ألف.. باء..

مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات

ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..

< إعداد: زهير فخري

الحلقة السابعة

مع القاص والروائي والتشكيلي عبد الحميد الغرباوي

العيش في برزخ ما بين الواقع والحلم

في لحظة كتابة هذه الورقة، يفصلني عن طفولتي الأولى ثلاثة وستون عاما.. إثنان وعشرون ألفا وتسع مئة وخمسة وتسعون يوما..
وأتساءل إن كانت هذه السنوات وهذه الأيام حقا فاصلا بيني وبين طفولتي..
هل انقرض ذاك الطفل، ولم يعد إلا ذكرى؟
دون وعي مني أسميت البدايات بالطفولة الأولى، مما يعني أن ثمة طفولة ثانية وثالثة وربما عاشرة..
هل للطفولة علاقة بالعمر أم بما يحمله الإنسان داخله من أحاسيس ومشاعر وحيوية ونشاط؟..
وأنا أقترب برزانة وروية من عتبة السبعين، لا أخالني إلا طفلا خف شعر رأسه وشاب، وتجعدت يداه وسقطت بعض أسنانه فعوضها بطقم يملأ فراغاتها..
أجل طفولة الإنسان “طفولات”.. مليئة بالأحداث والتقلبات والصدمات.. غير أن الذاكرة، لحكمة ما، أو لدواع نفسية تنسيه في العابرة منها ولا تحتفظ إلا بالمؤثرة والتي من خلالها تتشكل شخصيته، أو أسطورته الشخصية، على حد تعبير الكاتب البرازيلي باولو كويلهو.. في الحقيقة حتى العابرة تترك ظلال تأثيرها.. ونجمع كل ذلك في ما نسميه: تجربة..
عشت وأنا في الخامسة من عمري يتمين، اليتم الأول: انفصالي عن حضن الأم بسبب الطلاق..
ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، ذلك لأن أول ملاحظة قد تتبادر إلى ذهن القارئ أن الحق في الحضانة يكون للأم بعد الطلاق.. ومن أراد توضيحا أوتفصيلا فعليه بقراءة كتابي الصادر عن دار الرشاد بعنوان: “سيرة طفل/ رسالة من والد إلى ولده”..
واليتم الثاني: موت الأب.. عشت اللحظات الأخيرة لاحتضاره.. أذكر أني بكيت بحرقة.. هل كنت أعرف ما معنى الموت؟.. أنه الفراق الأبدي؟.. أنني منذ تلك اللحظة صرت بلا أب؟..
لكن بعد ذلك بوقت قصير سكت.. توقفت عن البكاء…
ذاك الصغير الذي كنته، لم يكن في كامل وعيه، بل كان يعيش في برزخ ما بين الواقع والحلم.. كنت أعيش أيامي في حلم.. وهكذا كبر معي الحلم، حلمي، ويوم سألتني إحدى عماتي سؤالا اعتبرته فيما بعد سؤالا مستفزا، قاسيا، مؤلما، ولست أدري لم طرحته: “أين أمك؟”، وكنا يومها قد انتهينا من مراسيم دفن الوالد في مقبرة تقع على هضبة تشرف على البحر.. أيقظت في الإحساس بالحرمان من صدر أمي، وما كان مني إلا أن أجبتها: “أمي تعيش هناك”، مشيرا بسبابتي إلى البحر.. إلى خط الأفق، الخط “الوهمي” الذي يفصل السماء عن الماء..
اسمحوا لي، ولن أكون أنانيا أو متعاليا إذا قلت إن ردي على سؤالها المستفز وبتلك الطريقة، كان يبشر بشاعر أو كاتب سيملأ محيطه بكلام لا يشبه كلام باقي الأطفال.. لا أحد انتبه في تلك اللحظة إلى عمق ردي.. وكل ما بدر من عمتي وممن كانوا إلى جوارها، هو الضحك.. أضحكهم ردي لغرابته..
كغيري من أطفال الخمسينات جلست على الحصير في المسيد، وعين على اللوح والأخرى على خبزي وزجاجة شايي المتدليين من سقف المسيد القصبي.. كنا نقضي ساعات طوالاً نفترش حصيرا خشنا ونحن نصرخ بما “حنش” لنا الفقيه في الألواح من آيات إلى أن تجف حناجرنا، وكل ذلك تحت ترهيب ووعد ووعيد عصي الفقيه المختلفة الطول.. القصيرة للقريبين من قعدته والطويلة للبعيدين عنها.. ثم جاءت مرحلة المدرسة.. كنت أبدو ضئيلا وسط تلاميذ بعضهم تخطوا مرحلة البلوغ.. قاعة كبيرة ربما كانت تضم عدة مستويات دراسية.. فترة الخمسينات كانت فترة حرجة وحاسمة في تاريخ المغرب بكل مؤسساته..
كل ما أتيت على ذكره كان مسرح أحداثه مدينة سلا، علما أني ولدت في منزل يجاور سينما شهرزاد في الدار البيضاء..
بعد وفاة الأب، سأعود إلى مسقط رأسي الدار البيضاء، وسأنعم بحضن الوالدة، وسأدخل المدرسة وأهم شيء كنت أبرع فيه وأجد فيه راحتي الحكي.. كانت كل فروض الإنشاء أو كما نسميه اليوم “التعبير”.. تتضمن حكيا، وأهم أداة كنت أستعين بها في حكاياتي هي (كان) و(كانت).. كان عقلي مليئا بالحكايات.. وأفضل اللحظات لدي هي الانزواء في ركن في البيت وقراءة قصة أو حكاية، وكان لجدتي من أمي نصيب في تكوين شخصية الحكاء أو الوصّاف لدي..
كنت في كلامي أدهش محاوري من الكبار حين أستعمل كلمات وعبارات بالعربية الفصيحة.. كاتب ومعلم هذا كل ما كنت أتمنى أن أكونه في المستقبل.. كنت معجبا بمعلمي اللغة العربية، لكن معلمي الفرنسية كانوا يرعبونني، وخاصة في مادة الحساب وجداول الضرب التي كنت أُضرب على عدم حفظي لها..
إيه يا ليام..
والباقي أنتم تعرفونه.. أعني بالباقي أي البقية من الحكاية/ السيرة الأدبية..
عمتم صباحا..
أو عمتم مساء
أو تصبحون على خير أيتها الصديقات.. أيها الأصدقاء.

< عبد الحميد الغرباوي

الوسوم ,

Related posts

Top