الأوتوبيوغرافيا عمق الروائي
إن الاهتمام بالأوتوبيوغرافيا أو فن الكتابة عن الذات، هو من أعمق المداخل التي تعيد السؤال الوجودي إلى طبيعته الأولى، وذلك من أجل حقيقة الأنا، وعن المسكوت عنه فيها وحولها، بحيث نلاحظ أنه تظهر مقالات هنا وهناك تقلل من أهمية السيرذاتي في السرد، وتعتبره نقصا أو تغطية على الحقيقة، في حين أن الأوتوبيوغرافيا هي جوهر السرديات، ولايمكن للروائي بأي حال من الأحوال، أن يقفز على هذه التفاصيل داخل حكيه، وإذا تحدثنا بخصوص مسألة الرواية، فإننا نقف عليها كفن غني بتفاصيله ودقيق بها أيضا، وأن عمقها هو اهتمامها بالعابرواليومي وبالمباشرالمألوف، وخاصة إذا استطاع الروائي، إعادة خلق كل هذه العناصر، فهذا ما يجعل البعض من القراء والنقاد المتسرعين اعتبارهذا الفن وكأنه كتابة سطحية، تهم المكبوت لا غير. إن هذا التصور تعرية كما يرى الجانب النفسي في حياة الفرد، والمجتمع، والتاريخ، والدين، والسياسة، وإلا لما وجدنا ذواتنا ضمن ما نكتبه، فهل هناك بالفعل إحساس بعدم البوح بهذا التابو؟ ربما أننا نقرأ القضية في علاقتها بالجانب الأخلاقي ، لكن ننسى أن أدب التخييل الذاتي والسيرالذاتي، والأوتوبيوغرافيا والمذكرات وغير هذا كله، يجعلنا نرتبط بالعمق النفساني الذي نقصيه كل لحظة، ولا نريده أن يبقى هو محركنا، لأننا ربما لانولي لهذا أهمية مخصوصة، قد يعتبر مرضا ولا نفكر من خلاله في خلاصنا، والذي يقرأ كتاب un écrivain)’Journal d)، لدوستويفسكي يمكنه أن يلاحظ هذا، إذ أن خاصية الاهتمام بالذات هي في الأصل تشخيص للمرض الذي تعيشه في جمعيتها، والمبدع دوستويفسكي يحلل المجتمع الروسي من خلال بداية رائعة وعميقة جدا، هي اختزال للمقولة التالية: كل منا يريد أن يغتال أباه، فهل يمكن فهم هذا المعطى أولا حتى نقدم سخطنا هكذا، وبالتالي نلغي دفاعنا عن تحررنا الفردي والجماعي، لأن المبدع يتحدث عن الذين كانوا عبيدا ويريدون أن يصبحوا أسيادا، أما زال في الإنسانية اليوم حديث عن مثل هذه اللعنات؟
لاشك أن هذا يمكن الحديث عنه خاصة من خلال سرود متنوعة، فيها ما هو سير ذاتي وروائي( الخبز الحافي ـ زمن الأخطاء ـ وجوه) لمحمد شكري، وروائي تتخلله جزئيات الذات عند محمد زفزاف ومحمد برادة ومحمد عز الدين التازي في بعض نصوصهم، لذا فهذه الكتابة الذاتية نعتبرها كتابة بالجسد على إسفلت الهامش، ونورد نموذجا لها يتجسد بعمق في الإبداع السردي للراحل محمد شكري.
