أَنا الصُوفِيّ، الشَهْوانِيّ، الخمراوي: رحماكَ، يا حَبِيبي، وَإِلّا أَبْغِي الرَحِيل!

سَلام عَلَى الشَرايِين آلتِي ٱِنْفَجَرت،

لَمّا هَوَت صَخْرَة عَلَى ثَغْر حَبِيبي.

أَتَذَكَّر بَسْمتها.

 أَتَذَكَّر ضَحْكتها.

لَازلتُ أُسْمَع صَيْحتها،

قَبْلَ صَمْتها الأَخِير !

سَمِعَت فِي هديل الحَمام صَوتَ حَبِيبي يَحْتَضِر،

كَلاماً رَقِيقاً يَخْرُج من فَمه، وَيَنْتَحِر. 

سَمِعَت فِي صَوت حَبِيبي، 

هديل الحَمام يَنْتَظِر..

يَنْظُر من شُرْفَة عِتْقه..

 مَن غُرْبَة رَتْقه..

وَعَلَى حَتْفه البَطِيء،

 رُوَيْداً.. رُوَيْداً، فِي العِراك مَعَهُ،

 عَلَيهِ، فِي الخَتْم، يَنْتَصِر!!  

وَها أنذا،

أُعانِق نَفْسِي فِيها.

وَأُعَزِّيها.

أَنا غادَرتُ مَعَها وَرَحَلت فِيها مَعَها.

وَعُدتُ مَعَها إِلَيها.

 نُناجِي الرضعين اللذين أَنْقَذانا من الهَلاك!

رحماكَ، يا حَبِيبي، رحماك.

قَد لا يَكُون لِي بَدِيل،

إِلّا الرحِيل، فِي سَماك.

أَطِير فَوْقَ جِبال الحَوْز، فَلا أَرَى إِلّا الفَناء،

بَدا يَنْمُو عَلَيهِ شَوْق، عَسَل، وَبَهاء.

كُلّ الدُور تَهَدَّمت، ٱِنْبَطَحت، وَتَفْتَت عَلَى أَهْلها.

وَأُخْرى تَشَقَّقت، سَال دَمها، خَرَجت رُوحها.

أسْوار بِها شُقُوق.

لا زالَ بِها بَلَل دَم أُمِّي وَأَبِي.

يُعَصِّر مواجع تَئِن حَدَّ ٱِنْفِجار دُور كانَت لا زالَت صامِدَة.

آيلة.

مائِلَة.    

تُظَلِّل عِنْد سُقُوطها،

رَضِيعا شاغِرا فاه.

يَبْحَث عَن صَدْر أُمّه،

وَرُوحهُ صاعِدَة.

أَصْداؤها عائِدَة.

تُعانِق الرحِيل وَالغِياب.  

                                 كُلّ الَّذِينَ أحِبّهُم رَحلُوا.

لَم تبْقَ مِنهُم إِلّا صَيْحَة،

صَمَدت بُرْهَة، ثُمَّ ذابَت فِي المَدَى.

كُلّ الَّذِينَ عانَقتُهُم،

حِينِ كَآن الماعِز يَتْلُو عُشْبهُ بَينَ التلال.

يُراقِص خُيُوط الشمْس، قَبْل المَغِيب.

وَيَلْهُو مَعَ الأُمَّهات تارَةً، وَدَوْماً مَعَ الجَدّات.

كُلّ الماعِز، هٰذا، تَأَبَّطَ الردَى،

تَشْبَث بِكَمَنْجَة الروح الأَخِيرَة،

حِين هَوَت صَخْرَة القَبْر،

عَلَى دَهِشَة رمْشهُم العَسَلِيّ.

 كُلّ الَّذِينَ أَحْبَبتَهُم، دَهِشُوا من مَوتهم.

سَلَّمُوا نَفسَ صَدْرهم، وَقَصصَ حكيهم، وَخُطى سَعْيهم،

إِلَى البارِي الجَلِيل.

يَدْهُن مَجِيئهُم.

يُدارِي حُلُولهُم.

يُهدأ من وَجَع رَحِيلهم.

من عَلَى فَوْق التَلّ..

من عَلَى فَوْق الجَبَل..

جَنْب الوادِي..

أو تَحْتَ أَغْصان الشجَر.

بَين أَهازِيج أَعْراس الجِبال.

حِين طُلُوع الندَى، طُلُوع الفَجْر.

وَخُرُوج القَنافِذ من جُحْرها،

حِين ٱِشْتِداد الصقيع عِنْد السكُون.

وَٱِهْتِزاز النَجْم من عَرْشه.

لا زالَ فِي الصَدْر أَلَم دَفِين.

أَبْنِي فَوْقهُ مِئْذَنَة وَجَوامِع.

وَأَغْرِس ما بَين أَنّاته، أُغْنِيات وَحَنِين.

أَقُصّ بَين فَواصِله ملاحم وَرَوائِع.

وَعَجائِب لحكايا وَأَسْرار وَخَبايا.

لِرُضَّع حَفَرُوا الأَنْقاض وَالتُراب بِالأَظافِر.

ٱِسْتَخْرَجُوا جثَت الأُمَّهات عُراَة.

وَجَنِيناً تَبِع صَوْت أَباه.

أَرْجعهُ عَنْوَةً لِصَدْره،

تَبَنّاهُ وَصَحّاهُ، من نَوْمَة وَسُبات.

وَغَطّاهُ بِالرَحْمَة وَالتَسْكِين.

لَمّا كَآن الكُلّ قَد فَارقَ الحَياَة!

يَسِيل جَفاف الوادِي،

ما بَين أَلهنا وَهُناك.

يَسْتَحِمّ فِي يُبْسه فَراش الهَلاك.

