نظّم مختبر السرد والأشكال الثقافية: الأدب واللغة والمجتمع، يوم الإثنين 19 يونيو 2023، لقاء أكاديميا مع محمد بنيس حول إصداره الجديد: “الشعر والشر في الشعرية العربية”، وذلك بتعاون مع المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية – بني ملال، وتكوين دكتوراه: الدراسات الأدبية واللسانية والثقافية، وماستر الدراسات القرآنية وتطبيقاتها المعرفية، وبتنسيق مع ماستر دراسات في التراث المادي واللامادي، وماستر السرد والثقافة بالمغرب.
حضر هذا اللقاء رئيس شعبة اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، ذ. محمد بالأشهب، ومدير المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية ببني ملال، ذ. سفيان بلحويدك، ومنسق ماستر الدراسات القرآنية وتطبيقاتها، ذ. عبد العزيز القسمي، ومدير المختبر، منسق دكتوراه الدراسات الأدبية واللسانية والثقافية، ومنسق ماستر السرد والثقافة بالمغرب، ذ. عبد الرحمان غانمي الذي ترأس الجلستين، مؤكدا على دلالات استثنائية استضافة محمد بنيس، وتناول المتدخلون في الجلسة الافتتاحية سياق هذا اللقاء وأهميته استنادا إلى المكانة العلمية والثقافية للضيف محمد بنيس، ولأثر كتاباته ومؤلفاته التي تجاوزت ثلاثين كتابا على امتداد أكثر من خمسين سنة، والتي تشرف الثقافة المغربية، وتقدم نموذجا رصينا لثرائها في حقول الشعر والنقد والترجمة وغيرها، وبدورها أخذت الكلمة الأستاذة خديجة توفيق بصفتها طالبة قديمة لمحمد بنيس.
ثم تناول محمد بنيس الكلمة الأولى في الجلسة الافتتاحية، وعقب مداخلات الباحثين التي تميزت بالجدية والاجتهاد، في مقاربة الكتاب الجديد، قراءة وتأويلا، قدم محمد بنيس محاضرة تناولت قضايا أساسية في مجال الشعر والشعراء والشعرية العربية، قبل أن يحاور في مداخلته الثالثة مختلف الأسئلة التي عنت للمتدخلين. ولم تخل محاورته أيضا من الحديث عن تجربته وعن جزء من حياته، وعن مواقفه النقدية والفكرية. فانطلق من كلمة شكر للأستاذ عبد الرحمان غانمي الذي رتب هذه الفرصة للالتقاء بالطلبة، مستحضرا مشاركاته قائلا: “عندما أحضر لقاء من اللقاءات وأسمع متكلما يتكلم عني، أتخيله يتحدث عن شخص آخر اسمه محمد بنیس، ولست أنا، وإلا فإني سأغادر المكان… ولذلك فأنا قليل الحضور في الأنشطة الثقافية… فمن يكتب ويشتغل تهمه الكتابة، ومهمتي أنا هي أن أكون منصتا لما ينبغي أن أكتب، وألا أبتعد عما يجب أن أكتب”، ولهذا فإن هذا اللقاء في بني ملال – التي يعدّها منطقة ذات تاريخ عريق بثقافتها العلمية والفقهية والصوفية، ومعروفة بثقافتها الشعبية الراسخة، ولها اليوم مكانتها في البحث وتفكيك الثقافة المغربية بأسماء وازنة، فضلا عن جامعة السلطان مولاي سليمان، وما يتفرع عنها من مؤسسات تسهم في البحث العلمي والدرس الأدبي على السواء – (هذا اللقاء) جاء بناء على شرطين، الأول: الإصرار على لقاء الطلبة، والثاني: أن يكون الكتاب أساس المعرفة بصرامة علمية والتزام أكاديمي، ومؤكدا أنه مع جميع الطلبة على طريق واحد هو الإخلاص للمعرفة، وهذا هو الشيء الذي يمكن أن نهبه هدية كبرى لبلدنا المغرب، مقدما مثالا لهذا الإخلاص من أطوار مناقشة أطروحته واصفا إياها بالعنيفة جدا، ومصرحا: “أقول لكم اليوم، وهذا غير معروف، إني حصلت فيها على ميزة مستحسن، ولم أفهم قيمة الرسالة والصراع الذي دار حولها، إلا بعد أن نشرت وأصبحت مرجعا في كل العالم العربي، وفي كثير الدراسات الأدبية في العالم. بمعنى أن هذه الطريق لم تكن سهلة؛ فلا تعتقدوا أن البحث بمنطق السؤال والمعرفة، وبعدم التنازل عن السؤال وعن المعرفة هو شيء سهل. فهذا لابد أن يكون مرتبطا بمبدإ الحرية، والحرية صعبة جداً، وقاسية، ولذلك فأنا حاولت أن أقوم بأشياء، وأشكر الأساتذة لأنهم نبهوني إليها”.