بين الوعي بالكتابة
وكتابة الوعي
يحدد محمد شكري هذه الرؤية عندما يريد الفصل بين أن تكون كتابة الرواية أو السيرة الذاتية جزء من جسد الكاتب أو العكس، بحيث نلحظه غير ما مرة يصرح بأنه يكتب وهو في تمام وعيه، يعرف دقائق صنعته، وما يقوم به من نحت في اللغة والكلمات والأساليب، لا يخلص هنا إلا للكتابة الصريحة، غير المبنية على تجريب فج، أو توظيف خلاعة سطحية، وإنما يريد السمو بهذه العلاقة إلى مراتب عليا، يقول:” المطلوب من الروائي عندما يعيد الواقع ألا يغتصب الحقائق من أجل التشويق المجاني الملهي، وإنما أن يكون موضوعه مصفى في ذهنه الخلاق، أن نفهم الطبيعة من خلال الفن الذي يعمق إحساساتنا وعواطفنا بها”1، فالوعي بالكتابة السردية هو اهتمام بالجانب العميق من نفسية الشخوص وأشكال تحولاتها وتصدعاتها، وبطرائق انتساج الحكاية كمحكي تشخيصي، على اعتبار أن شكل القالب الذي يتحكم في وضع ما، هو الوسيط الضروري لإيصال المعنى، أما كتابة الوعي فهي انشغال بالتفاصيل والتحولات المختلفة والأسئلة ذات الطابع الذاتي والموضوعي، ومحمد شكري وهو يكتب وعيه بطريقته الخاصة، فإنه يختار الكلمة المعبرة ويشذب الجملة مما يعلق بها من شوائب وعلوق، ينخلها بتعبير القدامى، ويحتاط في استعماله للعناوين والبدايات وتفاصيل منعرجات اللعبة السردية والنهايات، ويتضح هذا الوعي في علاقته بتأطير صور الشخوص كتابة، قائلا:” ما هكذا ينبغي لي أن أبدأ الكتابة عنه . إنه شائع بين الكتاب أن البداية صعبة. هذا ليس صحيحا دائما إذا عرفت كيف أتصالح مع شيطان الكتابة”2، وإذا كان محمد شكري غير مستسلم لطقس الكتابة كما هو عند الآخرين، فإنه معاند ومكابرله، ثائر عليه ومغامر فيه، محول له إلى مرايا تعكس الواقع من وجهة انتقادية وسخروية، وخالق منه أفقا للذات في علاقاتها بالوجود والطبيعة، ثم إن شكري لا يفلسف الارتباط بين فهمه للكتابة والوعي الذي ينطلق منه، وإنما يجعل منه تعبيرا صادقا وحقيقة لا تتجاوز حجم الواقع، لذا نجده يكتب بتلقائية، ودون تخطيط مسبق، لكنه يحلو له أن يشعر بانكتاب ذاته فيه دون أن يقصد ذلك، ولربما هو سر الكتابة عنده.
لقد اعتمد محمد شكري في جل إبداعاته السردية الطويلة (الخبز الحافي ـ زمن الأخطاء ـ وجوه ـ السوق الداخلي)، والقصيرة ( مجنون الورد ـ الخيمة) على روائية الهامش الذاتي، باعتباره ـ كما أشار عبد القادر الشاوي وهو يدرس زمن الأخطاء ـ أنه ” يستعيد بصورة خاصة تجربة الفرد في الزمن الماضي ، ويعيد صياغتها لغويا وذهنيا، قصد بناء أناها بناء متسقا له أبعاده الرمزية والدلالية”3، وإذا كان المكتوب السير ذاتي وعيا بشكل الخطاب الحامل لإرساليات متعددة، فإنه يشكل إلى جانب هذا تجربة متكاملة، تنفتح على ما هو شعري، وخاصة عندما يصبح اكتمال الحكي مرهونا بانسجام بين عناصر السرد كالأمكنة والأزمنة والشخوص والأحداث،” لأن شكري صاحب تجربة قبل أن يكون صاحب “أسلوب”، أعماله تقف بهذا المعنى في صف الشهادة، من حيث عنفها ومأساويتها وغنائيتها أيضا”4، أما إذا حاولنا استقصاء كتبه المخصصة لأسماء مبدعين عالميين كتينسي ويليامز وجون جينيه، وصديقه بول بولز، إضافة إلى قراءاته النقدية