الخدمة الصحية الوطنية

الاحتجاجات التي خاضها طلبة كليات الطب وتوجت بتوقيع محضر بوزارة الصحة عادوا بموجبه إلى مقاعدهم الدراسية، يحسب له أنه فضح من جديد واقع الخدمات الصحية المتردية في المناطق النائية والقروية، وحرمان عشرات الآلاف من أبناء شعبنا من حقهم في العلاج، وهذا الواقع مستمر اليوم في طرح أسئلته علينا كلنا، ولن يتم حله بمجرد إلقاء خطب أو وعود أو تهدئة احتجاج، وإنما لا بد من إجراءات عملية ملموسة وبرامج ناجعة تستفيد منها بشكل ملموس ساكنة الأرياف والجبال والمناطق البعيدة والمعزولة.
عندما يصر البعض هنا في الرباط أو في المدن الجامعية الأخرى على أن ما جرى الوصول إليه من اتفاق مع وزارتي الصحة والتعليم العالي هو انتصار، فأقل ما يجب الانتباه إليه هو ضرورة تقديم جواب لساكنة المناطق المهمشة وللفقراء من شعبنا.
الأمر إذن لا يتعلق برأي يعبر عنه هذا الطرف ويرفضه الطرف الآخر، أو مشروع أو مسودة أو فكرة لم يحدث بشأنها الاتفاق هنا في الرباط، وإنما عمق المشكلة يوجد في ضرورة بلورة حلول ناجعة ومعقولة ومستعجلة لساكنة المناطق النائية وضمان حقها في العلاج.
البلاد تعاني من نقص مروع في الموارد البشرية بالنسبة للقطاع الصحي، وما نتوفر عليه هو أقل بكثير من الحد الأدنى الذي تشترطه المنظمة العالمية للصحية، وبالإضافة إلى ذلك هناك سوء توزيع لهذه الموارد المهنية القليلة بين مناطق وجهات المملكة، ومن يلوح اليوم بالتوظيف كحل وحيد أو بضرورة توفير المناصب المالية اللازمة هنا والآن، فهو أول من يعرف أن هذا غير ممكن فوريا ومرة واحدة، وهو يعتبر حلا غير واقعي ولن يتحقق بمجرد المطالبة به، ولهذا لا بد من حلول موازية وعاجلة، ومن هنا جاءت فكرة “الخدمة الصحية الوطنية” التي لم تتبلور أصلا لا كمشروع ولا حتى كبداية مشروع، ورغم ذلك وقع الهجوم عليها ورفضها من دون طرح أي بديل، بل يحتفى اليوم بما يسمى إسقاطها أو سحبها، والحال أنها كانت مجرد مسودة أفكار تم تعميمها عبر البوابة الإلكترونية للوزارة، ووقع الاتفاق اليوم، بموجب المحضر الموقع عليه، على “عدم طرح مشروع الخدمة الصحية الوطنية الحالي على مسطرة المصادقة والعمل على إيجاد حل بديل لا يقوم على الإجبار بما يضمن حقوق وواجبات الأطر الصحية والمواطنين”، وهذا يعني أن الطلبة متفقون وموقعون على ضرورة التفكير في صيغة جديدة لهذه الخدمة الوطنية، فقط ألا تكون قائمة على الإجبار وأن تستحضر حقوقهم وواجباتهم إلى جانب حقوق وواجبات المواطنين.
إذن، فالنقاش بشأن الخدمة الصحية الوطنية يجب أن يبقى قائما وموضوع ورش إصلاحي بمشاركة الجميع، ومن أجل إخراجه في أقرب وقت بما يؤمن للفقراء من أبناء شعبنا الخدمات الصحية والعلاجية الأساسية، ومن ثم، فإن ما انتهى إليه الحوار الأخير يسجل أيضا لصالح الحكومة ووزارتي الصحة والتعليم العالي لكونه انطلق من الحكمة ونجح في سحب البساط من تحت أرجل مختلف اللوبيات التي ودت الركوب على مطالب واحتجاجات الطلبة لفرملة كامل دينامية الإصلاح التي يشهدها القطاع في السنوات الأخيرة.
يعني ما سبق أن منطق الغالب والمغلوب هنا غير وارد، وأي اصطفاف داخله يعتبر إهانة لشعبنا ولساكنة المناطق الجبلية والنائية والقروية وتشفيا فيها، وبدل ذلك يجب أن يحرص الكل على إبداع الأشكال العملية والناجعة التي من شأنها توفير الحق في العلاج والصحة لهؤلاء الفقراء والمحرومين.
[email protected]

Top