لم تبخل الأديبة والفنانة الراحلة زهرة زيراوي، قط علينا في القسم الثقافي لبيان اليوم، بالاستجابة لنداء المشاركة في أي محور أو ملف نقترحه عليها، وحتى عندما لم تكن تسعفها الظروف في حينه، كانت تعتذر وتطلب منا مهلة.
في إحدى رسائلها إلينا، عقب دعوتنا لها للمشاركة في ملف حول الوقائع الطريفة في حياتها الثقافية والنضالية، كتبت تقول: (أنسى ما حدث من طرائف في حياتي، لا أعلم السبب؟؟ أظل مشدودة لسؤال وجودي عبرني أو عبرته يوما.. هذه أنا وهذا حصادي من
الأيام.. للعلم إن البطلين الشهيدين اللذين تحدثت عنهما، هما من أبطال حزب الجريدة التي تشتغلون بها: العربي وعبد الله الحداوي، أعدت بطولتهما للواجهة).
مما يعلق بالذاكرة ما يلي:
يومها كنت تلميذة بمعهد الأميرة عائشة بالدار البيضاء السنة أولى ثانوي، ومدير المعهد آنذاك الأستاذ الفقيه التاغي رحمه الله تعالى، كان يصر هذا الرجل على أن نتحلق حول العلم وأن نقرأ
النشيد الوطني قبل أن نلج لأقسامنا، إلى هذا كان مرة مرة يدخل علينا الفصل ليتحدث لنا عن تاريخ المقاومة، وعن الوطنيين، فمن قاهرة المعز أسعد عرابي ومن الجزائر عبد القادر الجزائري وفي تونس فرحات حشاد، كان هذا الحماس الذي يدفعنا باتجاهه،
يجعل منا من يحلم في أن يصوغ نصا نثريا أو شعريا عن الوطن وعن المقاومين.
في هذه الفترة بالذات الحديثة العهد بالاستقلال، كانت تقام في الأحياء الشعبية حفلات يقيمها أبناء الوطن، هكذا كانوا يصرون على التسمية، تسيج لها مساحات من سعف النخيل، تقام هذه الأماسي خاصة بشهر رمضان المعظم أو في حفلات عيد العرش، كنا نتحلق حول أبناء الوطن نسمع نشيدهم أو نتابع مسرحياتهم. أذكر من بين هذه الأسماء الشاعر مصطفى التومي وهو يقدم في فضاء درب السلطان أو حي الأحباس أعمالا مسرحية، منها كليغولا وفي سبيل التاج، وهي أعمال مسرحية من ممثل فردي، مصطفى التومي رحمه الله كان عمره دون العشرين في تقديري، المهم سولت لي نفسي أن أخطب في هذه الجموع في الساحات الوطنية التي يسيجها سعف النخيل، كتبت كلمتي ورحت للمسئولين أعرض عليهم مطلبي، وافقوا وارتقيت الركح و بدأت أخطب فيهم وأعجبني كيف كان الجمهور يقاطعني بالتصفيق، ولعلني طمعت في أن أنال إعجابا وتصفيقا أكثر، فبدأت بتحية حزب من الأحزاب، ولعله كان صاحب المساحة المسيجة، نلت تصفيقا أكثر، تماديت فهتفت: يحيا حزب الشورى والاستقلال، يحيا الهلال الأسود.. تتابع التصفيق الحاد، في هذه اللحظات أطفئ الميكرفون رافع الصوت، وأحسست بيد قوية تجذبني من ظهري لتنزل بي من الركح أرضا، وانقلب الإعجاب بي إلى استياء.
أذكر أن ما جعلني أحيي الهلال الأسود هو أن جارتنا السيدة رحمة كان لها ابنان، محمد الحداوي قتله الاستعمار الفرنسي، خلال فترة الاستعمار، وعبد الله الحداوي قتل في الأحداث التي تليت الاستقلال هو والأستاذ العربي الذي كان أستاذا بمعهد مولاي إدريس الأزهر القريب يومها من القصر الملكي بحي الأحباس، أعتقد أنهم كانوا ينتمون جميعهم للهلال الأسود.