التأويلية في كتابه : “غواية الشحرور الأبيض1998″، فإننا نجده كاتبا دقيقا، يحتفظ لنفسه بخطه الواضح والمنسجم مع مقروءاته، دون كلل أو تظاهر، ولعل هذا من شيم المبدعين الكبار، بحيث إنه نادرا ما نلفي صراحة مثل هذه الخصوبة في عرض المعلومات والقضايا والإشكاليات عند آخرين، وكأن محمد شكري يتنبأ بنهايته في آخر عمل سيرروائي له” وجوه”، إذ يذكر بعبث الإحساس بها الذي هو أساسا بداية،” لاأبالي بما يسقط من أوراق شجرة خريفي، لقد أعطت لونها وثمرها وطعمها ورحيقها. كل شيء ثم كما شئت وكما لم أشأ. لا أذكر من أشجاني إلا ما يسترق من خشونتها وما يهيجني إلى ذكرى مستطابها. المرء ليس دائما هو كيف انتهى وليس كيف بدأ، فقد ينتهي بما بدأ أو لم يبدأ بما انتهى، إننا ما نصير إليه”5، فمحمد شكري وهو يشخص الواقع المغربي في مراحل متعددة، ابتداء من نصوصه الأولى”بشير حيا وميتا” المنشور ضمن مجموعة “مجنون الورد”6 والموقع بتاريخ1967، إلى حين وفاته7، يستحضر الوعي الكائن الذي يطفح به المجتمع المغربي إبان مرحلة الستينيات وما بعدها، بحيث لا نجد أدنى شك في تعامله مع الأحداث وتحولاتها، خاصة عندما يستدرج علاقاته بالأمكنة وما تحمله من دلالات رمزية، فهي أساسا واقعية غير متخيلة، لكنها عندما تتحول إلى موئل تخييلي تصبح فضاء تتصادى فيه تهويمات التخيل اللامتناهية، وبما أن الكاتب يتحمل كل ما يمكنه أن يطرأ من توقعات على ما له علاقة بالفضاءات الواقعية والمتخيلة، فإن المحكي لا يخرج عن نمط التبني العادي والمألوف، ثم قد يستضيف كل ما هو آهل بالحلم والكشف والمكاشفة.
إن هذه الكتابة التي تستأنس باستحضار الوعي الكائن تستلزم الانغمار في أتون البحث عن الحقيقة المفقودة داخل المحكي، وتستدعي بالتالي إمكانات إعادة الحياة إلى موات الأشياء الواقعية من خلال عرض تفاصيلها وجزئياتها، ف”إذا لم يمسك الأدب الحقيقة كلها فإنه يساهم في البحث عنها”8، بحيث لا يمكن أن يستنطق الكاتب ما يعايشه من خلال العملية التسريدية فقط، بل لابد من الدفع بتحريك فعل الحكي ضمن سيرورة الكتابة الإبداعية برمتها، ومحمد شكري في هذا المنحى يقف على حافة لغة تكتبه ولا ينكتب من خلالها، يقول: “أنا وليد لغة تستضيفني إن لم أقل أنا لاجئ إليها”9.
واعتبارا لهذا الوعي الكـائن الذي ينطلق منه الكـاتب في جـل نصوصه السردية، فإن الإحساس به يتعدد كلما حاول إعادة تشكيله ضمن منظومة القيم الاجتماعية وطابوهاتها، لذا نرى أن الكـتابة بالوعي هـي أساسا التزام بتحولات الواقع، ليس على المستويات الرمزية فقط، بل أيضا على اختلاف مستوياتها الفنية والجمالية والمعرفية، فما يمكنه أن يجعل من الكتابة الواعية بذاتها منظورا واقعيا، هو مدى تمثلها للصورة المجتمعية في أدق حركاتها، ومحمد شكري بعد مرحلة طويلة عاشها في الحرمان والتيه “تبدو له الكتابة الآن نوعا من الإدمان لتهدئة حساسيته المرهفة، ومواجهة فوضى الأشياء والمجتمع. ولن تعوزه”المادة”، فقد اختزنت ذاكرته وأعصابه وجسده ما لا تستطيع” اللغة الفصحى” تشخيصه”10، بهذا تكون سلطة الحكي من خلال تجربته الإبداعية غواية مفتونة بالدهش ومفتوحة على الجمع بين الألفة والغرابة في نفس الوقت.
