الامتحانات الإشهادية.. و«الدوباج» المدرسي

يستمر البحث عن اللقاحات والأدوية الكفيلة بالتخلص من الظواهر السلبية المصاحبة للامتحانات الإشهادية، تلك الأوبئة المؤثرة في نتائجها والمحبطة للمئات من التلاميذ النجباء والأطر التربوية الجادة والنزيهة. باعتبار أن الامتحانات تعتبر السبيل الوحيد لتقييم مستويات التلاميذ التعليمية، والمعتمدة وحدها في النجاح والرسوب. بعيدا طبعا عن الزمن الكوروني الذي يدار وفق إجراءات لن تمكن من إفراز أي تقييم حقيقي لمستوى التلاميذ.
فمع اقتراب مواعيد تلك الامتحانات الإقليمية والجهوية والوطنية، بمختلف الأسلاك التعليمية، تعم البلاد حالات استنفار وترقب وهلع وغضب، وتوفر الوزارة الوصية تعبئة خاصة بموارد بشرية ومالية ضخمة، معظمها مخصصة لمواجهة تلك الظواهر التي تعود سنويا لترخي بظلالها على الأجواء المدرسية والأسر والمؤسسات المعنية. هواجس التسريبات المحتملة للأسئلة والغش في الامتحانات والعنف والنفخ في النقط والتشكيك في التصحيح والأخطاء في الأسئلة. كوابيس تقض مضاجع الوزارة الوصية ومرافقها الجهوية والإقليمية رغم كل ما تنسجه سنويا من آليات حديثة، لكن غير ذات جدوى، للتحسيس والمراقبة والضبط والترصد والزجر. فقبل الحديث عن مراكز الاعتكاف والأجواء المفروضة على المعتكفين المكلفين بالإشراف على عمليات الطبع والنسخ والتغليف والضبط للامتحانات الإشهادية، حيث يمنعون طيلة فترة الإعداد والاجتياز والتصحيح والإعلان عن النتائج، من الخروج إلى العالم الخارجي ولا من استعمال وسائل التواصل الهاتفية والالكترونية… لابد من الإشارة إلى أن من يضع أسئلة الامتحانات هم المفتشون التربيون والأساتذة. وأن لا أحد من هؤلاء معني بالاعتكاف. ولا أحد يستبعد أن تتم عملية التسريب لامتحان أو جزء منه بطرق مباشرة أو غير مباشرة من خارج فئة الموظفين المعتكفين. وأن الواجب يفرض أن تشكل لجنة الاعتكاف من المفتشين التربويين والأساتذة (حسب المواد الدراسية المعنية بالامتحانات)، وأطر إدارية، يعهد إليها صياغة الامتحانات جماعة داخل مراكز الاعتكاف، وتتبع باقي مسارات الطبع والنسخ والتوزيع لضمان عدم تسريب الامتحانات.
وقبل كل هذا لابد من الاهتمام بالبرامج والمناهج التعليمية وجعلها في صلب الحياة المعاشة للتلاميذ، تلبي حاجياتهم داخل المجتمع، ليس فقط من أجل الولوج إلى الشغل. ولكن من أجل جعلها آليات للاندماج والتواجد والتفاعل والإبداع والترفيه في كل مناحي الحياة، لأنه لا يعقل أن يرغم التلميذ على استيعاب دروس والتخلص منها مباشرة بعد الرد على أسئلة الامتحانات، دون أن تترسخ في ذاكرته وفكره وتنضاف إلى ما لديه من رصيد ورأسمال علمي وأدبي وثقافي وفني ورياضي وأخلاقي.. ودون أن يلمس التلميذ أهدافا حقيقية وواقعية من تعلمها.
من جهة أخرى فقد ترسخ لدى معظم التلاميذ والطلبة مفهوم «الدوباج» المدرسي كآلية فعالة لمواجهة الامتحانات والفروض. حيث يقضون معظم فترات السنة الدراسية في اللهو والترفيه إلى حين اقتراب مواعيد الامتحانات والفروض، ليبدؤوا رحلات الحفظ والفهم والاستيعاب العشوائية والمكثفة للدروس المبرمجة للتقييم. وتبدأ معها رحلات البحث عن أساليب جديدة للغش. عملية تحصيل أو شحن المعارف والمكتسبات والمهارات في كل الشعب والمسالك، تنتهي بمجرد اجتياز الامتحانات… حيث يتم، تلقائيا، تفريغ كل ما قضوا الليالي والأيام في شحنه. لا أحد ينبههم إلى ضرورة الاحتفاظ بتلك المعارف داخل الأذهان، لتوظيفها في عمليات التحصيل الموالية. لأن التخلص منها يعيق عملية تحصيل معارف جديدة. يدخلون طوال سنوات الدراسة في دوامة الشحن والتفريغ السريعة. ويفقدون سنويا مهارات الشحن بسبب تضاعف صعوبة التحصيل. وتنتهي مساراتهم التعليمية بدون كفايات ولا مهارات لمواجهة الحياة؛ حتى وإن تمكن بعضهم من الحصول على شهادات عليا ودبلومات باعتماد ما علق في أذهانهم من جزيئات معرفية.
ما يتعرض له التلاميذ والطلبة أثناء اجتيازهم للامتحانات من تعثرات واضطرابات وبلوكاج هو بسبب لجوئهم إلى الدوباج المدرسي، وعدم متابعة التحصيل والفهم بشكل منتظم. إذ لا يمكن أن نحمل العقل البشري ما لا يمكن احتماله. عندما نشحن التلميذ بالمعلومات في مواد مختلفة بعشوائية بدون تصفيف ولا حسن توظيف، فإنه لا يستطيع الحفاظ على كل الحمولة إلى الأبد. فيحرص على حملها إلى غاية يوم الامتحان فقط، وبعدها بدقائق وربما لحظات يفرغ كل الحمولة. وقد لا يوفق في المضي قدما حتى موعد الامتحان، فيصاب باضطرابات وأمراض، ويفقد خيوط كل تلك المعلومات التي راكمها بعشوائية وتسرع.  فحتى الشاحنة ذات الحمولة العشوائية والزائدة تبقى عرضة لمخاطر السير. وناذرا ما تنقل الحمولة بدون خسائر. وقد تنقلب وتفرغ كل الحمولة مع كل هبة ريح أو منعرج أو فرملة. وقد تتساقط أجزاء من الحمولة على طول طريق الرحلة لأن الحمولة غير مؤمنة ولا محصنة.
علينا إذن اعتماد تعليم بنظام التنقيط (goute a goute) كما هو معمول به في السقي الفلاحي. ويجب علينا أيضا توفير إرادة ورغبة مشتركة في إطا من الحب والوئام والاحترام المتبادل، وعلينا كذلك إيجاد فضاءات مدرسية للهو والترفيه وإفراز الميولات والهوايات وصقلها. فإذا كان التلاميذ «يتقيئون» كل ما تغذوا به من معارف ومكتسبات علمية وأدبية بمجرد خوضهم لامتحان أو فرض محروس بخصوصها؛ وإذا كانوا لا يؤمنون بمنطق ترسيخ تلك المعارف في أذهانهم وصقلها، ولا يعترفون بقيمتها في تدبير القادم من الدروس والمناهج وتدبير الحياة بكل تجلياتها.. فما الجدوى إذن من الرؤية الإستراتيجية؟

بقلم: بوشعيب حمراوي

[email protected]

Related posts

Top