إثر اتصال أجرته مؤسسة الفرير في القدس، تم الترتيب للقاء مع الشاعر الكبير محمود درويش في مقره بمركز السكاكيني في رام الله نهاية أبريل عام 2007 أي قبل وفاته بعام واحد تقريبا. وبمناسبة الذكرى الثامنة لرحيله، نورد في ما يلي النص الكامل لهذا الحوار الذي أجرته الأستاذة غدير بشارة ونخبة من طلابها.
> الشعر الحقيقي انعكاس لموهبة، ولكن ذلك لا يكفي لإنتاج ما نصبو إليه من إبداع. ما هي العوامل التي تسهم في تشكيل هذه التجربة؟
– هناك عوامل عديدة، لعل أبرزها البعد الثقافي وصقل الموهبة وحسن الإصغاء للمكان والزمان والتعايش مع المجتمع. وهذه العوامل كلها إضافة للحظ ربما تنتج شعرا جيدا.
>كثير من الشعراء لديهم الحظ، ولكن ليس لديهم “المعجم اللغوي” الذي لديك. كيف تفسّر ذلك؟
– في هذه الحالة فإنهم لا يمتلكون الأدوات الثقافية والمعرفية اللازمة للإبداع. أنا برأيي أن كل إنسان يمتلك موهبة، لكن الصعوبة تكمن في كيفية الكشف عنها. أنتم مثلا تسمونني شاعرا، لكنني لو كتبتُ رواية ربما كنتُ أفضل. لذلك فإن أهم شيء في المدرسة أن نبحث مع الطالب عن موهبته الحقيقية.
بين الرواية والشعر
> أنت تمتلك تاريخا في الشعر. ولم تصدر أي رواية، فهل سنقرأ يوما ما رواية للشاعر محمود درويش؟
– أنا أحبّ الروايات وأنا من قرّائها المدمنين، وطالما حلمتُ بأن أكون كاتبا روائيا. لكن فجأة شعرت بأن الزمن مرّ سريعا ولم أعد أرغب في أن أراهن على مشروع قد يكون خاسرا.
> من هم الروائيون الذين تقرأ لهم؟ وما هي رواياتك المفضلة؟
– أنا أقرأ للكثير من الروائيين ، وليس هناك كاتب روائي معين.
> وهل هناك شاعر مفضل؟ الجميع يقرأون أشعار محمود درويش، فلمن يقرأ درويش؟
– هناك الكثير من الشعراء ممن أحب أن أقرأ لهم. شعراء أبدعوا على مر العصور حتى يومنا هذا، ولعل المتنبي هو أبرز من قرأتُ له شعرا.
> ألا تشعر بالإحباط في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها؟ ألا تشعر بالتعب من كتابة الشعر؟ وهل ستعتزل الكتابة يوما ما؟
– كل شخص ينظر للواقع بطريقته الخاصة، ولكن المهم أن ننتصر على الإحباط. أما بالنسبة لي فإن الانتصار على الإحباط يكون بالمقاومة الإبداعية للشعر. قد يكون ذلك تعويضا أو وهما، لكنني أستطيع التغلب على هذا الواقع بخلق واقع آخر متخيّل كبديل للواقع الذي نعيشه جميعا. كان لدي إحساس بأنني سأعتزل كتابة الشعر منذ فترة طويلة، وكلما صدر كتاب لي ينتابني شعور بأنه الأخير لأنني أفرغتُ كل ما لدي من طاقات. ولكن ما أن أنتهي منه حتى أشعر بفراغ روحي ومعنوي. فالذات الكاتبة هي الأساس. دعكم من المجتمع، دعكم من أي شيء آخر، فنحن عندما نتكلم عن الأدب تكون الذات الكاتبة حاضرة حيث تشعر بالتعب وبالإحباط وبالميل إلى العزلة أو الرغبة في الاعتزال. لكن ما يحصل لي بعد كل إصدار أن ذاتي الكاتبة تتجدد ومع ذلك لا يوجد رهان على ذلك ولا توجد ضمانات، هذا صراع مع العبث.
>من كان له الفضل في اكتشاف موهبتك الشعرية؟
– كنت أخربش بالشعر منذ أن كنتُ في العاشرة من عمري. بعض الأساتذة شجعوني وأعطوني كتبا تساعدني على تطوير شعري.