السرد القصصي
إن القارئ لقصص محمد شـكري بـدءا من ” مجنون الورد” إلى” الخيمة”11، يلاحظ أنه التزم الحفاظ على تدوين تاريخ الضعفاء والمعوزين والمشردين والمنبوذين وغيرهم ممن يعودون إلى أسفل الهرم الإجتماعي، بحيث تبدو المجموعة القصصية الأولى من خلال نصوصها آهلة ببداهة الحياة في إنسانيتها وشقاوتها ورتابتها وبوهيمية شخوصها، كما أن المكان (طنجة) يصيرفضاء أرحب، إذ يتبدى من خلال المسرود موئلا للذات الساردة، فالمحكي في النص القصصي عند محمد شكري يستسلم لليومي في علاقاته بالأشياء. هذه الأخيرة تقتفي أثر ساردها إجمالا، لذلك ف” الإحساس بأسبقية الأشياء في قصص شكري يطرح المسألة المألوفة في المناقشات النقدية حول علاقة الكلمات بالأشياء أو مدى قدرتها على التعبير عما هو حي ومدرك من خلال الذات. ومسألة عجز الكلمات المزمنة .. لكن حل هذه المشكلة عن طريق الإقرار بقصور الكلمات عن تجسيد الأشياء والتجارب والعلائق. يبقى حلا سهلا يلغي ضمنيا جدوى الكتابة وضرورتها .. أو يفتح الأبواب أمام كل طارق بدون تمييز …”12.
وسواء حاولنا استعادة سلطة النص الأدبية أو محافلها الواقعية، فإننا نلاحظ أنها تتأبى على الانصياع للألفة المستكانة، وتتمترس ضمن لحمة تتحقق بفعل قوة جرأة المسكوت عنه الذي يثير شهوة الكتابة، لأن الكاتب يستحضر في تمثله للأشياء كافة التحولات التي تحبل بها رائحة المكان، وتوجسات الذاكرة، وحساسية الذات، وتبعا لهذا،” تظل العلاقة بين الكتابة والذات والواقع المعيش، حزمة من التساؤلات المتشابكة، كثيرا ما تفضي بنا إلى متاهة مسدودة … وحين أفكر في حالة محمد شكري، تبدو لي العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة ملتبسة، وتهتز فعالية الكتابة إزاء حضور الذات ـ الجسد وإزاء انعكاسات الواقع على حيوات الناس …”13، و في هذا تكمن سعادته من خلال إحساسه بشقاوة الاجتماعي وتأسيه.