ولعل الكثير من هذا الإصرار على السؤال والمعرفة الرصينة هو ما يترسب في ممارسته المهنية مدرسا في الجامعة ومشرفا على البحوث، في حرصه على تكوين طلبة قادرين على تحمل المسؤولية العلمية والأخلاقية، معتبرا أنه معلم يعلم العلم، ويقول لطلبته دائما “أريد أن تكونوا أفضل مني، وإلا فإني لا أستحق أن أكون أستاذا”.
وفي سياق حديثه عن كتابه الجديد، ذَكر محمد بنيس أنه منذ أن سمع قولة الأصمعي، وهو تلميذ في الثانوية سنة 1965، “طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان”، أحدثت في نفسه اضطرابا كبيرا، ظل يكتمه، ثم شيئا فشيئا اشتغل في موضوع الشعرية، وظلت القولة تصاحبه لأكثر من خمسين سنة، إلى أن تهيأ ليكتب، فتفرغ من كل شيء ولم يعد في حياته إلا هي، ساعيا إلى تحليل المعطيات المرتبطة بها مرتكِزا على اختیارات مدققة وموجهة، تنطلق من النقد العربي القديم وتنفتح على الثقافة الغربية في الفلسفة القديمة والحديثة، مؤكدا أن هذا العمل يملك من الخصوصية ما يدفعه لأن يسميه “وصيتي الشعرية، وخلاصة حياتي” التي تتصل بمسألة المعرفة حصرا، تلك المعرفة التي من أجلها تجشم الأصمعي موضوعا من أخطر المواضيع. ولهذا اعتبره محمد بنيس من النقاد الشجعان الكبار لأنه انتبه إلى أن ما كتبه حسان بن ثابت عن الإسلام وفی مدح النبي، کان نوعا من الدعاية الانتخابية، وأن المرحلة لم تكن في حاجة إليها، إذ الإسلام أصبح موجوداً، ولم يعد يحتاج إلى من يدافع عنه، وتلك بداية التأسيس للحضارة العربية باعتبارها لا تقوم على الدعوة، بل جوهرها الشعر الذي خدم اللغة العربية التي نتكلمها اليوم بفضل الشعراء وليس بفضل أي شيء آخر. وتناول هذا الموضوع يستلزم منهجية تفصل المعرفة عن الاعتقاد الديني والأخلاق الاجتماعية، وهو ما بدأه مبكرا قدامة بن جعفر، منذ أن قدم نقدا صريحا وواضحا لعلماء السيرة النبوية، الذين خلطوا بينها وبين الشعر، منطلقا من أن العالِم بالشعر هو الذي یحق له أن يتكلم في الشعر، بحيث أن كل معرفة لها علماؤها، وهذه هي النقطة الأولى في التفكير المنهجي، وهي منعطف جديد في مرحلة جديدة وسمها جدال عنيف وكبير بين الفقهاء وبين النقاد والشعراء. ولأن الشعراء لم يستسلموا لأحد أبدا، ولم يتركوا أي أحد يأخذ منهم الكلمة، فقد كانوا كبارا، ولذلك كان لدينا شعر عظيم.
ويخلص محمد بنيس إلى أن الربط بين المعتقد والشعر، وبين الأخلاق والإبداع الشعري، هو ما جعل الشعرية العربية شعرية مكبوتة، وتبعا لذلك فإنها لم تؤسس بعد، ويجب أن نؤسس شعرية عربية مفتوحة، وإذ الم نتمكن من هذا، فإننا لن نتقدم في المعرفة على الإطلاق، ولا يمكن أن نفهم قضايانا التاريخية.
