الرّؤية السردية في مجموعة “الطيف لا يشبه أحداً” لحسام الدين النوالي

“الطيف لا يشبه أحداً” مجموعة قصصية في خمس وتسعين صفحة من الحجم المتوسط  للقاص حسام الدين النوالي، صدرت عن مطبعة نجمة الشرق ببركان من منشورات ديهيا، أما لوحة الغلاف فكانت للفنانة زكيـة مركوم، و تضم المجموعة أربعة عشر نصاً قصصياً قصيراً وهي كالتّالي : “الوحيدون، لا أحد ، حبات التين، أصبع الحرب، فنجان السبت نلت تموت وحيدا، آلتان ،الطيف لا يشبه أحداً، اللوح غير المحفوظ ،الباب الكبير ،رجل ينتظر ما مبا دوويا، ملامح الحيطان، ما لم يكن أبي يحكيه لي كي أنام ، عودوا
غداً. “. وقد قدم لهذه المجموعة عبد العزيز غوردو.  نعالج نصوص هذه المجموعة من خلال الرّؤية السّردية مستعيرين المصطلح من الخطاب الرّوائي في النّقد المعاصر وبخاصّة عند البويطقيين. فإنّ الرؤية السّردية عند تزفتان تودوروف تعني ” الكيفية التي يتمّ بهـــا إدراك القصّة من طرف السّارد ” (1) والقاص حسام الدين النوالي، شغوف بالحكي / متأثر غاية التّأثر بالحكي الشّعبي في دوائر ( الحلقة )، و الرّاوي و طريقته في رواية الأحداث وقد انعكس ذلك  في بعض نصوص هذه المجموعة:
ففي النص الأول ” الوحيدون ” من المجموعة، نصادف سارداً يوظف الأسلوب البانورامي الذي اهتمّ به بيرسي لوبوك في كتابه ” صناعة الروايــة ” وفيه هيمنة مطلقة للسّارد على متواليات النّص، و بالتّالي فالسّارد مشارك ومصاحب، وتتحدّد الرّؤية بأنّها داخلية وفق ما يرى أوتول
أو الرّؤية – مع كما يرى جان بويون بصيغة المتكلم، و تعميقاً للإحساس بالذّات، يسرد الطفل بعضاً من مشاهد طفولته: ” .. و كأنّ الشمس تغرب مرتين، مرّة جهة يرقد الولي الذي يرعبني المسير جواره، ومرّة في جسدي، وعند كل غروب، أرتمي داخل البيت، آكل وأستسلم للرقاد. فمنذ غادرنا والدي وأمّي حزينة .” ص/15فهذا المدخل يكاد يختزل القصة، ولكنه يغري المتلقي لمعرفة المزيد، فالأمّ حزنها مزدوج، فقدان الزّوج والعيش مع وحيدها في وحدة قاسية، ما جعلها تنتقل إلى مسكن الجدّة، و إن كان ذلك يشقّ عليها أن تفارق بيت الذكريات لكن الطّفل/السّارد، كان سعيداً أن يركب شاحنة الرّحيل، ويبتعد عن معلم اللّغة العربية. يصف جدّته قائلا: ” وجدّتي هذه امرأة عجوز، لا تفارق عصاها. كثيراً ما تجلس عند عتبـة الدّار وتسند ظهرها لركن الباب. كانـت عيناهـا تدمعــان على الدّوام، تحضنني مــرارًا على صدرها، وتمسح رأسي بيدهــا، وحين أهــمّ بالنّهوض، تقبل جبهتي بفمها الأدرد المرتعش . “ص/16و بعد أن تمّ الاستقرار في بيت الجدة ، لاحظ الطفل /السارد: ” صارت أمّي تتأخــر، أسال عنها جدّتي فتحضنني ثمّ لا تجيب .. و حين تعود تتكلمان كثيراً، بعدها ترفع أمّي صوتها بقوّة، تتوتر، فتصمت جدّتي، تتمتم، وتنصرف..” ص/16في هذا الفقرة، تلميح خفي، السّارد/الطفل لا يعرف مغزاه  لصغر سنه، ولكــن المتلقي يستطيع أن يحمل ذلك محمل التّأويل. ولا يبقى في براءة إلقاء الطفل. وقد يتأكد ذلك، وبصورة اليقين المباشر، إذ يصاحب الطفل أمّه إلى الحقول حيث تشتغل، وفي الطّريق يصادفان رجلا فوق حماره، كلَّم الأم لحظات، ثم أغرى الطفل بركوب الحمار، ونصحه أن يقوده حتّى شجرة الصّفصاف والعودة سبع مرّات ليستأنس به الحمار و يطيعه، وشجّعته أمّه على ذاك. لكنّه حين أنهى بعض الأشواط، اكتشف أنّ أمّه والرّجل قد اختفيا:”  حين عدت كانا قد اختفيا، بحثت بعيني، لم أرهما ، ثمّ لم آبه وواصلت العدّ .. ” ص/17