المعلم الجيد وأهمية التنوع
> هل يمكن القول أن المعلم هو الأساس لإطلاق أي موهبة أدبية؟
-هناك نوعان من المعلمين: معلم تتعلمون منه أمورا ثقافية ولغوية كالتاريخ الأدبي والقواعد اللغوية وغيرها، وهذا معلم غير جيد. وهناك معلم يشرف على صحة لغتكم وصحة تعبيركم اللغوي ويرشدكم إلى الطريق الصحيح. وبدون ذلك يحتاج المرء إلى وقت طويل لاكتشاف ذاته. فالمعلم إذن مهم وضروري لاكتشاف مواهبكم وكذلك نقاط ضعفكم.
> هل تعني أن المعلم يستطيع أن يختصر على الموهوبين سنوات طويلة يحتاج إليها لتطوير ذاته؟
– نعم، هذا صحيح، ولكن قد يكون المعلم أيضا مدمّرا إذا كان صاحب تفكير سلفي أو صاحب ثقافة أدبية محافظة، وبالتالي قد يوقعكم في الخطأ. والطلاب المحظوظون هم من كان يعلمهم معلم غير محافظ لا يفرض عليهم كتابة ما يؤمن به هو.
> وكيف تصف المعلم الذي علمك ؟-
كان معلما علمانيا.
> هذا يعني أن الحظ يلعب دورا أساسيا؟
– نعم الحظ يلعب دورا كبيرا، فإذا علمكم أستاذ قدير لديه إيمان بالتعدّدية وحق التعبير الحر، عندئذ أنتم محظوظون.
>هل وصلت مرحلة اضطرِرت فيها للاختيار بين كتابة الشعر ومغريات الحياة المادية؟
– أنا لم أشغل أي وظيفة ولم أدخل الجامعة لأنني ظننت أنها ستفسد حرّيتي وتخرجني لأكون موظفا في نهاية المطاف. واعتقدتُ أيضا أنها سوف تضيّق على حريتي الشعرية التي تعتبر المهنة الوحيدة التي أدعي إجادتها.
> أنت تقول إن معلمك الأول كان علمانيا، فهل نقل إليك أفكارا علمانية شيوعية؟
– نعم، معلمي كان شيوعيا ولكنه لم يعلمني”الأدب الشيوعي، فلا يوجد شيء يُسمى الأدب الشيوعي. لقد شجعني على التعبير عن نفسي وعن رأيي بحرية، شجعني على أن أكون معارضا.
> هناك جدل حول بعض كتاباتك التي فيها تأثير من التوراة. هل هذا صحيح؟
– أنا لا أفهم حساسية بعض الإسلاميين تجاه التوراة، فالقرآن يقدس ويؤمن باليهودية والمسيحية. والقرآن امتداد واستمرار لليهودية والمسيحية. لقد قرأت القرآن والإنجيل والتوراة، ولا أخجل من القول أنها من مصادري اللغوية والأدبية. أنا لا أقرأ التوراة ككتاب تاريخي حتى وإن كان هناك من يشك بمصداقيته، أنا أقرأه ككتاب أدبي لأن فيه فصولا أدبية رائعة. من هنا لا أفهم سبب الحساسية المفرطة إلى درجة يرى فيها بعض الإسلاميين أن من قرأ التوراة كأنه انشق عن إسلامه ، أو أن المسيحي إذا قرأ القرآن كأنه انحرف عن مسيحيته. هذه الكتب تحمل نفس الرسالة، وهي رسالة التوحيد.
>لناقد عادل الأسطة، وهو محاضر في جامعة النجاح، وجّه نقدا إليك لأنك حذفتَ بعض الأشعار التي نظمتها في السابق، ما تعليقك على ذلك؟
-عادل الأسطة محقق يمارس دورا بوليسيا. وبرأيي أن الشاعر له الحق بإعادة النظر في شعره. ولو أتيح لي إعادة كتابة مؤلفاتي لحذفتُ منها الكثير.
