الجمع بين الممارسة النظرية والتطبيقية سمة مهيمنة في كتاب الباحث محمد بوستة الموسوم بـ “شعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة دراسة في ديوان (مقام الطير) للزجال ادريس أمغار مسناوي” والصادر حديثا عن المطبعة السريعة بالقنيطرة في مساحة تتجاوز 250 صفحة. هذا الكتاب يعد المنجز الثاني بعد كتاب الشاعر والباحث مراد القادري “جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة”. وقد اختار مراد القادري منجز الزجال أحمد لمسيح موضوعا لأطروحته التي نال بها شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث من كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بمدينة فاس.
وكتاب شعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة للباحث محمد بوستة يروم التعريف بالمقومات الشعرية والجمالية للقصيدة الزجلية الحديثة لغة وصورة وإيقاعا ورؤية، وكشف بنياتها وعما تطرقه من مضامين يستمدها الزجال الحديث من تجربته الذاتية ومن تفاعله مع محيطه الثقافي والمعرفي. ويجد هذا الطموح في مكونات هذا الكتاب سبيلا للبحث عن لوغوس الشعر العامي بالمغرب والذي يوصف بفن الزجل عبرالقسم الأول الذي سعى الكاتب من خلاله إلى تقديم إضاءات حول الخطاب الزجلي بالمغرب ارتباطا بالإشكالات التاريخية للفصل الأول الذي يعد بمثابة حفر أركيولوجي في مفهوم الزجل ورصد لتاريخيته. وفي هذا القسم يبرز مفهوم الخطاب كمفهوم ينتمي إلى المدارس النقدية الحديثة، لكن أصوله تعود إلى أرسطو الذي أرسى دعائم هذا المفهوم على نحو نسقي ارتباطا بالمدينة كفضاء عام. ذلك أن أرسطو عرفه في ضوء كفاياته الإقناعية.
التشكيل النقدي سيركز على فصل دقيق، رصد الباحث من خلاله تطور الخطاب الزجلي الحديث منذ تسعينيات القرن الماضي، مركزا على الغزارة في الإنتاج، والانتقال من الشعرية الشفوية إلى شعرية المكتوب. وسيعمل محمد بوستة في الشق التطبيقي على كشف مظاهر شعرية نصوص ديوان “مقام الطير” من قبيل شعريات السفر، الكتابة، الحرف، الكلمة، اللغة، الوزن. ليخصص الفصل الموالي لخصائص المضمون. وليخلص إلى تناغم الموضوعات في رحاب التجلي الصوفي في ديوان “مقام الطير”من قبيل تيمات :النور، الحيرة، الطلب في مقام السؤال، المعرفة، المحبة، المداد، البعث والإحياء، الحرف، السحر والجمال، السفر، الموت والحياة، العشق، الحرية. وبغية تحصيل معرفة دقيقة بهذه الشعرية ومكوناتها رصد الباحث خصائص المعجم و الازدواج اللغوي: حوار العامية والفصحى.فضلا عن شعرية الصورة، والرمز والأسطورة، وشعرية الإيقاع التي مكنت محمد بوستة من كشف رؤى نقدية حصيفة وعمق معرفي من خلال نظرية العروض المدلاوية. ومقومات عروض الملحون والزجل المغربي الموزون.
ان الرهان على اثبات شعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة وكشف قوتها الابداعية سيجعل صاحب الكتاب يقيم علاقة مخصوصة بالزمن وبالممارسات الشعرية والإصغاء العميق للذاكرة الزجلية بالمغرب، وترجيع رؤى نقدية تروم صياغة مفاهيم ورصد مفاصل التشابه والاختلاف في راهن القصيدة الزجلية ارتباطا بالمتن الزجلي الذي جعله محمد بوستة بؤرة عمله البحثي. وهنا تبرز الأسئلة التي تولدها أحادية النموذج والرغبة في الخروج من الزمن الفينومينولوجي لصالح زمن القوة الإبداعية، وزمن التأويل.
الزمن حسب أوغسطين حاضر أبدي وإغراءات الزجل كثيرة لذلك فان الحاجة إلى إقامة حوار مثمر معه ستعد مغامرة مولدة لمنعطفات نقدية خاصة وأن البحث في إبداعية هذه القصيدة يثير أسئلة حارقة. وهو مايفسر محاولة محمد بوستة البحث عن لوغوس القصيدة الزجلية مادام العقل يقطن في اللغة على حد تعبير ليفيناس. لذلك فقد استدعى الباحث إلى ساحته كتابا قدماء ومحدثون في محاولة لرصد أورغانون هذه الشعرية وكأن الباحث كان يخوض مناظرة ضد أعداء الشعر. نتذكر في السياق نفسه عدو الشعر الأول أفلاطون الذي وصف الشعراء في جمهوريته بقوله” في الواقع يقول لنا الشعراء أنهم يجمعون قصائدهم من البراري والوديان حيث تعيش ربات الفن، تماما كما تجمع النحلة العسل متنقلة من مكان إلى آخر.إنهم يقولون الحقيقة.فالشاعرشيء خفيف، مجنح ومقدس، ولا يستطيع أن يعطي قبل أن يتلقى الوحي ويخرج عن طوره ويفقد السيطرة على عقله”. ولأن الشاعر يحظى بهبة ربانية فإن محاولة رصد تجليات هذه الهبة في الأثر الشعري سترتبط بإشكال المعيارية وتمثلات المتلقي عن شروط الشعرية وتحققاتها. هذه السياقات المرجعية ستجل الباحث يركز على نموذج شعري رفيع سيمكنه من كشف شعرية القصيدة الزجلية وفاعليتها ويتعلق الأمر بالشاعر ادريس أمغار مسناوي المولع بالضوء اقترابا من سيرة بروميتيوس الذي سرق النار من الشمس من أجل إضاءة البشرية. الولع الصوفي سيجعله يراكم على امتداد تاريخه الإبداعي منجزا إبداعيا يتسم بالتعدد والتنوع ما بين الأعمال المسرحية والرواية والزجلليساهم إلى جانب أبناء جيله وأجيال أخرى لاحقة في تحقيق مايسميه الباحثمحمد بوستة بشعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة.
