مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات
ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..
< إعداد: زهير فخري
الحلقة العاشرة
مع القاصة والروائية والمترجمة حنان درقاوي
طفلة تدفع ثمن خلافات الكبار
أول مرة دخلت كتابا قرآنيا كنت في تنجداد، بلدة في إقليم الراشيدية ناطقة بالأمازيغية. كان أبي غائبا للدراسة في الرباط وأمي هي من أدخلتني إليه.
كان الكتّاب عبارة عن غرفة سقفها وجدرانها وأرضيتها من طين. وفيها حصير دوم انسلت حوافيه. كنا نقعد متقاربين متلامسين، وكان بالقرب مني طفل رأسه مصاب بداء الثعلبة (التونيا). كان منظره مثيرا للغثيان.
كان الفقيه الذي بدون أسنان يتلو علينا كلمات لا نفهمها، لكني كنت أحب إيقاعها وكنت ألوح برأسي متظاهرة بأنني فاهمة، فيما لم أكن أعرف ولو كلمة واحدة بالعربية. كان يضرب رفاقي بعصاه الطويلة، ولا يلمسني نهائيا كأن لدي طاقية إخفاء تمنعه من معرفة أني لا أفهم شيئا.
فيما بعد دخلت المدرسة في ميدلت، وكان أبي منعنا من التحدث بالأمازيغية في البيت. ورغم أن هذا يبدو كأنه قسوة منه، فإن نيته وراء هذا المنع كانت حسنة، إذ كان يريد أن نتعلم اللغة العربية بسرعة. ولأننا لم نكن نعرف منها (العربية) حرفا فإننا بقينا صامتين لأيام طويلة، وهي الفترة الوحيدة التي صمتنا فيها وساد الهدوء البيت.
كانت الدورة الأولى كارثية لأنني لم أكن أعرف حرفا واحدا. كان التلاميذ يسخرون من لهجتي. بقيت هادئة لشهرين، وذات يوم جن جنوني وهاجمتهم بالحجارة وأصبت منهم الكثير ولم يدر المدير ما يفعل، فأبي كان رئيس مصلحة التفتيش وهو (المدير) يرتعد منه ومن صرامته واستقامته. بعدها بدأ زملائي التلاميذ يحسبون لي حسابا.
انتهت الدورة الأولى بحصولي على الدرجة التاسعة والأربعين من بين اثني وخمسين تلميذا في القسم.
كانت الريشة والمحبرة من أسوأ ذكرياتي.. إذ كنت أوسخ دفاتري وأمسح الأوراق إلى أن تتمزق. بعد كارثة الدورة الأولى بدأت أحصل على الترتيب الأول ولم أتنازل عنه بعدها.
لم أتعرض للكثير من العقاب لا في القسم ولا في البيت لتفوقي ولانضباطي والتزامي الأدب واللياقة. في إحدى المرات في القسم الثاني ابتدائي شد الأستاذ عدنان أذني لأني كنت أكتب الواو على شكل ملعقة مقلوبة، وكنت أعتقد أنني أتفنن في كتابتها وأنه سيرضى عني. فيما بعد بسنوات أحيل المعلم الجليل على التقاعد بعد أن أتلف أذن تلميذ من كثرة الشد.
في الإعدادية صفعني أستاذ العربية لأني أحدثت ضجيجا في قسم أستاذ الفرنسية الذي لم يعاقبني. حين أخبرت أبي قال إن بينهما اختلافا في النقابة (كدش) ويبدو أني دفعت ثمن خلافات المناضلين.
خارج هذا لم أتعرض في المدرسة لأي شكل من أشكال العقاب أو التوبيخ، بل كنت أثير غيرة الجميع لأن الأساتذة كانوا يحبونني وكانوا يقولون هذا أمام الجميع، ولازلت أذكر أن أستاذي للفرنسية السي الطاهر الودغيري حملني على كتفه ونزل بي الدرج من شدة الحب وكان حين أحدث ضجيجا يقول: “أفكر في رميك من النافذة لكن أباك سيطلب فدية مليار” من شدة حبه لي تعرف على أبي وصار صديق الأسرة.
لم ينتظرني أحد يوما أمام المدرسة. منذ اليوم الأول كنت أذهب إليها وأعود لوحدي، وحتى يوم اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية لم يأتني أحد بالـ “هنريس” أو “دانون” أو بأية هدية. يبدو أنهم نسوا. لكن لا يهم فقد كنت الأولى في الشهادة ومستغنية عن كل الهدايا وعن “دانون” الذي كنا نأكله فقط حين نمرض ويأتي إلينا به الزوار…