تَتَراءَى لَنا من بُعَيْد،

مَوانِئ تَرْسُو عَلَيها الأَغانِي وَالأمْنِيات.

تَنْفُخ فِيها هَواء طِين “لَقصُور”،

جَنَّة تُحْيِي مَوتانا من قُبُور.

وَتُعِيد لَنا ما ضاعَ مِنّا من رُحَّل.

هَجرُوا البِلاد غَصْباً،

حِينِ كانَت الأَرْض تَهْتَزّ تَحتّهُم وَتَمُور!

أَنا اليَتِيم.

أَنا الوَحْدانِيّ.

أَنا الصُوفِيّ، أَنا المَخْمُور.

فَيا، شَيْء من حُزْن العَذارَى.

مَن لَوْعَة العاشِقِين الحَيارَى.

مَن لَظَى مُدام السَهْرانَين السكارَى:

يَوْم القِيامَة، يَوْم الحِساب، أَمامَ الربّ الجَلِيل!

أَنا الصُوفِيّ، أَنا الشَهْوانِيّ، أَنا الخمراوي.

رحماكَ، يا حَبِيبي، رحماك.

قَد لا يَكُون لي بَدِيل،

إِلّا الرَحِيل في سَماك!:

أُطالِب، وَأُطالِب، وَأُطالِبكُم،

بِحَقِّي، بِحَقِّي الوَحِيد.

أُطالِبكُم بِحَقِّي الوَحِيد فِي المُرُور!:

أَيّها العائِدُونَ إِلَى حضْننا.

هٰكَذا، يَكُون الحوزِيّ، قَد أَمَدَّنا بِوَصاياه:

إِيّاكُم، وَالبَلَد.

حَسبكُم، هاذي البِلاد.

كُلّ شَيْء مَسْمُوح بِهِ،

إِلّا نِسْيان البِلاد الجَلِيلَة.

 إِيّاكُم، وَالبَلَد.

هِيَ سُنَّة اللّٰه فِي أَرْضه.

هِيَ من أَرْكان العَقِيدَة.

هِيَ كُلّ ما نَمَلك.

بِلادِي، هِيَ بِلادِي.

حَتَّى وَإِن ضاقَت عَليّا.

بِلادِي، بِلادِي،

دُون أَن تَمْنَحنِي شَيّا.

بِلادِي نَغْمَة ناي.

بِلادِي كَأس شاي.

بِلادِي فَتْحَة دِفْء فِي أَناي.

بِلادِي شَيْء لا يُوصَف. شَيْء لا يَعُوض. لا يُذَلّ، وَلا يُحَرّف.

بِلادِي، بِلادِي، بِلادِي،

“لَكِ حبِّي وَفُؤادِي”.

مَغْرِب “يا أُمّ البِلاد”.

رَغْم الصعاب، رَغْم الأَعادِي.

أَنْت، يا مَغْرِب، أَوْلَى بِحبّنا، أَنْت من وَصايا رَبّنا.

تَنْمُو أَعْضاؤكَ وَيُقْلِقكَ هَذا النماء. وَيَأْكُلك انسياب الزَمن وَٱنسحابه فِيك. دُونَ رَحْمَة. دُونَ تَوَقُّف. دونن قُدْرَة مِنكَ عَلَى التَحَكُّم فِي السُرْعَة. فِي المُدَّة. فِي شحنَة اللحْظَة. وَقُوَّة المَعْنَى.

هكَذا، إِذا، هِيَ الدُنْيا قَد تُؤَخَّذ غِلاباً، أو أَحْيانا. هِيَ هكَذا. وَأَنْتَ لا حَوْلَ وَلا قُوَّة لَكَ. أُو عَلَى الأَقَلّ فِي الظاهِر. 

حَدَثَنا “راجِع”: عَبْد اللٰه راجِع. فِي قَصِيدته “أَعْلَنَت عَلَيكُم هَذا الحُبّ”، عَن “عاصِمَة الاسْمَنْت”. وَأَنا أُكَلِّمكُم عَن “عاصِمَة الطِين”. بِكُلّ بَياضه الأَحْمَر. وَجَمالِيّته. وَما يَدُلّ عَلَيهِ مَن لَوْن. وَمِن صبْغَة. وَمِن تُراب. وَتُراب. وَتُراب. وَتِبْن. وَماء. وَأَياد تغمست فِيهِ. وَدَلَكتُهُ. وَصَنْعتهُ. وَجَعَلت مِنْه شَيْئا حَي!.

أُكَلِّمكُم فَقَط عَن هذا. وَعَن بَهائه فَقَط لا غَيْر. لا شَيْء، لا شَيْء آخَر غَيْر هذا.

أُكَلِّمكُم فَقَط عَن هٰذا:

عَن هٰذِهِ الأَيادِي آلتِي جَعَلت مِنْه وَطَناً. وَطَناً عَنِيداً. مَنِيعا. وَطَناً حَقِيقِيّاً. لا مُتَخَيَّلاً. ممزوجا بِمَجْهُود قُرُون. وَبِالعَرَق. وَبِالأَرَق.  وَبِشَذَرات الرُوح آلتِي تَفَنَّنت فِي صنْعه، وَفَنّان ذواقِي فِي لَحْنه.

أُكَلِّمكُم عَن الزِلْزال كَما جَرَى. كَما جَرَى فِي اللحْظَة. فِي اللحْظَة ذاتها. وَعَن الزِلْزال المَعْنَوِيّ الَّذِي لا زالَ حَيّاً فِينا. بَيْننا. وَلا يُرِيد أَن يَتَوَقَّف. وَلَن يَتَوَقَّف!.

اللّٰهُمَّ إني قَد بَلَّغتُ! 

      شعر: امال حجي 

Top