغم أن الظروف فرقت بيني وبين الفنان عمر أفوس ولم تجد لا بلقاء ولا بإطلالة على منجزه، فإن الورقة المسكوكة التي اقتطعها الفنان ابراهيم الحيسن من مونوغرافيته حوله تحت عنوان “سلطان النور” وصور لبعض لوحاته خاصة تلك التي تنتمي للمرحلة الحروفية، حفزتني على أن أدلي بالملاحظات التالية في شكل رؤوس أقلام:
ـ إن اختيار الفنان عمر أفوس للحروفية كموضوع، أو الأصح كموتيف، هو اختيار استراتيجي، لأنه يحسم أمر إشكالية الأصالة والمعاصرة. فالاختيار أصيل يعود إلى اكتشاف الحروف المكونة للغة العربية (في القرن الرابع الميلادي) وإلى تشكيلها ونحتها وتصفيفها والتعبير بها في تركيبها بمزجها وفصلها أو ربطها في كلمات ثم عبارات..هذا الإرث يكون الآن ذاكرة، منذ اللحظة الأولى لفصل الشفاهي عن الكتابي وتأصيلها كذاكرة منفصلة عن النسيان. إن مقاومة التاريخ والتغيرات سيفرز لنا عدة خطوط مختلفة في كتابتها: الكوفي والرقعة والنسخ والثلث والديواني والفارسي والأندلسي والمغربي وخط الطغراء على النقود…
كيف نتعامل ونتفاعل الآن مع هذه الذاكرة؟
أمامنا الآن (أمام الفنان الآن) اختيارات عدة: إما أن يستمر في تخطيط تلك الحروف كما خطها مؤسسوها ويحافظ على صفة فنان خطاط كالفنان محمد قرماد، أو أن يعتمدها كذريعة لبناء وتشييد لوحاته كما يفعل الآن الفنان عبد الله الحريري والفنان سعيد الرّغاي، وقد يختار كل منهما خصائص تميزه كاختيار سعيد الرغاي خاصية التكرار والأمثال أو الأشعار المشهورة أو اختيار عبد الله الحريري الحروف المنفصلة عامة دون صياغتها في كلمات ولا عبارات وتشتيتها في فضاءات كروماتية.
هذه الاختيارات يجيزها ويؤسسها معيار واحد هو الإبداع بين الاستمرار في إبراز جمالية الحرف أو الخط العربي وإضفاء قدسية القرآن عليه واعتماد آيات وسور منه، وبين الاجتهاد في صبغ صفة الأنسنة عليه والعمل على ابتكار أشكال جديدة وجمالية مغايرة، يعترضنا مطبّ يمكن صياغته على الشكل التالي:
“العديد من المحاولات الفنية تميل إلى اختيار روحانية ما تصهر فيها عملها وتدمج ضمنها منجزها، ولتكن هذه الروحانية هي الصوفية سواء كانت طرقية أو فلسفية معتقدين أن نتائج الصوفية إذا وافقت أعمالهم أو أعمالهم وافقت نتائج الصوفية فإنهم حققوا إبداعية فنية وجمالية”.
كأن يخطط الفنان أبياتا شعرية لابن عربي أو الحلاج ويعتبرها إبداعا، والحال أن الأمر لا يعدو أن يكون نقلا أو تقليدا. الصوفية اختيار وتجربة، أما التشكيل فاختيار وتجريب. لكن بينهما قطيعة ابستمولوجية (لكل منهما مسلماته وأدواته و منهاجه)، إلا أن الأسبقية للتجربة أي للرؤية وللحدس على التجريب والتخطيط والتعبير. ابن عربي لو لم “يفتح عليه الله” لما كان شاعرا ولا فيلسوفا، أي مبدعا.
التصوف الطرقي أكثر انغلاقا ودوغمائية من التصوف الفلسفي لأن هذا الأخير أكثر انفتاحا على التجربة يسبر أغوارها لما تنفتح أمامه الأبواب الموصودة والأسرار المستغلقة ويبقى قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة المطلقة. لذا يمكنه أن يعبر عنها صاحبها شعرا أو فلسفة أو تشكيلا.
لماذا نعبر عن “التجربة الصوفية” بقاموس ديني أو لاهوتي غيبي ميتافزيقي؟ لأن التجربة لا إنسانية أو تفوق قدرات الإنسان كإنسان.
