السمات الجمالية والفنية في ديوان “أمشي على حروف ميتة” للشاعرة الإيرانية “سانازداودزاده فر”

“أَمشِي علَى حُروفٍ مَيتةٍ” ديوان شعري يعد الباكورة الأولى للشاعرة الإيرانية “سانازداودزاده فر”. سيكون مطروحا للبيع في المكتبات قريبا ضمن منشورات بیت الشعر فی فلسطین.
وهو عبارة عن 71 شذرة تتوزع بين البساطة اللذيذة بالمعنى البارتي (نسبة إلى رولان بارت الناقد الفرنسي)1 أو العمق المليء بالسخرية باعتبارها استراتيجية لتجاوز الواقع بكل رواسبه وخيوطه المتشابكة.
 “أَمشِي علَى حُروفٍ مَيتةٍ” ديوان كتب في الأصل باللغة الإيرانية وترجم إلى اللغة العربية. ويبدو من خلال النص العربي أن شعرية الديوان تمت إعادة إنتاجها بصورة صحيحة وبلغة عربية جميلة. الديوان عموما ينبض بالحياة داخل اللغة ويتغذى بجمالية التعبير من خلال عدة آليات استعملتها الشاعرة “سانازداودزاده فر” سيتم التطرق إلى البعض منها .

رمزية العنوان:

العنوان هو العتبة الأولى لكل عمل إبداعي. “أَمشِي علَى حُروفٍ مَيتةٍ” عنوان مثير وجذاب ولا شك أنه يستدعي القارئ بشكل مباشر أن يلج العالم الشعري لهذا الديوان. الصورة لها رمزيات كثيرة ودلالات غنية ومتعددة. فالمشي على الحروف الميتة مجاز بين حركتين الأولى جسدية تتمثل في حركة المشي والثانية تتعلق في شيء حسي وهو الحروف. هي صورة مجازية ومعبرة جدا عن سمات الديوان المعتمدة أساسا على أهمية اللغة في خلق العالم الشعري، شريطة انتقاء جيد للكلمات وأيضا إبداع صور تتوخى البساطة بمفهومها الإيجابي وتنفر من التعقيد. هذا العنوان  بخلفيته المجازية المميزة يذكر بما كتبه الأديب المغربي عبد الكبير الخطيبي في روايته: ” الذاكرة الموشومة” وهي سيرة ذاتية صدرت سنة 1971 حيث قال:” حلمت تلك الليلة بأن جسدي من كلمات”2.

لذة التعبير وسلاسة اللغة:

تقرأ الديوان فيثيرك التعبير الذي صيغ بجمالية أخاذة لا يكتنفه غموض ولا لبس ولا تعقيد. ديوان يحقق ما يقوله الشاعر الإنجليزي ووردسوورث في تعريفه للشعر الجيد، بكونه  ذلك الذي ينساب سلسا بدون تعقيد ويترجم بعض التفاصيل بلغة جيدة وجذابة3. ووردسوورث في تعريفة للشعر الجيد يركز كثيرا على الانسيابية والسلاسة في التعبير. الشعر في نظره هو تدفق عفوي للمشاعر والأحاسيس. وبالتالي، فلا حواجز ينبغي أن تصد الشاعر عن الانطلاق والتعبير وترجمة الأحاسيس بلغة تبتعد عن التصنع والتعقيد. الشاعرة في هذا الديوان تنطلق من مشاهد بسيطة تتفاعل معها بإحساسها وتنسجها بلغة سهلة وتعبير سلس. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في السابق، فالنصوص المؤثثة لفضاء هذا الديوان الشعري هي عبارة عن شذرات. والشذرة كما يعرفها الكاتب عبد العزيز كوكاس:
“ليست الكتابة الشذرية مجرد تجلٍ “للاقتصاد اللغوي”، أو هوى التجديد والخروج عن المألوف، لأنها جوهر لا هامش، جغرافيا اللفظ تبدو أحيانا أقوى من تاريخ الفكرة، لأن التشظي فن التفرد بامتياز خارج أي فكر نسقي، لذلك سيحار جينيت الباحث في جينيالوجيا الأجناس الأدبية وكريستيفا الباحثة عن تلاوين “علم النص”، وباختين  المفتون ضمنيا بالأصوات المتعددة، في تحديد معنى الشذرة، ببساطة لأنهم كانوا يبحثون في أنواع الكلام، والشذرة تنتمي إلى فضيلة الإشارة لا فُضلة الكلام، ولأنها لا تُقيم إلا في ما يُعتبر خروجا عن الأجناس، لأنها أم الأجناس، فيما هي سليلة لها.. فالشذرة هي فن الصراخ الصامت ضد الأنساق والتفكير الكلي. الخروج عن استبداد النظام، وإجماع النقاد وثبوتية الواقع هو ما يجعل الشذرة فن التشظي سمة الوجود. الهوية  الواضحة مثل تعيين داعرة وسط نساء، هو ما تلفظه الشذرة، لأنها ضد التعيين، لا تقيم في زمان ومكان محددين، التحديد ليس من خصائصها الجوهرية، لأنها أشبه بمنفي يظل متشبثا باعتقاده أنه البدر الذي يحتاجه السراة في الليلة الظلماء ظلمة الكتابة.”4
هذا التعريف الدقيق للشذرة يجعلنا أمام نوع من الكتابة الشعرية تنتفض ضد القوالب الجاهزة والأنظمة التي قد تسجن حريتها وتمنعها من التحرر والتحليق بعيدا إلى عالم الإبداع التلقائي. وما يزيد قوة وجمالية الشذرة هو أنها بالإضافة إلى قصرها على مستوى الشكل فهي نصوص غير مكتملة كما في نصوص هذا الديوان. وهذه السمة لا تحد من قيمتها الفنية بل تتيح للقارئ والمتلقي فرصة للتفاعل وملء البياضات وتفتح له بالتأكيد أفقا للتدبر وإعادة كتابة النصوص في مخيلته طبقا لمرجعياته الفكرية والشعرية.
 نصوص هذا الديوان تجوب الأمكنة المرئية وتخلق حوارا مباشرا معها لتصبح مثل ثوب بديع الحياكة.
لتبيان هذه الخصائص الجمالية لهذا الديوان خاصة على مستوى اللغة وروعة التعبير، نورد بعض الأمثلة:
مثال رقم 1:
حِينَ نلتقي
تكونُ بينَنا مسافة دخانِ عدَّةِ سجائر،
وحِينَ  لا نلتقي
كوبٌ منَ الشَّايِ السَّاخنِ إِلى جانبهِ سكَّرٌ
هذهِ التَّجربة دائمًا.
هذه الشذرة تقترح صورتين مختلفتين إلى حد الانفصال، ولكن خاصية  فريدة تؤلفهما وتوحدهما ألا وهي بلاغة التعبير وسلاسته وبساطته. والبساطة لا تعني الضعف بل القوة، لأن القصد في القول الشعري كما في هذا النص هو الانطلاق من الحالات الواقعية والمرئية ومحاولة إلباسها لباسا لغويا ونفسيا ملائما.  الصورتان بشكل عام تقدمان للقارئ حالتين متناقضتين. الحالة الأولى هي حول الحضور حيث تجسد ربما لقاء الأحبة وما يصاحبها من دفء وعشق وفرح. أما الصورة الثانية فتكرس القيمة السلبية للغياب والوحدة المؤدية للكدر والكآبة والبرودة. لا ملاذ بالنسبة للشاعرة  في هذه الحالة إلا شاي وبجانبه سكر. وللسكر رمزية مهمة، لأنه يمثل الحلاوة التي يمكن اللجوء إليها أمام مرارة الغياب، خاصة إذا كان غياب حبيب مثلا. إنه الانتظار المؤرق وإنها الوحدة القاتلة والموحشة.
