الروائي الأمريكي فيليب روث يدخل موسوعة “لابلياد”

دخل الروائي الأمريكي فيليب روث إلى موسوعة “لابلياد” الفرنسية التي تتوج مسار كبار الكتاب في العالم، حيث نشرت الجزء الأول من أعماله الكاملة التي تشمل رواياته وقصصه الصادرة ما بين (1959 – 1997). وهو ما سيسلط الضوء على مبدع متميز ويعيد اكتشاف جوانب غير معروفة من مشواره الأدبي الطويل. في المقدمة النقدية الخاصة بهذا الجزء الأول، تقول بول ليفي إن فيليب روث صاحب إبداع “متعدد الأشكال ومتميز بفيض إبداعي يستعصي على أي محاولة للتصنيف”.

يعيد حدث دخول فيلب روث إلى موسوعة “لابلياد” هذا الكاتب إلى الواجهة الأدبية ويسلط عليه الضوء بعد أن كان قرر التوقف عن الكتابة بشكل مفاجئ في العام 2012 بمحض إرادته ولرغبته في التحرر مما سماه “العبودية” التي تفرضها الكتابة الأدبية. كان قرارا مفاجئا لعشاقه الكثيرين عبر العالم. ويعتبر فيليب روث، في سن 84، أحد آخر كبار الكتاب الموسومين بالكلاسيكيين، أي الذين كتبوا الرواية قبل ميلاد التلفزة والانترنيت وقبل أن تؤثر ثقافة الصورة على مخيالهم ومرجعياتهم، كما يقول الكاتب مارك وايتزمان.
اختار روث الكتابة لأنه كان يحلم، مثل الكثيرين من أبناء جيله، بأن يصبح “إلها للخيال” في مجال الرواية مثل الأمريكي إرنست همنغواي والإنجليزي جوزيف كونراد والفرنسي غوسطاف فلوبير وغيرهم الذين كانوا بمثابة قديسين بالنسبة إليه عندما بدأ الكتابة. (1).
مهنة الكتابة تشبه في نظره عشق المرأة. فهو يرى أن الكاتب عندما يكون في بدايات مشواره يكون “كله حماس وسذاجة. فيقول مع نفسه يا للروعة أنا كاتب! وهو فرح يشبه قول الإنسان: يا للروعة أنا لدي امرأة في حياتي! ولكن، أن يعمل الإنسان يوميا في هذا المجال لما يقارب خمسين عاما – سواء ككاتب أو كعاشق – يجعل منها مهمة ذات متطلبات كثيرة. وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون من أمتع الأنشطة التي يمارسها الإنسان”.
هاته المقارنة مع عشق المرأة تحيل إلى حياة عاطفية صاخبة ومتحررة لكاتب تزوج أكثر من مرة. وتحضر المرأة بقوة في إبداعاته. فهو لم يتردد في استلهام حادث انفصاله عن زوجته الأولى لكتابة رواية “حياتي كرجل” (3) وهي رواية كتبها 14 مرة قبل أن تخرج في صيغتها النهائية. وهو زواج شكل بالنسبة إليه “تجربة صادمة ومروعة ومنفرة” أقدمت خلالها زوجته على محاولة للانتحار. وأدى انفصاله عنها إلى دخوله في أزمة نفسية ولجوئه إلى طبيب نفسي للعلاج. وهذه التجربة مع الطبيب النفسي سيقوم باستلهامها لكتابة هذه الرواية عبر استخدام تقنية “التداعي الحر”. وعموما يؤكد الكاتب على أنه لا يقوم باستنساخ أحداث حياته الشخصية ولا بكتابة سير ذاتية، فهو يستعمل تلك الأحداث فقط كمادة في ما يسميه “اللعبة” أو “المسرحية” بحيث يبقي ذاته خارج الأحداث ويترك الباقي للعبة الخيال تفعل فعلها.

“الرحالة العرب” وقصص”ألف ليلة وليلة” في “لابلياد”