> وكيف ترد على انتقاده لك بأنك كنت شيوعيا وعندما تركت الشيوعية حذفتَ بعض أشعارك؟
– أنا لم أحذف شيئا، ولم أكتب شعرا عن الشيوعية.
> ما هو تقييمك لديوان الشعر الفلسطيني المعاصر؟ هل ضعُف وتقهقر هذه الأيام بسبب ظروفنا السياسية؟
– لا أستطيع أن أحكم على الديوان الفلسطيني بهذه السرعة*هل يمكن أن تحدّثنا عن الشعر العربي ، فالكل يرى أنه يمر بحالة تقهقر؟
– أنا لا أسمح لنفسي أن أطلق أحكاما سريعة على حركة شعرية كبيرة سواء كانت فلسطينية أو عربية ولا أستطيع أن أقول أن هناك تراجعا في الإقبال على الشعر. وإذا كان هناك تراجع فالسبب هو أن الشعراء لم يعد يعنيهم إقامة صلة مع القراء. ومع ذلك فهذه ليست صفة عامة ، فهناك شعراء يُقبل القراء على قراءتهم والاستماع إليهم.
نزعة إيجابية
> ألا تشعر بأن هناك تباينا بين الشعر المعاصر والشعر في الأزمنة الغابرة؟
– أنا أرى الشعر المعاصر هو الأفضل. اليوم، وخاصة الشباب، يعبّر شعرهم عن الفردي، أما في السابق فكان الشاعر يعبّر عن الجماعة. لقد كانت صورة الشاعر هي صورة الجماعة، وكان الفرد مقموعا. اليوم أنا أشعر أن لدى الشباب نزعة للتعبير عن أنفسهم وعن حريتهم، وهذه نزعة إيجابية جدا. فبالإضافة إلى تعبيرهم عن الجماعة لهم الحق في التأمل بذاتهم والتحدث عن خصوصياتهم لأن المجموعة مكوّنة في الأصل من أفراد.
> لقد رُشّحت عدة مرات لنيل جائزة نوبل للأدب. هل أنت متفائل بالفوز بها أم أن لهذه الجائزة شروطا سياسية؟
– لا علمَ لي بأنني مرشح لهذه الجائزة.
> ما هو موقفك من حكومة الوحدة الوطنية؟- أتمنى لها التوفيق والنجاح.
> أنت لم تتبوأ حتى الآن أي منصب سياسي. ما السبب في ذلك؟
– السبب الوحيد لعدم قبولي أي منصب سياسي هو حرصي على منطقتي الشعرية. كما أن المنصب السياسي يقيّد حرّيتي الشعرية. ومع ذلك فإن هناك سياسيا في داخل كل شاعر، ولكن طريقة التعبير لدى السياسي تختلف عن طريقة تعبير الشاعر. لذلك أنا حريص على أن يبقى شعري حرا بدون ضغوط أو اعتبارات خارجية.
> ما نوع الشعر المفضل لديك؟
– أنا أحب جميع الأنواع، غير أن الشعر العمودي مليء بالكلمات مع الكثير من التحفظ. لذلك فإنني أفضل الشعر الحر كونه متحررا.
> أنت قلت أن سر نجاح الشاعر هو تطوره المستمر. وقد أثبت كتابك “كزهر اللوز أو أبعد” أن محمود درويش قادر على أن يبهر القراء بأسلوبه الفني والأدبي ويجذب القراء إليه. ما الذي يميز هذا الكتاب؟
– لا أدري. أنا من الشعراء الذين لا يحبون التحدّث عن شعرهم ولا أستطيع أن أشرح خصائص جمالياته ولماذا أعجبكم.
> ولكنك تقول أن التطور المستمر هو أحد خصائص الشاعر الجيد.
– أنا أدعي ذلك وقد يفشل هذا الإدعاء. أنا أحاول أن أواكب التطور المستمر.
> كيف تنظر إلى كتاب “في حضرة الغياب”؟
– هذا الكتاب ليس شعرا. هو من جنس أدبي فيه روح الشعر. فأحيانا أجد نفسي أكثر ميلا لكتابة النثر.
> هل تعبتَ من كتابة الشعر؟
– هناك قوة خفية وغامضة تدفعني لكتابة الشعر، فأنا لا أكتب عمدا بقصد الكتابة. ولو كنت أكتب الشعر يوميا لكان لدي عدد كبير من الكتب.* إذن الشعر هو تعبير عن الإحساس.
