الجلسة الشهرية في البرلمان التي تم تخصيصها للسياسة الحكومية في المجال الثقافي، مثلت مناسبة لفهم تصورات ورؤى وبرامج رئيس الحكومة بهذا الخصوص، وأيضا انتظارات وأسئلة مختلف الفرق النيابية، ومن ثم اعتبرت الجلسة فرصة لإعادة التأكيد على أهمية الثقافة في مغرب اليوم.
لا شك أن الأولويات والانشغالات والتدابير المطلوبة باتت اليوم معروفة لدى الجميع، سواء بشأن إعادة الحياة للأنشطة الثقافية والفنية والمهرجانات، أو تفاصيل الدعم العمومي للمهن الفنية والإبداعية، أو تطوير البنيات التحتية والقوانين، أو العناية بأوضاع المبدعين والفنانين والمثقفين، ولكن جميع هذه الانشغالات، برغم أهميتها، تندرج ضمن ما هو آني وظرفي، وتتصل بالمدى القريب أو بالجوانب التدبيرية والإجرائية.
وتبعا لذلك، يبقى من المهم جدا اليوم التفكير في الثقافة باعتبارها من أهم عوامل التنمية لمجتمعنا، وذلك ضمن الأطروحة الشهيرة للراحل عزيز بلال حول: (العوامل غير الاقتصادية في التنمية)، أو تأسيسًا على عدد من اجتهادات المفكرين والمنظرين الآخرين، وعلى مذكرات ومطالب هيئات ثقافية وفنية متنوعة بهذا الخصوص.
الثقافة في عمقها هي موصولة بالحياة وبالمجتمع وبالناس، ومن ثم تطويرها ينتج قوة إحساس الناس بالانتماء وبالثقة.
الثقافة، بشكل عام، هي تمكين الناس من تحصيل المعارف، وأيضا تمتين تملكهم لوعي نقدي، وللقدرة على المساءلة وتحكيم العقل، كما أن إشعاع الثقافة يعني إشعاع التنوير وتربية وإنماء الأذواق والسلوكات، وبالتالي التقليل، في المقابل، من حدة الجهل والسلبية واللامبالاة وانعدام الثقة.
وترتيبا على هذا، فعندما نقارب مشكلات تدبيرية تعنى بالإنفاق العمومي على الثقافة، وتهم مستوى استهلاك الكتاب وإنتاجه وصناعته والإقبال الشعبي على القراءة، وأيضا ما يتصل بالاستثمار في الصناعات السينمائية والمسرحية وباقي الفنون والمهن الإبداعية، وما يتعلق بالمهرجانات الفنية المختلفة والإبداع التشكيلي والموسيقي والتربية الفنية، فالغاية من كل ذلك هو ما يتم إحداثه من تراكمات في إطار إنتاج القيمة المضافة والأثر على حياة الناس وسلوكهم ومستوى تنمية ورقي المجتمع.
وأيضا لما يجري الحديث عن العناية بأوضاع الفاعلين والمنتجين للثقافة، فذلك يعني توفير الشروط للنهوض بأدوار هؤلاء المثقفين والمفكرين والفنانين والمبدعين، لكي يساهموا في إنتاج الأفكار والقيم والأذواق، ولكي يتمكنوا من التعبير الحر عن إبداعهم المتعدد، وأن يتحقق إشعاع ذلك وسط المجتمع والناس.
إن تمويل الثقافة والفنون إذن، هو استثمار عمومي من أجل صناعة الإنسان المغربي وتنمية المجتمع، وتعزيز الشعور العام بالانتماء، وإشعاع الثقة والاعتزاز وسط شعبنا.
لقد أجبرنا زمن الجائحة على التفكير في عديد مسلمات والتأمل في الشخصية والمحيط، وفي الكون وفي شروط الحياة، وفي نظرنا الفردي والجماعي لكثير أشياء، ومن أهم هذه الدروس أن التنمية والتقدم تؤثر فيهما كذلك عوامل أخرى ليست فقط اقتصادية ومالية وصناعية، ولكنها ترتبط أيضا بالأفكار والرؤى والمعارف، أي بالثقافة، ومن ثم الحاجة اليوم إلى الارتقاء بالتربية والتعليم والبحث العلمي والثقافة والفنون والإعلام والصحافة، أي النهوض بالأفكار والمعارف والأذواق والسلوكات، والتحفيز على القراءة والمعرفة، وكل هذا يفرض جعل هذه التحديات بمثابة أولويات في بلادنا، والسعي لتعميق حوار وطني جدي ورصين بشأنها، وبخصوص أدوار الفاعلين والمبدعين ومنتجي الأفكار والمعارف والرؤى والفنون والمعلومات.
في مثل هذه المرحلة التاريخية التي أسس لها زمن الجائحة، نحن على عتبات تحولات استراتيجية وحضارية أساسية، تفرض الاهتمام كذلك بالعوامل غير الاقتصادية في تنمية مجتمعنا وبلادنا.
محتات الرقاص