ليوطار يسميها “اللاإنساني”، فما هو هذا اللا ـ إنساني الذي يسكننا بشكل غريب؟ هذه الغربة هي أرض يباب، مكان فينا ينفلت من كل مراقبة ويتجاوز كل تواصل، مكانه سري لا نتحكم فيه، بواسطته نكتشف حقيقتنا.. نكتشف الشريك الغريب الأطوار فينا.
هو اللاشعور تارة والحمق تارة أخرى، هو العبقرية هو الذكاء، هو الحدود القصوى لما هو طبيعي فينا.. هو الخارق للعادة.. هو الطفولة حين تكبر فينا..
الإبداع يقطن في هذه الأرض الخلاء بل هو هذه الأرض.. أرض لم يطأها أقوام ولا ألسنة إلا لماما. لم يكتشف إلا اليسير منها. هذه الجهة يسميها دولوز: الكاووص أي العمى والسديم. يمد الفنان يده إليه ليقتطف ما تلامسه تلك اليد. هكذا انبثقت حروف عبد الله الحريري من أفق هذا السديم لذا فهي دوما متدافعة فيما بينها تعاند هذا اللون أوذاك..
حسن لغدش: عمر أفوس، فنان الترانس أبرانس
عمر أفوس، فنان الترانس أبرانس Trans-apparence، واسمه يعني في اللسان الأمازيغي البالغ في إبراز محاسين الرقص وشكل حركاته، وهذا دليل على أن الفنان متأصل في سمو عمله الصباغي، لأنه كان مهووسا بهوية متفردة وضاربة في التقاليد. ولعل استثمار الحروفية المجزأة في شكل تركيبات هندسية جعلت منه مؤولا كالجغرافيا أكثر من كونه حروفيا. لا تقتصر أهمية العمل في كونه تشخيصيا أو تجريديا، بل في حالة عمر أفوس الاشتغال على فضاء الذات هو الأهم، وبالتالي إمكانية التواصل المفتوح والمتعدد مع الآخر في شموليته. لهذا يسعى الفنان جاهدا إلى البحث عن رجرجة ضوئية توافق بين الزمان والمكان، كما كانت أعماله عبارة عن لغة تماثلية بإيقاعات وقواعد صباغية تجلت بالأساس في المفارقة الأولية، ألا وهي أن عمله مفاهيمي وحسي في الآن ذاته.
وإذا كان الضوء عنصرا فارقا في عمله، فهو بالتالي عبارة عن شكل لثنايا الداخل بقصد العبور نحو الابهام ونحو العلامة المنزهة، وبالتالي فالاشتغال على الضوء وأطيافه النورانية قد ينزه ما مشهده الظل في منحى استيمالي قد تكون أعماله مادة قابلة للتأويل النفسي التحليلي لأن عمله نموذج مثالي للغة الكونية. وعليه، فإن كل اللوحات قد تكون استبطائية، لأن عمر أفوس كان يمارس طقسه الصباغي ليفكر وليضمد جراحاته الثاوية. لهذا السبب كان منجذبا في أعماله للبياض الملطف، وكأن به يتوقع المآل التأبيني لكل لوحة..
شفيق الزكَاري: ناسك في محراب الإبداع
عرفت المرحوم عمر أفوس في أواسط الثمانينيات، من خلال معرض جماعي بقاعة النادرة التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة آنذاك، تحت يافطة “الموجة الجديدة” صحبة فنانين آخرين، أمثال موسيك، بوزيان، المقداد، جليب، النافي.. وغيرهم، منهم من لازالوا أحياء، ومنهم من قضى نحبه؛ تلك المجموعة التي قفز عليها تاريخ التشكيل المغربي، أي جيل الثمانينيات الذي لم يوف حقه وبقي في دهاليز النسيان، باستثناء بعض الأسماء التي استمرت لترسخ وتحفر اسمها بالمعاناة.