تحكي الأم السيدة رحمة أنها عندما ذهبت لتستلم جثماني كل من عبد الله ولدها وأخيها السيد العربي الحداوي، تعرف عليها ضابط الشرطة الفرنسي وهو يسلمها جثمان ولدها عبد الله، تحكي السيدة رحمة بأنه علق قائلا: محمد قتلته فرنسا، وعبد الله من قتله؟..
تمضي السنون وتظل طريفة حلمي تسكنني، وتظل صورة الحزبي في وطني تبعث الضحك في نفسي.
الحب:
التقيت في محطات كثيرة من عمري، ببشر شكلوا محطات أساسية من حياتي، أنا لم أختر أي واحد منهم، بل الصدفة، لم أندفع لأبحث عن شخص معين، وفق مقاييس أو تصور خاص، جاء كل شيء عرضا، حياتي لم يكن فيها أي تخطيط، شبيهة بأحداث الطبيعة البرية لا يوجد لها ترتيب، هكذا يبدو لي، مثلا مريم بجدائلها الحمراء بالثانوي، كانت أول الحب، ثم كان أن مررت بمحطات التقيت فيها بأخريات، بأنيتا مورهارد بفارسوفيا، غير أن كل ذلك لم يكن منه في نيتي أي شيء مسبقا، هناك شيء ما تنسجه أشياء كثيرة، إيقاع خطو عابر، فضاء تلك اللحظة، ربما شجرة على ناصية الطريق أظلتنا معا، أو مقعد في الكلية أو في حديقة عمومية، فحدث ما حدث، قد يجر هذا الشيء الصغير نحو علاقة ما، هذا ليس اختياري، ولست وحدي مسئولا عنه. لقد غرست خمس شجرات بباب بيتي، غرست أيضا ورودا أسقيهم حسب رغبتهم، لقد ارتبطت بهم منذ كانوا أجنة، كنت أحبل بهم، ثم صاروا أطفالا، يعطونني الحياة، حياة جديدة، أعطت للفضاء الذي أعيش فيه من الجمال ما أعطت. هذه الشجيرات الخمس وهذه الورود التي تحيط بها تعطي للفضاء الذي أعيش فيه حياة من نوع آخر، أستنشق هواءه، هذا حظي، لقد كانت هذه الشجيرات تكلمني وأتكلم معها، وكلما زرتها أحس بأنها تحدثني حديثا صامتا لكنه يحمل معنى من معاني الألوهية، ومن الصوفية ما يحمل، هذا هو الحب، عندما يتحول إلى لغة أخرى إلى الحوار الذي يحس وليس يسمع.
(الحب) هكذا بين قوسين عند الكثيرين، ارتبط بالتحولات. بالمادة، بكل ما تملكه المادة من سلط، ومن أدوات، كل ما يجعل البشر مرفهين: قد يكون عمارة أو شقة باذخة أو شاطئا، أو رحلة إلى مكان ما.أما حبي لنجمة فلم يرتبط إلا بالحب عندما يسمو الحب بين الزوجين، فلا تقف أمامه السنون، ولا الهموم، ولا المال، ولا الفقر، ولا الصحة، ولا المرض، ولا الرغبات الشخصية، ولا الزمان، ولا المكان، بل حتى الموت.هذا ما آمنت به. ما رأيناه يا نجمة في مارينا اسمير ذلك اليوم، هو بدء لحياة نوع آخر للبورجوازية، أرقام دولار، برميل بترولإنها الصور التي تجعلك تهرب باتجاه عزلتك.