ولمحمد شكري طريق واحدة في حياته، تتمثل في صوغه لمنظور ذاتي محض، يستقطر من خلاله تجربته المعيشية بألوان مختلفة، تارة بواسطة عنف اللغة، وأخرى بتفجيرالمخيال الجمعي الذي يعد لدى البعض رقيبا أخلاقيا لا يتزحزح، فمن حيث الأسلوب المتنوع المشتغل عليه، يمكن أن يخترق الشعري:
خرجت شابة سمراء من البحر:
صدرها يفيض
الله في القلوب
تسيل في رشاقة
الله في المياه والسراب
عيناها ترفان
فراشتان في احتضار
الله في الضياء والظلام
تسير في اختيال
الله والجمال أينما نكون
لو أنني إله
وهبتها الخلود14
أو كما يرتبط بالنثري الذي ينقض على مساحة الجسد في مملكة اللغة الاستعارية، إذ يصير الكائن المرآوي الممهور بتوابل الحياة الانسانية، والمنفتحة على التعلات والآثام، لذا تنكشف عورة الواقع من جراء الحراك الذي يجريه الكاتب وهو يعيد رص التفاصيل، مع الضغط على الأشياء لتتقرى كنه ماهيتها، ولتمجيد سيماء الجسد يستغور محمد شكري سحرالذات شكلا ومضمونا، يقول الكاتب وهو يصف شكل مشهد: ” عرق، دوخة وغضب. استيقظ. أسماله تحرقه. رأسه، إبطاه وثنيات بطنه تنبجس بالعرق. خلع قميصه. رشته نافورة هوائية. مشى نحو الماء. الله في البحر. قميصه في يده كأرنب بري ميت. غطس رأسه في الماء. رأى مويجات الرمل تتشكل: الله في الأعماق والسطوح. تسربت إليه نشوة بحرية. غاص لحظة. خبط برأسه مثل دلفين فوق الماء. أحس أنه خفيف. دوخته تخف. خرج. يسير. يتيه. قميصه يسيل في يده. مشدود جسمه كطبل. سرواله يندعك. يلمع. تعب من التفكير في الناس”15، فهذه الوضعية التي يشخصها السارد تبقى هي المهيمنة الأساس في النص القصصي، بحيث لا تتراجع أمام شعورها بغباوة الإنسان وهو لا يعير أدنى اهتمام إلى كيانه وإنسانيته، في حين أن المهمش يصبح هو دليله إلى اقتفاء أثرالذات والتجربة.
وهناك آلية دلالية أخرى يمكن أن تكون مستودعا للمخاض الذي تخبط فيه الكاتب دون الإعلان عليه طيلة حياته، تتمثل في احتضانه مواجهة الآخر الذي كان دائما يرى فيه نقيضه. هذا الخيط الناظم بين أن يصير السارد مالكا للحقيقة أو أن يتحول إلى عاكس لها ليس إلا، وهو ما يورد فيه الكاتب علاقاته مع أشهر الكتاب والفنانين العالميين الذين استوطنوا طنجة أيام الحماية والاستعمار وما بعدها، أمثال تينسي ويليامزو جون جونيه و وليام بروزوبول بولزوغيرهم، الشيء الذي يؤكد أن الكاتب لم يكن متصالحا مع الآخر بتاتا، بل كان دائم المواجهة ضد والاختلاف مع، فهاهو الأب الحقيقي يستحضره رمزيا على لسان الساردة، ثم سرعان ما يقصيه، يقول”كنت أعتقد أن أبي قد مات. تركني صغيرة عندما طلق أمي. حين وصلت طنجة قيل لي بأنه ما يزال حيا في الدار البيضاء. كان الخبر صدمة لي. شعرت بالحزن والفرح معا. الغريب أن الرجل الذي عدت من أجله كرهته بمجرد أن علمت أن أبي ما يزال يحيا”16، ونجد هذه الصورة تتكرر في سيرته الروائية على الشكل التالي: ” صرت أفكر: إذا كان من تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو أبي. أكره الناس الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته، لم يبق لي إلا أن أقتله في الواقع” 17، وهذه الوضعية التي نحس أنها تضغط على الكاتب في جل كتاباته السردية هي أصلا بؤرة تشخيصية للذات تتحول بفعل ترسبات سيكولوجية متنافرة، ترمي بأوقاعها في اتجاهات مختلفة دون رقيب، بحيث يبرز التوتر النفسي الذي يتعاظم مع الإحساس الداخلي