 كل هذه الصور إذن صيغت بشكل سهل وتعبير سلس، أضاف رونقا للمشاهد رغم البساطة التي قد تبدو عليها.
مثال رقم 2:
حِينَ  ذابتِ السَّاعةُ الَّتي لمْ تأْتِ فِيها
كانَ الوقتُ عِندي مفقودًا،
وضجَّةٌ تبخِّرُ عقاربَ عدمِ رؤيتِكَ مجدَّدًا
كابوسٌ معتادٌ هذَا
مَوقوتةُ الخيَالِ مجيؤك
أَنتَ مجرَّدُ حُلمٍ
ومؤقَّتةٌ لغيابِكِ العقاربُ
الَّتي لاَ تَفهمُ الوقوفَ.
 هذا نص آخر يجسد سلاسة التعبير بكل تجلياته ويتطرق إلى ثيمات ومواضيع وحالات شعرية مختلفة، من بينها الغياب والحضور والزمن بمفهومه المادي والحسي وأيضا المعنوي، خاصة من خلال رواسبه والآثار التي يخلفها. التعبير وسلاسته هما من يخلقان المتعة ويسافران بالقارئ نحو سرداب من المعاني والدلالات. الانتظار يؤرق والزمن بجميع أشكاله سواء أكان ساعة يدوية أو شيئا حسيا بمفهوم الوقت أو حتى عقارب، فهي كلها تلتقي في أرق الغياب وفداحته بل وأضراره النفسية الكثيرة. جمالية التعبير تزداد مع إضفاء مسحة اليأس، النتيجة الحتمية للانتظار الصادم والذي يتبدد ليصبح حلما ليس إلا.
مثال رقم 3:
عندَما أَشمُّ رائحةَ الحبِّ
لاَ تستطيعُ مروحةُ أَيَّ مصنعٍ
أَن تكونَ منافسةً لِي.
مزِّقوني كبَتَلاتٍ
وأَرسِلُوني إِلى “باريسَ”
وادْعُوني “جُولييتَ”
سأَكونُ العطرَ الأَكثرَ بيعًا.
الحب، هذا الشعور الإنساني وظفته الشاعرة سانازداودزاده فر بإحساس عالي وألبسته إيقاعا جميلا من خلال صياغتها لتعبير جميل واستعمالها للغة سلسة. الحب لم يعد شيئا حسيا بل إنه في رؤية الشاعرة الشعرية له رائحة بل إنه عطر ينافس أرقى عطور العالم. وتتعمق الرؤية وإن كانت بسيطة في ظاهرها لترتقي معها هذه التي ذاقت عطر الحب إلى مصاف الباعثين للعطور. وهذه الصورة المجازية ترمز إلى قيمة الحب الحقيقي الذي يصدر البهجة والفرح والأمل والجمال بكل سماته الظاهرة والخفية.
 ما يهم في هذا كله، بغض النظر عن المضمون أو الرسالة التي يحملها هذا النص، هو الإحساس الذي ترجم من خلال لغة سهلة الولوج وسلاسة في الانتقال، مكن صورة إلى صورة عبر مستويات تفاعل مع قيمة الحب، ترتفع ويرتفع معها النفس الشعري وإيقاع النص ليحقق متعة القراءة وحلاوة التذوق.
 الديوان الشعري “أَمشِي علَى حُروفٍ مَيتةٍ” للشاعرة الإيرانية سانازداودزاده فر، ديوان ينتقي الحروف بعناية شديدة. وحتى في حالة “الحروف الميتة” أو الحروف التي توجد على وشك الموت فإنه ينفث فيها الروح لتنبض بالحياة والتجدد وتتآلف ضمن نسيج من التعبير الجميل واللغة السهلة والسلسة. العالم الشعري للديوان الشعري “أَمشِي علَى حُروفٍ مَيتةٍ” يعج بالصور الجميلة وينطلق من الواقع في تفاصيله البسيطة ليضفي عليها إحساسا عاليا دونته الشاعرة سانازداودزاده فر بكتابة شعرية غاية في الإبداع والتوهج.
 الديوان الشعري “أَمشِي علَى حُروفٍ مَيتةٍ” للشاعرة الإيرانية البعيد عن التكلف في اللغة أو في التعبير، ديوان خلق للإمتاع ويستحق بالتالي أن يقرأ انطلاقا من السمات الجمالية والفنية التي تميزه.

هوامش ومراجع:

1BARTHES, Roland (1973). LePlaisir du texte.Paris: Seuil.
2 La Mémoire tatouée, roman, Paris, Denoël, coll. Lettres Nouvelles, 1971 et Poche Coll.18/18,  1979.
3 William Wordsworth, ‘Preface to Lyrical Ballads, with Pastoral and Other Poems (1802)’, in Stephen Gill, William Wordsworth: The Major Works (Oxford: Oxford World Classics, 2008), p. 611.
4عبد العزيز كوكاس، “الشَّذرة كمحاولة لكتابة الصمت”، قاب قوسين (مجلة ثقافية)، بتاريخ 25 يناير 2012.

بقلم: مراد الخطيبي

Related posts

Top