– يجب أن تكون هناك قوة داخلية وغامضة.
> إذن الشعر ليس صناعة.
– الشعر إلهام وصناعة وموهبة. فالموهبة وحدها لا
تكفي لبلورة شكل الشعر، وبالتالي يأتي دور الحرفة أو الصناعة.
> ما مدى تأثير السجن على محمود درويش؟
– لقد علمني السجن كيف أكتب، وعلمتني الرقابة كيف أشطب.* لماذا يثير محمود درويش خوف الجانب الآخر؟
– آخر تعبير عبّر عنه شارون قبل أن يدخل في الغيبوبة هو أن قصائدي تثير غيرته. هو يغار من مدى تمسّك شعب بقضيته كما أعبر عنها بالشعر.
> هل تحبّذ أن يكون الشعر واضحا يسهل فهمه بالنسبة للقارىء؟
– كل شاعر يحاول التعبير عن نفسه ، والشعر الجيد هو الذي لا يترك مجالا لأكثر من تفسير واحد ويكون له معنى واحد ووحيد لا يقبل التأويل.
شعور بالغربة
> هل الوطن أجمل وأنت بعيد عنه؟
– نعم بالتأكيد. كل شيء مُتخَيل أجمل من الواقع لأن الوطن المُتخيّل يشارك فيه التأليف. فأنت تتخيله وترسمه وتتوقعه بأحسن شكل.
> هل تشعر بالغربة هذه الأيام إذا؟
– دائما أشعر بالغربة. فمثلما كنتُ أحمل وطني وأنا في الخارج ها أنذا أحمل منفاي وأنا في الوطن. وهذا جزء من تاريخي العاطفي.
> هل تحميك مملكة الشعر من هذا الشعور؟
– هذا التوتر ينتج شعرا.
>لقد كتبتَ عن الحب والمرأة، فهل تنظر إلى المرأة كجسد أم ككتلة عواطف؟
– أنا أنظر إليها كجسد مليء بالعواطف. فهي قوام مليء بالأحاسيس. فليس كل شيء يحاكي الوطن. أنا أكتب عن المرأة وليس عن شجرة. وعندما أعانق المرأة فإنني أعانق امرأة وليس الوطن. فالوطن وطن والمرأة امرأة. وقد تلخّص المرأة أحيانا معاني أبعد من ذلك فهي بالأساس كائن بشري.
> هل يمكن أن تودع أسرارك للمرأة؟
– نعم ، هذا ممكن.
> هل تعتقد أن الروايات لها تأثير كبير بين الناس؟
– جميع أشكال الكتابة تنطوي على رسالة موجّهة للبشر. بعض الشعراء الرومانسيين يظنون أن الشعر يغيّر الواقع وهذا غير صحيح. الشعر يغيّر النفوس التي تغير الواقع.
> لماذا لم يفر محمود درويش في نقل تراثه الشعري إلى أبناء يحملون اسمه؟
– الشاعر لا يجلس ويقرر ماذا يفعل كما لو أنه يتعامل مع مشروع. فالمصادفات تلعب دورا في تشكيل مصير الشاعر.
> لو جلس محمود درويش وتساءل حول ما أنجزه، فماذا يقول؟
– أنا لا يعنيني في حياتي إلا نصي الشعري، وأرجو أن أحاكَم بناء على ذلك.
> ما المشترك بين محمود درويش ومارسيل خليفة؟
– أنا مؤلف وهو موسيقي، وقد أعجبَ ببعض قصائدي فغناها.
> من هو الشاعر المفضل الذي تعجبك أفكاره أو تقرأ له؟
– هناك الكثير من الشعراء الذين أقرأ لهم.* لو لم تكن شاعرا فماذا كنتَ تتمنى أن تكون؟
– عازف غيتار.
> ما هي كلمتك لجيل اليوم؟
– أنظروا إلى الأمام أكثر مما تنظرون إلى الخلف، المستقبل أمامكم فاحترموه والوقت مهم فاستغلوه وكونوا على استعداد لمواجهة الزمن.