تختار موسوعة “لابلياد” La Pléiade نشر أهم ما تبدعه الآداب والفلسفات الإنسانية الفرنسية و العالم سواء القديمة منها أو الحديثة. وقد تأسست في 1931 وهي تابعة لدار النشر الشهيرة غاليمار. ويعود اسم “لابلياد” إلى جماعة شعرية فرنسية ظهرت في عصر النهضة في القرن 16. وتقوم الموسوعة على فكرة تقديم الكتب بطريقة ممتعة للقراءة من خلال طبعات راقية ذات حجم صغير أو ما يسمى بالفرنسية: livre de poche أو “كتاب الجيب” مع غلاف من الجلد المرن والمغطى بذهب خفيف وعلى ورق يسمى “ورق الكتاب المقدس” الذي يستعمل لطباعة الإنجيل أو الموسوعات. وعند اختيار الكتب المتوجة، يتم اعتماد المخطوطات أو الطبعات الموثوقة لتلك الكتب، ويكلف كبار الأخصائيين بكتابة مقدمات نقدية لتوضيح أهمية الكاتب المحتفى به ووضع أعماله في سياقها التاريخي والأدبي. ومن بين الكتاب الذين تشرفوا بصدور طبعات لأعمالهم في “لابلياد” يمكن ذكر الأمريكي إدغار آلان بو، والفرنسيان شارل بودلير، وجون راسين وغيرهم. كما عملت الموسوعة على الانفتاح على الآداب الأجنبية ومنها الآداب العربية وأصدرت قصص “ألف ليلة وليلة” بترجمة جمال الدين بن الشيخ وأندري ميكيل، وكتاب “الرحالة العرب” وهي مجموعة مختارة لكتابات ابن بطوطة وابن جبير وابن فضلان. إلى جانب إصدارات خاصة بالآداب الصينية واليابانية وغيرها.
ينحدر فيليب روث من يهود بولندا الذين هاجروا إلى أمريكا في بدايات القرن الماضي. وكان لأبيه المهاجر تأثيرا كبيرا على شخصيته إلى درجة أنه خصص له إحدى رواياته وهي بعنوان “موروث” (التي تحمل عنوانا فرعيا هو: قصة حقيقية)، ويحكي فيها عن الأشهر الأخيرة من حياة والده وعن الروابط القوية التي كانت تجمعه به. كما أهدى روايته “الحياة المضادة” (5) لأبيه في عيد الميلاد الخامس والثمانين لهذا الأخير وتدور أحداثها بين أمريكا وإسرائيل وتحكي عن عائلة تشبه كثيرا عائلة فيليب روث ومساره الشخصي وتناقضاته وهلوساته ككاتب وكيهودي. ويعتبر بعض النقاد أن هذه الرواية “تتناول النزاع العربي الإسرائيلي من منظور استعماري” (6). وتحضر إسرائيل والأراضي المقدسة في الكثير من متنه الروائي كما تحضر بقوة الأجواء الخاصة بأوساط المثقفين اليهود والطبقة الوسطى اليهودية في نيويورك.
ونتيجة أصوله العائلية هاته كان له ارتباط قوي بأوربا: بأرضها وبثقافتها الروائية. وعاش كثيرا في أوربا متنقلا بين لندن ومدن أخرى. وساند في سبعينيات القرن الماضي العديد من كتاب بولندا وتشيكوسلوفاكيا على نشر كتبهم خلال مرحلة الحرب الباردة وقمع الأنظمة الاشتراكية آنذاك. وكاد أن يدخل السجن بسبب ذلك.
قد يكون فيليب روث حقق اليوم حلمه بأن يصير بدوره إلها للخيال بدخوله إلى موسوعة “لابلياد” بعد أن مارس الكتابة طيلة 50 سنة، ألف خلالها حوالي 30 قصة ورواية، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية في أمريكا وعبر العالم من بينها جائزة “بوليتزر” الأمريكية في 1998، وجائزة “ميديسيس” الفرنسية في 2002، وجائزة مجلة “لير” الفرنسية في 2002. لكن جائزة نوبل ما زالت لم تبتسم له رغم أن الكثيرين يرون أنه يستحقها. بيعت مآت الآلاف من رواياته في مختلف الترجمات. وقد ترجم بعضها إلى العربية ومنها “الوصمة البشرية” The Human Stain عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بترجمة الشاعرة فاطمة ناعوت. كما نقلت بعض رواياته إلى السينما مثل “وداعا كولومبوس” و”الرحلة الأمريكية”، و”بورطناي وعقدته” التي تعتبر من أشهر ما كتب. وإن كان بعض النقاد يعتبرون أن نقل روايات فيليب روث إلى السينما لم يكن موفقا بشكل عام.