عرفته وقورا ومبدعا حقيقيا، جعل من سند اللوحة عتبة للتعبير والتواصل بطريقة اختزالية تفصح عن الكثير من الأفكار، عبر المادة واللون والتكوين…، ضمن نسق جمالي يميل إلى الأسود في علاقته بالألوان البنية بتدرجاتها، معتكفا في وحدته كناسك متعبد، يبحث عن الحقيقة في العتمة والنور بصوفية متعالية تتجاوز حدود الفهم وترقى بالمتلقي إلى عوالم ميتافيزيقية لا يمكن أن يستحضر فيها إلا الحس والشعور، عوالم يغيب فيها الشكل وتحضر فيها مساحات لونية مشرعة الأبواب على عوالم روحية لامتناهية ليضمن للمشاهد حرية التلقي من خلال مرجعيته الشخصية.
لم يقتصر الراحل عمر أفوس على جنس تعبيري بعينه، بل كان متعددا، كفنان تشكيلي اعتنق هوس الإبداع في سن مبكرة، فجعل من الصباغة والفنون الكرافيكية مشتلا لأبحاثه ومعبدا آشوريا للقاء الأجناس التعبيرية، مما دفعنا صحبة الفنان نور الدين فاتحي إلى استدعائه لعرض أعماله تخت عنوان “مدى البصر” تحت إشراف النسيج الجمعوي بالمحمدية سنة 2000، فكانت هي المناسبة الأخيرة التي سأودع فيها هذا الفنان إلى الأبد، دون أن أستشرف مستقبله المؤلم، فتحية لروحه الطاهرة، وأشكر طاقم المدرسة العليا للفنون الجميلة على هذا التكريم التأبيني في حقه وإلى كل من ساهم من بعيد أو قريب في إنجاح هذا الاحتفاء.
حسن المقداد: تمجيد النور
أمام أعمال الفنان عمر أفوس، البحث عن تحديد موقع أمر غير مناسب، نزوع إضاءة حول شكل/موضوع، أو أيضا ترتيب فضاء طبيعي منسوخ – ملغوم – لكن، الأمر المناسب بالخصوص هو التأمل. التأمل من أجل اكتشاف هذه الصورة/الانعكاس تدريجيا والتي أثبتتها الذاكرة في حمل دائم: لاختراق فضاء معدني تكتوني رويدا أثارته انهيالات مساحات ذات درجات ضوئية ترابية. خامة أو مصقولة، المواد الملونة بالأمغر والسوداء تتقدم، تتراجع أو تصعد وتبدو أنها خارجة من الفوضى. نشوء عالم حيث الصمت هو الشيخ والشأن الروحي لا مناص منه… وحده شلال من النور هو القادر على تشعيع هذه الظلمات وكسر الصمت المطبق. نور “بري”، مرآة روح، مرآة جسد… ثابتة وغير تشخيصية.
لدى أفوس، الإطار المربع هو الأثيري. هذا “الشكل الأكثر موضوعية” يحث على التقطيع الهندسي، ومثل “ترسيم ناظم”، يضفي غالبا على البناء أسا متينا أفقيا ويوحي، هو أيضا، بالمادة، والثقل والمحدودية الأرضية.
منطلقا من الزوايا أو الحافات، يضبط أفوس عدة زوائد تجتاح الفضاء وتقلصه هادية النظر نحو منطقة توتر – لقاء النور والأرض – حيث تتظاهر، وترتقي آثار وكاريغرافيات تبدو مستخرجة بومضات مفقودة…
أخيرا للإشارة، فإنه بعيدا عن كونه أشكالا لونية أو بنيات بسيطة لجمالية متجاوزة، يعتبر التصوير الصباغي لدى أفوس بالأساس ترتيبا محكما للون/القيمة الذي ينظم بناءه المورفولوجي الخاص، ويساهم في خلق الحدث البصري داخل الإطار.
عقب هذه المداخلات التخصصية، ألقيت كلمات وشهادات لمجموعة من الفنانين أصدقاء المحتفى به، وهم: محمد بوزيان، عبد الكريم الأزهر، محمد شتير والبشير آمال، حيث ذكروا مجموعة من المحطات واللقاءات الجميلة التي جمعتهم به، وقد أجمعوا على خصال ومناقب المحتفى به وما تميز به من دماثة الخلق والأخلاق، إذ كان يفيض بمشاعر إنسانية نبيلة، كريماً، مِعطاءً وخدوماً، كما تشهد له على ذلك سيرته المهنية والإبداعية الفريدة والمتميزة.
* إعداد: الحسين الشعبي