الذي يصير بدوره جنونا، إنه اللاوعي حين يعيد فهم وتفسير العالم من منظور مخالف لما هو متعارف عليه عند العامة، أما الخاصة فإنها تعي العالم على أنه مجرد تمثلات ليس إلا، يؤكد وليد أبو بكر أن”المجنون إذن هو الذي يرى، هو الذي يعرف، هو الذي يفكر ويتأمل.. هكذا أراده محمد شكري في مجموعته، حتى يقول على لسانه أن الجنون هو الصفة الغالبة على المجتمع الساكن، القانع، المعقود، الذي لا يرى المتناقضات الحادة التي يعيش داخلها، أو هو ـ على الأقل ـ يرى ويقبل. والمجنون يتميز بأنه يقول ما يحس به، من هنا جاء الاختيار فنيا أيضا .. وهو الذي تجاوز كل العادات والتقاليد والمخاوف، ويملك الحرية في أن يفعل ما يشاء .. وأن يقول ما يشاء.. والمجنون في القصص هو المصور الذي ينظر حوله، ويعكس صورة ما يرى، بكل التفاصيل الدقيقة والمحزنة. وقصص محمد شكري قصص تصور الواقع المحزن .. ثم تقف عند هذا الحد”18، وبما أن فعل الجنون يبرز في المتخيل السردي عند محمد شكري كنقيض للمؤسسة الاجتماعية المرادفة للتسلط والقهر والإرغام فإنه يوضح بما لا يدع شكا في الأمر مدى ارتباط الكاتب بجبهة المواجهة والمقاومة للضياع والفقدان واليأس، و” على العكس من معظم كتابنا الآخرين، تعلم محمد شكري لغة الأشياء العارية القاسية، قبل أن يتعلم الكلمات” المعبرة”، لذلك تظل حياته اليومية هي الأساس، وتغدو الكتابة بالنسبة له إدمانا جزئيا يرفض أن يجعل منه قناعا للتجميل أو مطية للارتقاء في السلم الاجتماعية ..”19.
إن السرد القصصي كما هو متمثل في المتن الحكائي عند محمد شكري، يعد من بين أبرز الكتابات النثرية العربية التي تجاوزت الحدود المكانية، بل اخترقت دفينها إلى أبعاد قصوى، بحيث ارتمت في أحضان المغامرة والتخطي والمعاندة، وبذلك كان الاهتمام منصبا على السير الذاتي الروائي أكثر من السرد القصصي، إذ يلاحظ أنه مهما تم استثمار الحكي في النثر إلا وتضاعفت خصوصية التركيز على الذات في استعادتها لجوهر المحسوس الظاهر والمضمر، وبالتالي يمكن أن تطفح هذه الحالة بمختلف العناصر التي تقتضي إما التوتر أو المهادنة.
*جزء من دراسة طويلة
هوامش:
1 ـ محمد شكري. هكذا أكتب. مجرة 7 .2007. صفحة 72.
2 ـ محمد شكري . وجوه. ألطوبريس.الطبعة الأولى طنجة.2000 صفحة72.
3 ـ عبد القادر الشاوي. زمن الأخطاء لمحمد شكري بين جدلية البناء والهدم. مقدمات. الرواية المغاربية ورهانات التجديد. عدد مزدوج 13 ـ 14. صيف ـ خريف1998. ص92.
4 ـ محمد بنيس. المغرب الشقي لا يخاف المحرم. مجرة. ع س. ص85.
5 ـ محمد شكري. هكذا أكتب. م س. 150.
6 ـ محمد شكري. مجنون الورد. مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر.الطبعة الثانية الدار البيضاء.1985.ص61.
7 ـ توفي محمد شكري بتاريخ 15 نوفمبر 2003.
8 ـ9 ـ محمد شكري. هكذا أكتب. م س. ص69.
10 ـ تقديم محمد برادة لمجموعة مجنون الورد لمحمد شكري.م س ص4.
11 ـ محمد شكري الخيمة. مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر. الطبعة الأولى. فبراير 1985.
12 ـ محمد شكري. مجنون الورد. م س. ص8.
13 ـ نفسه. ص7.
14 ـ نفسه. ص20.
15 ـ نفسه.ص21.
16 ـ محمد شكري. الخيمة. م س. ص49.
17 ـ محمد شكري. الخبز الحافي. طبعة ثانية1983.ص83.
18 ـ وليد أبو بكر. مجنون الورد، هل هو العاقل الوحيد؟ مجرة. م س. ص161.
19 ـ محمد شكري. مجنون الورد. م س. ص5.
بقلم: محمد صولة