مرّة أخرى يتكرر جهل السّارد بما يجرى، ولكن المتلقي تيقّن مما اختمر في ذهنه. السارد/الطفل، لم يبق طفلا، لقد كبر وكبر وعيه بالحياة وما يحيط بهـا وبخاصّة بعـد أن حدثت أشياء كثيرة، ليست سوية، ولا تبدو أنّها عادية ما حمله على طرح أسئلة كثيــرة: “فحين كثرت أسئلتي وقويت، وبدأت أصرخ في وجه أمّي، كان الفضاء يضيق ثمّ لا يتسع لكلينا، فيما جدّتي بدأت تمرض كثيراً، و إحدى عينيها ابيضّت ..”ص/17فاضطرت الأمّ أن تعيش حياتها بعيداً عن امّها وابنها ، وعاش الابن مع جدّته المريضة حزينا في وحدة قاسية: “حزنت لأني مع جدّة هرمة ومريضة، وحيـدان بدون أمّـي، و حزنت أيضاً لأنّنا اثنان .”ًص/18
 هكذا كانت الرّؤية ــ مع، أو ما سماها “توماتشفسكي” باسم السرد الذّاتي،  بمعنى أنّ السّارد يساوي الشّخصية القصصية، و قد يعرف ما تعرف. ولا يأتي بتعليـق قبلي يوحي بعلم مسبق، بل كلّ ذلك قد يحدث بعد أن تكون الشّخصية قد حققته كسلـوك أو حدث، أو نمط فكري معين.
وتتكرّر نفس الرّؤية في نص ” لا أحد” ص/19 السّارد يحكي عن نفسه وهواجسه بصيغة الحال، فيعيش المتلقي معه لحظات متوترة تشبه إلى حدّ ما انتظارات مسرحية ” في انتظار غودو” التي تنتهي بألا أحد يأتي، كذلك في هذا النص/النّفسي، الكلّ يتوجّس خيفة على البطل بما فيه هو نفسه مما يشعر به من نظرات شابين غريبين في الحي، وأشياء أخرى، ولكن في النّهاية: ” أصعد السلم. أفتح الباب وأدخل، أصفق الباب، وأرتمي على الكنبة. أفكر فيما حدث: الفتاتان، وسائق الحافلة، البنات اللائي يلعبن بالحبل، والقط.. وأسمع طرق الباب. ــ  من ؟أسرع. أفتح الباب. اللّعنة !!  لا أحد.” ص/22  
يستمر الحديث عن الذّات والآخر في نص ” حبات التين” ص/23 و لكن بتصدير للسّارد. المؤلف. ربّما كان النّص في غنى عنه، لأنّ ذلك من شأن المتلقي أن ينتهي إليه. وكان الأفضل أن يبدأ النّص من قول السّارد/ الشّخصية، التي هي الخادمة الصغيرة في رحلتها اليومية بين البيت حيـث تقطـن في ضاحية المدينة وتنتقل عبر حافلتين رقم7 و رقم25 وتتم المسافة إلى بيت مشغلها في عمارة في الطابق الثالث. فيعيش المتلقي في خضم سرد مزدوج، متداخـل بين حياة الطفلة الخادمة وسط أهلها (أبوها وأمّها وزوجة أبيها، وأخوها المعاق ) والفرس التي لا تعرف إلا الكبار. وشغلها في المدينة، لدى رجل يعيش وحده في شقة، يبدو أنه كاتب لا يكاد يكترث بها: ” .. أصل ، فأصعد السلم إلى الطابق الثالث، أطرق الباب الخشبي الأنيق و انتظر . يفتح و أدخل ، يتجه هو إلى غرفة ، يغلق الباب ، و أبدأ الشغل..ص.23 .. في كل مرة أدخل ينفرد في غرفة و أسمع طقطقات آلة .لمَ لا ينتهي ؟ أشفق عليه و اتذكر أخي الوحيد .ص/24 ..