سحر الكتابة لم يعد له مفعول

وتتنوع التيمات التي يشتغل عليها وتشمل التراجيديا السياسية، والكوميديا، واليوميات الذاتية الحميمية. بحيث أن سيرته الذاتية أثرت كثيرا على إبداعاته رغم أساليبه التعبيرية المتميزة والمتنوعة. ويطبع كتاباته الكثير من التهكم والدعابة التي تشتهر بها الثقافة اليهودية. وقد حدد بنفسه التزامه واختياراته في مجال الكتابة بكثير من الوضوح والدعابة الوجودية بحيث يقول إن الكتابة بالنسبة إليه تعني “معركة مع المرأة والأحبار ورجال السياسة والمحللين النفسانيين ونقاد الأدب” (7).
يعترف فيليب روث بأنه توقف عن الكتابة في الوقت المناسب لأنه لم يعد لديه ما يقوله في هذا المجال: “أعتقد أن الأمر انتهى. أعتقد أنني انتهيت”. وهو يقصد ربما أن معين الخيال قد نضب ولم يعد لديه ما يعطيه أو هذا على الأقل هو الإحساس الذي خالجه عندما اتخذ قراره، وإن كان ما زال يبدي بعض الانزعاج عند الحديث عن هذا الموضوع. وما يحسب له هو شجاعته في إعلانه رسميا وعلنا عن توقفه عن الكتابة لأن الكثيرين لا يعلنون ذلك ويفضلون التوقف في صمت لأنهم، حسب رأيه، لا يرغبون في أن يعرف الآخرون بأن “سحر كتابتهم لم يعد له أي مفعول” على قرائهم. ويبدو أن هناك عوامل أخرى خارجية أو موضوعية أثرت في قراره، ومن أهمها أنه لاحظ تراجعا لعدد القراء الجيدين والجديين للأدب عبر العالم. فهو يقول إنه سجل منذ 2003 تراجعا لعدد القراء الجديين للأدب في أمريكا بل وتنبأ بتراجع عددهم أكثر في المستقبل بحيث أشار إلى أنه بعد 20 سنة سيصبح عددهم مساويا لعدد من يقرأ اللغة اللاتينية اليوم وهم قليلون. والسبب في هذه الظاهرة برأيه هو ما يتعرض له الأدب من منافسة من قبل التلفزة والانترنيت، ومن عناصر “الفرجة” التي تسمح بها هذه الوسائل وهو ما لا يمكن للأدب أن يمنحه ويوفره برأيه.
صار فيليب روث اليوم يقضي أغلب أوقاته في قراءة الكتب التاريخية وممارسة رياضة السباحة، إلى جانب إلقاء محاضرات حول تجربته الإبداعية في مكتبة مدينة “نوواراك” Newark مسقط رأسه والقريبة من نيويورك. ويقوم حاليا بكتابة تعاليق حول “سيرة حياته” التي يكتبها أحد المؤلفين بمساعدة شخصية من روث. كما يلتقي ببعض المخرجين السينمائيين مثل دافيد سيمون الذي يعد حاليا سلسلة تلفزية مستمدة من رواية الكاتب: “مؤامرة ضد أمريكا” الصادرة في 2004 وهي ثلاثية روائية شهيرة تدور حول تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية ولاقت نجاحا عالميا. وتتناول أحداثا فاصلة عرفتها البلاد بعد الحرب العالمية الثانية مثل حرب الفيتنام والحملة الماكارثية ضد الكتاب والشيوعيين. وهو موضوع يثير إحساسه الحانق على ما تطورت إليه أمور السياسة اليوم في بلاده مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة وسياساته حيث يقول بأسى: “ما يجري اليوم في أمريكا هو في نفس الوقت تراجيدي ومحزن ومفزع”. ويصف دونالد ترامب بأوصاف قاسية حيث يقول إنه “بلطجي متكامل الأوصاف وشخص بغيض وجاهل”. والسبب في ذلك برأيه هو أنه يريد إلغاء نظام التغطية الصحية مما سيتسبب في معاناة العديد من الأمريكيين. كما يعتبره شخصا عنصريا لا يكترث بحماية البيئة. وهو، برأيه، رئيس على النقيض تماما من الرئيس السابق باراك أوباما الذي يصفه “بالرجل المثقف والذكي والجدير بالاحترام”.
المراجع:

• عدد خاص عن فيليب روث أصدرته مجلة لوموند في فبراير 2013.
• حوار مع الكاتب. جريدة لوموند 13 أكتوبر 2017
• نفس المرجع.
• “حياتي كرجل” هي إحدى الروايات التي يضمها الجزء الأول من موسوعة لابلياد
• رواية “الحية المضادة “La contrevie الصادرة عن غاليمار. سلسلة فوليو. العام 2006.
• صديق محمد جوهر دراسة بعنوان: “شايلوك في مروج الجليل. تزييف التاريخ الفلسطيني في الرواية الأمريكية المعاصرة”.
https://books.google.co.ma/intl/fr//googlebooks/about.html
• انظر موقع: www.lecteurs.com

> بقلم: محمد مستعد

Related posts

Top