الموت:
كثيرون انتصروا على الموت ورأوه سببا من أسباب الحياة. أتذكر جورج فريديريك واتس قرأت عن لوحته الأمل عبر صفحات كوكل، كتب عنها أنها لا تصنّف ضمن الأعمال الفنّية التي تثير الفرح أو تبعث على البهجة والارتياح، لكنها مع ذلك تحمل فكرة إنسانية عظيمة وتثير أجمل وأنبل ما في النفس الإنسانية من مشاعر وأحاسيس. عندما أتمّ جورج واتس رسم اللوحة منذ أكثر من مائة عام، سرعان ما وجدت طريقها إلى كلّ بيت وأصبحت حديث الناس والنقاد، على السواء، في بريطانيا. وبالنظر إلى مضمونها العاطفي والإنساني العميق، فقد انتشرت اللوحة حول العالم واستنسخت مرارا وتكرارا، وظهرت العديد من قصائد الشعر التي تستمدّ من مضمون اللوحة موضوعا لها. العنوان قد لا يدلّ على جوّ اللوحة، إذ نرى امرأة معصوبة العينين وحافية القدمين وهي تجلس في وضع انحناء فوق ما يبدو وكأنه مجسّم للأرض بينما راحت تعزف على آخر وتر تبقّى في قيثار مكسور. تعابير وجه المرأة غامضة إلى حدّ ما، بينما يغرق المشهد كله في موجات مهتزّة من اللازوردي والأصفر بتدرّجاتهما المشعّة.. فالمرأة مستمرّة في العزف حتى بعد أن لم يتبقّ في قيثارتها سوى وتر وحيد. واتس كان أحد أعظم الفنانين الذين ظهروا خلال العصر الفيكتوري، وكان للوحاته مضامين رمزية؛ أخلاقية وفلسفية وروحية. في ذلك العصر كان الفنانون والأدباء والشعراء مفتونين بالموسيقى وعناصر الجمال المختلفة. ومثل معظم معاصريه، كان واتس منشدّا إلى فكرة الموت، إذ كان يرى فيه مفسّرا للحياة وامتدادا لها. وربّما لهذا السبب، تروق لوحاته كثيرًا للمتديّنين وللفئات الاجتماعية المحرومة، بالنظر إلى طبيعتها الروحية التي تضفي على مشاعر الحزن والألم واليأس طابعا من الجمال والنبل والقداسة.كان واتس يرسم الأفكار لا الأشياء..الموت؟.. لا يخيفني، أو على الأقل أحاول أن أمنطق القضية، أحولها إلى أعداد رياضية، تجعل الأمر واضحا وعاديا عندي على الأقل، فاليوم هو ناقص من مسافة زمانية كانت في أيدينا البارحة، وهو أيضا ميتة في مجموع ميتات مرت ومررت بها، وميتات قادمة.
ــ ماذا بعد الموت؟
سؤال كان يشغلني كثيرا، كنت أستعيد فضاءات ذلك اليومي الذي لا أراه، أحدسه فقط، كثيرا ما سألت نفسي: المرأة التي أحببتها هل ستكون معي هناك، أُمّي وكل من عرفت في حياتي، نساء ورجالا هل سيكونون هناك معي؟؟ نجمة هي من سيختزل وجوههم جميعا، وتختزل أرواحهم الطيبة؟ألتفت لنفسي أضحك منها كمن يعزف على آلة رباب، ويرغمها على أن تهبه نغمة أوركديون، أو بيانو، أو سكسافون.أنت مصاغ مما يمكنك إدراكه هنا، هنا فقط. يتقلص الموت حتى ليكاد يصبح مجرد شعرة فاصلة بين حياتين، بين هنا، وهناك أمشي في النفق المظلم حثيثا، تبدو عن بعد كوة ضوء أعرف أنها هي الهناك.