توقفت الآلة عن الطقطقة فانتبهت. خرج . أختلس النظر إليه، لا يلتفت، لا يكلمني…أشعل سيجارة، وتناول آلة التحكم عن بعد، يداه تعبثان بها. شرد لحظة قبل أن يضعها ودخل الغرفة ثم أغلق الباب و بدأت الآلة تطقطق..ص/26 .. اصطدمت عيناي به فجأة ، وغضضت بصري فتساءل: ــ أما تتذمرين ؟هززت كتفي، وزممت شفتي. قلت: :ــ وأنت ؟ابتسم ثم أخرج لسانه فتدلى مثل لسان أخي ، لكن لم يسل لعابه.  (أما تتذمرين؟ ) هي فكرة النص. وحبذا لو بقيت في سياق السارد/الشخصية. ولم يشر إليها السارد/ المؤلف في تصدير النص. نفس الشيء نلمسه في نص ” فنجان السبت ” ص/35 حيث السارد مشارك، يعتمد الحوار مع الجدة، التي بدورها تقوم بعملية السرد، فنخلص إلى  سرد متضمن لسرد آخر. وهو سرد في حاجة إلى تهذيب إذ نلاحظ أن السارد بداية يتحدث عن “ساميا” و زيارته السريعة. وعن فنجان القهوة، وعن المذياع وإطفائه واشتغاله .. وكل هذا لا يخدم الفكرة التي تبدأ ” الجدة التي تدمدم لنفسها .. ” ص/35 كما هناك استطراد في العودة إلى الحديث عن القهوة والفنجان ..وتعليق مؤيد لما سردته الجدة ” ما أحوجنا لبدائية التواصل، وكم جميل أن لا يغزو الحرف قبائلنا فيخرق أحد أسرارنا الجميلة “ص/40
 هذا التعليق الذي كان من الأفضل أن يبقى للمتلقي، فضل السارد أن يبعثه في رسالة قصيرة عبر هاتفه لـ “ساميا” التي يبـدو مــن ردها أنها هي الأخرى لم تستسغ هذا التعليق دون أن تعرف أسبابه، إذ قالت: “يبدو أن إرهاق نهاية الأسبوع نال منك، ما أحوجك إلى نوم هادئ. ليلة سعيدة”.  وفي نص ” آلتان ” ص/43 تتكرر الرؤية ــ مع، فالسارد ينطلق من الذات و يتمحور سرده حولها ..في سرد عجائبي حول حلم يراوده كل ليلة، ويشتد حتى يصير كابوسا..فيترك أثرا واضحا في حياته، ولكن توفق مرغما في النّهاية إلى التفاعل مع الوضع الغريب: “مرت أيّام والكابوس عنيد، نفس الحكاية، بتطور ضئيل، لكن بالمقابل، فشهيتي أضحت تقوى، ثم مساءاتي صارت أليفة، لا ملح، ولا خنجر تحت المخدة .. وأحيانا كثيرة لا وضوء” ص/45 الشيء الذي يتيح مجالا للقراءة و التأويل. أمّا في نص ” الطيف لا يشبه أحداً ” ص/ 47 فقد قسم إلى قسمين (من هنا) و(من هناك) فالسارد يبدو وكأنه لا يملك حدثا معينا وأنّه ولوع بالثّرثرة، يتحدث في أمور كثيرة لا رابط بينها، أو كأنّه يعاني من هلوسة ( من هنا ) :” الوجه الذي يشبهني كصرخة متكرّرة … رجل انكمش داخل معطفه الطّويل .. تصاعدت الموسيقى من محلّ المخبزة .. للتو وصلت طفلة و وضعت قطعها النقدية .. كان الليل الخريفي يكسو المدينة ..اعترتني نزوة طفولية جميلة : ألا أنام الليلة لأرقب انطفاء الأضواء عبر كلّ النّوافذ المقابلة لي..فبدا لي ما يشبه طيف إنسان. . فأطفأت النّور وانطفأ ضوء النّافذة البعيدة أيضاً،ثمّ أشعلت الضّوء وأطفأته، فاشتعل ضوؤها وانطفأ.. أعجبتني اللّعبة ..مرقت سيارة و تابعتها بعيني ..أتوقف عند مقهى Le boléro ثم ّرحت أتأمل المدينة تحت سماء خريفية”.   هذه العناصرالمدرجة أوائلها تبدو وكأنها لا تنسج حدثا، أو بؤرة فكرية تخييلية. ونفس الشيء في الجزء الثاني من النّص
