“حماسة اللاوعي” الإصدار الجديد للكاتب والروائي المغربي عيسى السعيدي، والذي تناول فيه تيمة “الحمق” عبر حالات أشخاص حقيقيين، وسرد حكايتهم كأشخاص يعيشون على الهامش، ومن خلالهم حكاية مدينة مهمشة هي مدينة الخميسات، مستعملا لغة متخيلة وحكيا غنيا بتعابير مجازية، فلا يوجد بالتأكيد ما يفقد التوازن ويحدث الفوضى أكثر من الحمقى، حيث من المستحيل إن رأيتهم ألا تحول نظرك، بعضنا يذهب إلى حد رفع يد الضراعة إلى الله أن يحميهم دون ذكر من أي شيء، فكيف يمكن تفسير هذه الرهبة التي تسكننا، هل نخاف أن يعدينا مرضهم بالرغم من قناعتنا أن الحمق ليس بمرض معد، فكيف نفقد كل ثقتنا أمام هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في عالم يضع الآخر في أسوأ حال ، وهو عالم الأشخاص العقلاء.
الكتاب الذي أصدرته مؤسسة باحثون، تناول فيه الكاتب عيسى السعيدي والذي هو شخص عاقل ليس له سيرة ذاتية خارج تلك التي تنبعث بشكل غامض عبر أخباره، شخص فكر في ما لا يمكن التفكير به ألا وهو الدخول في اتصال مع الحمقى في محاولة للتعرف عليهم وفهمهم ولبرما إعادة تأهيلهم في نظر العالم.
ويكتشف الكاتب عبر هذا السفر بذهول هؤلاء الراغبين المحررين من كل الضغوطات المعنوية لمجتمع يمتنع عن الاعتراف بفشله أمام أشخاص في أضعف حالاتهم ولكن أكثر قوة منها، والإصدار في عمقه يضيء بطريقة مميزة مسألة “الحمق” داخل المجتمع المغربي، خاصة عن طريق تمثلات مجتمعية، باستعمال لغة راقية ووفق بناء شعري تلمسه من خلال أسلوب الكاتب في الحكي والكتابة.
وفي التقديم الذي خطه الأستاذ المبرز علي آيت أحمد، باسم “دار القلم”، أشار إلى النظرة السائدة لدى غالبية الناس اتجاه المصابين بأمراض عقلية، أو ما يسمى بالأشخاص الحمقى، حيث يسود انطباع يغبط هؤلاء الأشخاص لكونهم لا يبالون بأحد ويعيشون أحرارا قائلا “كلنا إناثا وذكورا نعيش من أجل الآخرين نهتم بصورتنا وظهورنا ونقيم نجاحنا اعتمادا على نظرة الآخر لنا ، يجب أن يقول الآخرون حسنا بشأننا، نتحفز أو نغير، وهذه هي الحياة التي داخل المجتمع، ولكننا نحسد الحمقى لأنهم يعيشون كما يحلو لهم، يعيشون لذواتهم يقولون ما يفكرون به بصوت عال وقوي دون إحراج من رأي الآخرين، فهم يعيشون بشكل مكثف يومياتهم، ومن يا ترى يستطيع أن يصبح كذلك”.
في عمر معين، وفي الغالب نفس عمر صاحب هذا المؤلف الجميل، والذي هو أيضا أحمق بطريقته، نكتشف أن الأحمق ليس أحمقا بتلك الدرجة التي كنت تعتقد، وبأنه في معظم الأحيان شخص طيب تتجسد فيه الحكمة، الحكمة التي تتنكر في خرق أو عبارات غير مفهومة.
وأبرز آيت احمد أن الكاتب عيسى السعيدي، المناضل الملتزم على الدوام، المدافع المتشبع بحقوق الإنسان، لا الزمن ولا الأحداث المتعثرة منعته من إعطاء الكلمة لهؤلاء الأشخاص الذين كنا نعتقد أنهم حمقى، ولكن إذا أخذنا الوقت للاستماع إليهم سنعيش سعداء وفي طمأنينة وقيم الإيثار.
وأضاف أن الكاتب عيسى السعيدي المنبهر بعالم الحمقى، قد أعطى الكلمة لبعض منهم، وهذه أخبار من الواقع، نعم هي كذلك لأن عيسى السعيدي قابل هؤلاء الأشخاص خلال طفولته ومراهقته، في أرض أمازيغية وهو يعيد إنتاج، في إطار حكي آسر وسام، وقائع حدثت، فهم أشخاص تفيض روحهم حبا للآخرين، السعادة القصوى هو أن تجلب الفرح والسعادة للآخرين، باختصار، إنه عالم وحدها نظرة صفاء بريئة وغير مهتمة يمكن أن تخترق وتطبع نظرة طفل.
فيما يعتبر الكاتب عيسى السعيدي، في نص خاص قبل تصفح المؤلف، عنونه بـ “الخميسات” أن الالتقاء بأصل هذه المدينة، وتوسعها ودورها خلال التاريخ الكبير للبلد، هو في اعتقادي مهمة ليست سهلة، وهذا يفسر ندرة إن لم نقل غياب أعمال أكاديمية غنية تتناول هذه الحاضرة، فكل ما تمكن الباحثون من القيام به هو ربط المدينة بالمنطقة التي هي عاصمتها، والتي وحدها وبشكل متناقض نجد فيها غزارة في الكتابة والتي لا يمكن إلا أن نبتهج لها.
ولكن هذه الوثائق لا تقول كل شيء.. فإذا كانت تتطرق للأحداث الكبرى والتي شاركت فيها المنطقة سواء من قريب أو بعيد، فإنها ألغت عنوة الحديث عن حياة الناس العاديين الذين عاشوا في هذه المدينة والذين ساهموا في عمارتها بطريقة أو أخرى. مشيرا أن فترة انتشار وباء كوفيد 19 والتقييد الذي طال عملية التنقل، كان الناس يبحثون عن وسيلة للترفيه عن أنفسهم في هذه الفترة .
وأورد السعيدي، في هذا الصدد أن مستعملي الانترنت الزموريين لم يشكلوا الاستثناء، وعمدوا إلى إنشاء صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي خصيصا للمدينة، تهتم بتاريخها وإشعاعها الثقافي والرياضي والشخصيات السياسية والنقابية والفنية التي تنحدر منها أو الذين فقط عاشوا بها في وقت ما وتركوا بصماتهم بها.
“وهكذا طفت على السطح أسماء أشخاص مهمشين ممن كان الكثيرون يصفونهم بالفئة الرثة، ولكن تبين أن طريق كل هؤلاء الأشخاص الغير ذات معنى بكل ما للكلمة من ثقل، تقاطعت في لحظة وأخرى مع طريقي، وهكذا تعهدت بسرد حكاياتهم والتي هي في الواقع حكايتي، وذلك كنوع من التكريم الاستثنائي وفي الوقت ذاته الحديث عن مدينة مهمشة ولكن ظلت محتفظة بأصلها المتصل، وهي أن تكون (قشلة)”.
فنن العفاني