ألا تسل مني أمكنة، وأزمنة، وأناس أحببتهم، الموت أحس به داخلي يتمطـط، لكن علي مواجهته من أجل حياة تولد من جسد هذا الموت، لتكون ذات جدوى، لتأخذ المعنى الحقيقي الذي أريده. ما حدث البارحة لي لم يجعلني أخاف الموت، دخلت لآخذ حماما وأستريح من عناء اليوم، أخذت مجفف الشعر لأجفف شعري، وبعد ذلك لم أتذكر أبدا ما حدث، فتحت عيني وجدت مساعدتي تبكي، كانت تسألني عما حدث؟ لم أجد ردا لأنني خلال فترة الغيبوبة كنت مرفوعا إلى عالم غير العالم، لا أذكر أنه كان عالما مخيفا، لكنني لا أعرف التفاصيل بالمرة، فزعت وذهبت لقسم المستعجلات لأعرض نفسي على الطبيب، كان يسألني هل كنت تفرك يديك؟ أنى لي أن أعرف؟ لقد كنت غائبافسر لي الطبيب الحالة قال:شبيهة بارتباك الطائرة ووشوكها على السقوط، ثم فجأة تصعد، ثم قال:لا تحاول أن تتذكر فلن تتذكر شيئا. لكن هذا إنذار. إن الموت حاضر عبر لحظات اليوم نأكل.. نشرب.. ننام.. نمشى على الأرض ثم فجأة نختفى.. نصير في طيات الأرض بعد أن كنا نمشي عليها.. هذا القلق الوجودي للموت ملازم لنا. ما يعنيني هو هذا الذي أكتبه ما جدوائيته؟ وهل سيصبح مثيرا للضحك أو السخرية أو الاشمئزاز في يوم ما عند الآخر، أو جديرا بالقراءة كلامية العرب للشنفرى؟ كيف أستحضر في نصي الموت؟ أتذكر تساؤل مارغريت دوراس عن من أين ينبعث الموت؟.. تقول: شاهدت كيف يمكن لذبابة أن تموت، استغرق هذا وقتا، كانت تتخبط قبالة الموت، قد يكون استغرق ذلك من عشر إلى خمس عشرة دقيقة ثم توقفت، يجب أن تكون الحياة قد توقفت. بقيت لأواصل المشاهدة. ظلت الذبابة ملتصقة بالحائط كأنها متشبثة به. كنت مخطئة: كانت ما تزال على قيد الحياة. بقيت لأشاهدها، متمنية أن تعاود الأمل. لقد جعل حضوري هذا الموت أكثر وحشية. كنت أعرف ذلك. بقيت، من أجل أن أرى الموت يحتل الذبابة تدريجيا، وأكتشف من أين ينبعث، من الخارج أم من سمك الجدار، أم من التربة، من أي ليل يأتي، من الأرض أم من السماء، أم أنه يأتي من الغابات القريبة، أم من العدم الذي لا اسم له، قد يكون قريبا، مني ربما، أنا التي أحاول أن أقتفي آثار ذبابة في طريقها إلى الأبدية، لم أعد أعرف النهاية بلا شك، سقطت الذبابة وقد أنهكت عن آخرها. انفلتت الأرجل من فوق الجدار وهوت. لم أعد أعرف إلا أنني خرجت من هناك. قلت لنفسي: بدأ ينتابك الجنون وخرجت.جميل أن تقودنا الكتابة إلى حالة شبيهة بالحلم.جميل أن تقودنا الكتابة إلى المروع في الكتابة.امرأة يدفعها مشهد ذبابة تموت على الجدار، ليذهب بها المشهد إلى قضايا الموت.إلى سؤال: من أين يأتي الموت؟ فتنتهي إلى أن الموت واحد، وأن موت الذبابة يؤاخيها بالإنسان، بالشعوب المستعمرة، المهم أنه توثيق الموت.نعم مارغريت صحيح ما قلته:موت الذبابة يؤاخيها بالإنسان، بالشعوب المستعمرة.ما قلته يا مرجريت يحيلني على ما تفعله القوى العظمى في مستضعفي الأرض، إنهم الذبابة التي رأيتها ذات مساء تتخبط على الجدار، ذاك ما تفعله السياسة العالمية اليوم.
(مقاطع من رواية “الفردوس البعيد”)
اعداد: عبد العالي بركات