(من هناك) : ( في اللّيل ينمو الصّمت ببطء ..أرقا كان السيد ” قاسم ” يخط في رغوة الأرق منفذا للرحيل  ..و”نوال” التي سافرت وتخلت عنه ..أيقن أن سلطان الأرق، كسلطان النوم غالب .. نهض “قاسم ” وأشعل النور.. راح يرقب قطرات الماء في ضوء مصباح الشارع .. أحس برغبة في النوم فعاد وأطفأ النور ثم تمدد ..نهض متوتراً أشعل الضّوء وارتدى ما كان على المشجب، فأطفأ النّور وخرج .. ثمّ خطا نحو المقهى Le boléro  ودخل ..شبك يديه على الطاولة و غاب في رقدة المدينة.. و انتظر استيقاظها البطيء ليرحل).   فالسّارد في الجزأين يرسم حالة شخصيتين، شخصيته، و الشّخصية التي تشبهه، لقد  قضى الليل لاهياً يراقب انطفاء أنوار الشّقق، والآخر قضى الليل يعاني من الأرق لابتعاد ( نوال) عنه، وإذا كان السّارد يتلهى عابثا بإطفاء وإشعال النّور فإنّ الآخر كان في صراع مع الأرق، ما جعله يطفئ ويشعل الّنّور، وانتهى بهما الأمر إلى أن جمعهما مقهي لوبليرو:  
” كانت المقهى خالية، إلا من زبون شبك يديه على الطّاولة ، وسـرح يتأمّـل الشّارع خلــف الزّجاج ” ص/4
وتتكرّر الرّؤية السّردية، الرّؤية ــ مع ، في نص ” اللّوح غير المحفوظ ” ص/53إذ يزاوج السّارد الحكي تارة بينه و بين الفقيه ( السي المحجوب ) والمرأة الزائرة للكتّاب، وتارة بينه و بين زملائه في الكتاب: سارة وسعد ويوسف ومروان، وتنقسم الرؤيـة إلى قسمين: ما يخص الفقيه والمرأة وفيه تلميح هادئ تشفعه براءة الطفل/السارد، سرعان ما تؤول البراءة قراءة عكسية، فاختلاء الفقيه بالمرأة في غرفة جانبية.. يعيد النظر في السـرد  البريء  للطفل. أمّا القسم الثاني من الرّؤية يجسد عين البراءة واللّهو واللّعـب وذلك فيمــا يخصّ السّارد وزملاءه الصّغار في الكتاب. و نفس الشيء نجده في نص “رجــل ينتظر مامبا دوويا ” ص/63         فنلاحظ من خلال هذه الرّؤية السّردية. ( الرؤية ــ مع ) أنّ القاصّ يستهويه الوجود الفعلي في النّص في شخص السّارد، وسواء كان ذلك من واقع قد وقع، أو شـذرات من خيال خصب. فإنّ النّص وحسب هذه الرّؤية السّردية، يصبح في نسق السير ذاتي بشكل أو بآخر. وهو شعور ينتاب القاصّ، فيجد له متعة ذاتية، كما يستجيب له المتلقي في هــذا السّياق فيحسب ــ و لو لفترة قصيرة هي عمر النص القصصي ــ أنّــــه بصدد سيرة ذاتيـة. لاعتماد السّارد ضمير المتكلم، وفعل المشاركة قولا و فعلا.
 بقي أن نشير إلى أنّ هذه الرّؤية السّردية، بُنيت وفق نَسق لغوي قصصي تمازجت فيه وشائج التراكيب البسيطة المعبرة، والأخرى الشاعرية الفنية. في هرمونية متلائمة متجانسة، أساسها خدمة الفكرة، وتوطيد دلالتها، وعمق تأثيرها السّردي. الشّيء الذي يكشف عن موهبة قصصية مبدعة أعلنت عن نفسها من خلال هذه المجموعة، التي هي مجموعة واعـدة، تنبئ بالشيء الكثير في مجال القصة القصيرة.

هوامش:
 1ــ تزفتان تودوروف، “مقولات السرد الأدبي”، ت/ الحسين سحبان وفؤاد صفا، طرائق تحليل السرد الأدبي، مشورات إتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط1 ،1992، ص61

>  بقلم: مسلك ميمون

Related posts

Top