وداخل هذا التصور العام للشعرية العربية وأفقها، اقترح محمد بنيس في هذا اللقاء المعرفي أن يقتسم مع الحاضرين مفهومه للشعر ودلالة الأعمال التي أنجزها في علاقة بممارسته الشعرية، فأكد أن الشعر بالنسبة إليه هو الكلام الأصفى الموجه نحو العلاقة بالأنت وبالآخر القريب والبعيد، الحاضر والغائب. والعلاقة لها معنى الحوار المفتوح الصامت للقراءة ومع القراءة، وبهذا المعنى يكون الشعر هو رسالة للأخوة التي زمنها هو الحاضر دائما متواصلا ولا متناهیا، وتبعا لذلك يمكن الحديث عن صورة الشاعر الحديث التي تبعث على التساؤل بخصوص علاقتنا بالدرس الأدبى، وبالثقافة وبناء الآداب المغربية الحديثة. ولأن الشاعر هو العنصر الأهم في الإنتاج الشعري، فقد كان بؤرة عناية النقاد في جميع الإمبراطوريات الشعرية اليونانية والعربية والفارسية والهندية والصينية؛ وبالاقتصار على عصرنا فإنه لا يمكن أن نتحدث عن تصور للحداثة الشعرية دون تكوين صورة عن الشاعر الحديث، وهو ما كان مدار انتقاده فى بیان الكتابة سنة 1981.
وجدير بالذكر أن الجلسة الثانية قد خُصصت لقراءات تطبيقية حول الإصدار الأخير لمحمد بنيس، تناول خلالها الطالب الباحث أمين اضريف التحديد الفني للشر في كتاب: “الشعر والشر في الشعرية العربية”، فأبرز المداخل التي اعتمدها الكاتب، في مساءلة مفهوم الشر في الشعرية العربية، من خلال تحليل قولة الأصمعي، التي انطلق منها محمد بنيس لمراجعة مسلمات أخلاقية ودينية وفلسفية وسياسية وثقافية، لتجاوز المعنى السطحي لكلمة الشر، وجعلها مفهوما نقديا، موازاة مع مفهوم “الفحل” عند ابن سلام الجمحي. كما بين أن تخصيص الشعر بالشر، ليس حكما، بل هو تعريف له وتحديد لخصائصه النصية والجمالية..
الطالبة الباحثة سكينة الروكي، تتبعت، من جهتها، المشروعَ الثقافي في (الشعر والشر في الشعرية العربية) بناء على روافد نقد الثقافة الشعرية في الكتاب، والتي يشكل قوامها الشعر والنقد والفلسفة والتصوف، بشكل يعكس رؤية المؤلف في إعادة قراءة التراث الشعري وفق مبدأ عقلاني ينبني على تحرير الفكر، بحيث تصير فكرة الشر بؤرة التحديث الشعري المؤطر بالفكر العقلي الفلسفي.
وتمحورت مداخلة الطالبة الباحثة بشرى مذكوري حول الانتقال من تفكيك النص إلى تفكيك الفكر، من خلال كتاب: “الشعر والشر في الشعرية العربية”، فتناولت اشتغال محمد بنيس على الشعرية العربية – منذ كتاب: “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” – بعين الازدواج التي تراهن على الجزئي في النص، والكلي في الثقافة، بحيث أن الاهتمام بالنص الشعري وما ينطوي عليه من أشكال التفكير لا ينحصر في علاقة النص بالواقع، بل بامتداده الزمني، بما يسوغ أن تصبح مساءلة الحداثة هي “تبني زمنٍ ومعرفة مغايرين يستهدفان إدراج المنسي واللامفكر فيه ضمن مشروع استنطاق التفاصيل الصغرى”.
وقد كان للجمهور الحاضر من الأساتذة والباحثين والطلبة الذين غص بهم المدرج عن آخره، رونق خاص في أجواء دافئة، بكل ما تحمله من أناقة الكلمة والشعر والثقافة، وسياقات المغرب الثقافي، من قبل وراهنا، لقاء تاريخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مع محمد بنيس، الشاعر والناقد، والمثقف المفكر، الهادئ والعميق، في اجتراح الأفكار والأسئلة.
وفي معرض ردوده، أشاد محمد بنيس بالمداخلات وأثنى على تنوعها واختلاف زاوياها، معتبرا أنها قدمت ترکیبا جدیداً للکتاب، ومؤكدا أنه يطمئن على قدرة الطلبة على التمييز بين ما هو معرفي والرغبة في طرح السؤال عن المسكوت عنه؛ ثم تفاعل مع نقاشات الحاضرين وأسئلتهم، مشددا على تقدير مواقف المتدخلين لاعتبارهم أن هذا الكتاب لا يصدر عن نية هدامة، بل هو عمل للبناء، مشيرا إلى أن الدرس الأكاديمي يقتضي التريث في إصدار الأحكام، وتدقيق التمثلات؛ وداعيا إلى استشعار المنافذ التي يفتحها كتاب: “الشعر والشر في الشعرية العربية”، باعتباره يقدم تصورا فريدا ورؤية مفصلية في تاريخ الشعرية العربية، إذ “هناك ما قبل هذا الكتاب وما بعد هذا الكتاب”.
< تقرير: الحسين والمداني