الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة 11

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

*ابن بني ملال يطرق أبواب الأماني

لا مراء في أن أحمد بورة كان  يحب النجاح ، كما يحب أن يكون متفوقاً على أقرانه وزملائه فيها. ولم يكن النجاح بالنسبة له مقتصرا فقط في الحصول علي درجات تامة في الاختبارات،  بل إن النجاح الحقيقي، كما كان يقول له والده دائما، هو “شعور ذاتي داخلي بتحقيق ما يصبو إليه الإنسان من خير، وزيادة الثقة بالنفس وتنمية القدرات الذاتية الكامنة. إن أشقى الأشقياء وأتعس التعساء هو الذي حرم نفسه من كافة الخيارات المتوفرة له للنجاح في هذه الحياة. ولابد من توفر المواهب والإمكانات لتحقيق المزيد من الأحلام والطموحات والآمال الواسعة العريضة. وإن الثروة الذاتية التي حباك الله بها في شخصيتك،  وعقلك، وفكرك، وطاقتك ومواهبك الخاصة هي خير رصيد يمكن استغلاله والإفادة منه لتحقيق أعلى مستويات النجاح التي تريدها في حياتك” .
هكذا كان يقول له والده عند كل لقاء أو زيارة للعائلة ببني ملال. ولا غرو أن “الثقافة” العامة، أو التعليم الرصين هو أحد الأرصدة الكبيرة التي سخرها أحمد بورة  للنجاح في حياته بشكل عام.
لم يلتحق الشاب بورة بمدارس خاصة مكلفة ماديا، بل تقاسم الطاولة مع أبناء الشعب،  وحرص على بذل قصارى جهده في العمل الدؤوب،  لا يهمل واجباً، ولا يجلس للهو ، لأن ذلك ليس في صالحه من شيء.
فظل النجاح عادة من العادات الحميدة الهامة والأساسية التي حرص على تطويرها وتنميتها وتحسينها بشكل مستمر إلى ان حصل على شهادة الباكالوريا..
استقبلت العائلة نتيجة نجاحه بفرحة لا توصف، وعمت الزغاريد كل أرجاء الحي ببني ملال. وكيف لا يحدث هذا وحلم “آل بورة” في طريقه إلى التحقق. لقد اكتملت سعادتهم عندما انهالت عليهم التهاني والتبريكات من كل بيوت الأقارب والجيران. فابنهم أحمد يطرق اليوم بتفوقه أبواب الأماني ويحصد ثمار الجهد والسهر والمثابرة، وبحصوله حينئذ على معدل جد مشرف يكون قد حجز لنفسه مقعدا في كلية الطب بالرباط.
حتى المسافة الفاصلة بين بني ملال والرباط لم تعد تشكل عقبة كأداء في وجه طالب طموح حافزه النجاح وشاحن معنوياته الإصرار والعزم على مواصلة رحلة التحصيل مهما كلفته من تضحيات ومهما حملته من صعاب.
كان أخوه “علي بورة” لا تفوته فرصة ليزور العائلة، ويسندها ويدعم أفرادها، ويعزز تماسكها في أحلك الظروف، ومباركة منه لولوجي المرحلة الجامعية استغلها مناسبة ليوجه له دعوة قضاء العطلة الصيفية بسكناه بشمال المغرب.

اعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top