مفهوم الشعرية في هذا العمل البحثي مفهوما قصديا به تتحقق ماهية النص وشرط الانتساب لهذا القول الإبداعي المخصوص. وفي الوقت نفسه فإن التصريح على مستوى العنوان باسم الديوان موضوع البحث خطوة لكشف مضمر الخطاب النقدي بغية النظر إليه كنص إبداعي يستند في بناء عوالمه على الطاقة التي يوفرها التعبير الزجلي، وعلى الطاقة البلاغية التي توفرها البلاغة وعلى نحو خاص الاستعارة (كمظهر بلاغي مهيمن)، وعلى الممكن الدلالي انطلاقا من جماليات تركيب الجملة الزجلية.
إننا إذن أمام تقصي أكاديمي لكيفية تشكل ممكنات القول الإبداعي الزجلي ولأشكاله البنائية والدلالية والفنية. الأمر الذي يبرر المعيارية النقدية وأشكال التشكيل النقدي في هذا الكتاب عبر التنظيم المحكم، والتنامي الرؤيوي، ارتباطا بصيرورة فعل القراءة بغية الوصول إلى مايسميه غادامير بانصهار الآفاق. وهو ما يفسر منعطفات هذه المغامرة خاصة منعطف الموضوع والإتيان بسنن الزجل وأشكال الصياغة مع المراهنة الابستمولوجية على البعد التحليلي ودمجه في الرؤية الكلية للكتاب، ومنعطف التأسيس النظري كآلية لتشييد الفهم ارتباطا بممكنات التأويل المقترحة في مساحة هذا العمل. لكن الحديث عن أنماط الشعر المغربي المعاصر يبدو أنه يستدعي مقترحا آخر. وعلى نحو خاص في حديث الباحث عن الشعر المغربي المكتوب باللغة العربية الفصحى. فهذا القول يجعل هوية التسمية ملتبسة ومثيرة للتأويل المضاد. ونفس الأمر في القسم الموسوم بـ” الشعر المغربي المكتوب بالأمازيغية”، وفي تقديري يمكن اقتراح تسمية الشعر الأمازيغي بالمغرب، ذلك أن سمة الأمازيغي هي المحددة الأولى لهوية هذا الشعر.
وتكشف مكونات “شعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة دراسة في ديوان مقام الطير للزجال ادريس أمغار مسناوي”، عن دقة الرؤية النقدية المتسمة بالتماسك وبمراعات السياقات المنهجية على نحو السياق النوعي الذي ساهم في تحديد معيارية هوية الجنس الأدبي. والسياق النصي والبلاغي الذي راهن عليه محمد بوستة لكشف قوة الصورة الشعرية لهذا الفن الإبداعي الرفيع وقدرتها على استثمار الرمز والأسطورة، بما يمكن عدها أوراشا فتحها الاشتغال النقدي لهذا الكتاب. وهي تستدعي المزيد من التقصي العلمي من لدن الباحثين في شعرية القصيدة الزجلية وتحولاتها البنائية والفنية.
التشكيل النقدي لهذا الكتاب يرتبط بالمرجعيات الابستمولوجية التي مكنتنا من كشف أصول هذا الفن وامتداداته الجمالية، خاصة لدى إحسان عباس الذي يرى أن القرن الثالث هو البداية الفعلية لفن الزجل بالأندلس، لينتهي إلى كون الموشح أسبق من الزجل الذي بلغ ذروته مع القرن السادس الهجري. فلا غرو إن كان الباحث يستحضر في منجزه تصورات نقدية متعددة ليجعلها موضوع الدراسة والتحليل في مختبر التأمل النقدي والجدل المثمر. والنتيجة كشف أمارات البحث العلمي الرصين من خلال منزع الباحث في تشكيل نقدي، يرتكز على تصور يتسم بالتناسق والانسجام وإخضاع النموذج لمقومات القراءة التحليلية، من أجل إنتاج رؤى جديدة عن هذا الفن الإبداعي المخصوص. بيد أن هذه التصورات النقدية يمكن عدها مفاتيح جديدة لقراءة تستند على دائرة الكتابة، ودائرة القول والتحليل، ودائرة التأويل. هذه الخطى ستمكن الباحث محمد بوستة من استنطاق مضمرات الزجل وكشف جمالياته البنائية والفنية والدلالية، وكشف نجاعته وفاعليته الإبداعية ارتباطا بالزمن المروري الذي يحتوينا كلنا بتعبير بول ريكو. يتعلق الأمر بزمن الإبداع كتجلي لكينونة المبدع ولماهية نزعته الإنسانية، وزمن القراءة كفن للعيش الجمالي.
بقلم: عبد السلام دخان