ينتظم المؤلف الجديد للأستاذ الباحث الطائع الحداوي المعنون بـ “السيميائيات والمنطقيات، قوانين الدلائل ومنطق الأشياء” ( الطبعة الأولى،2020، دار فضاءات، عمان، الأردن )، ضمن عقد مسبوك الفصوص، متناسق ومتناغم على مستوى طبقات التحليل بحكم طبيعة الأسطقسات التي يمتح منها والمنتمية للمعرفة الإنسانية كما تحصلت عند الفلاسفة العرب- المسلمين، والمصادر اليونانية الأصيلة، والمراجع الغربية الحديثة في شقيها الأوروبي والأنجلو-ساكسوني. والقصد المبتغى من هذه الخلفية العلمية يتجسد في محاولة استكناه نسق افتراضي للوشائج والحدود والأقوال المتاخمة بين السيميائيات والمنطقيات ونظرية المعرفة.
هكذا تم في الكتاب طرح مسألة تصنيف العلوم والتمفصل بين المعلوم والمجهول، وبناء التوسط النظري، وإقامة المحك التجريبي لظواهر الطبيعة والكون والاجتماع، وإدماج الكثرة المتشذرة في وحدة متصلة. وللتدليل على هذه الغاية من تصنيف العلوم وترتيبها، وكيفية تشكل مطلوباتها الشرعية، وتقييم جلال فائدتها، وقع استحضار العديد من الأمثلة للفلاسفة-العلماء الذين أغنوا الصنافات بأفكارهم النيرة كأرسطو، والفارابي، وابن سينا، وأوغست كنت، وتشالز سندرس بيرس، الذي يطابق منطق تصنيفه منطق البحث العلمي المؤسس على الوصف والتصنيف والقانون. وقد اقتضى المسار الداخلي للتصنيف، لفت الانتباه إلى الرابطة التعاونية والتعاضدية بين الأنساق العلمية المقترحة والفرضيات المؤطرة لها والمجالات التي تحتضنها كالمجال الموضوعي للعلم، والمجال النظري والمجال الإبستمولوجي.
وعطفا على مقدمات هذا المبحث، انصب التحليل، في درجة أخرى، على فحص مسألة ” النظرية الصناعية للعلم” لتعميق البحث في حيثيات الفصل الأول وبصفة خاصة ما يتعلق بالصناعة الذهنية للعلم وتأمل مفهوماتها ومقومات سندها. وقد تبين من النماذج المقدمة أن هناك نظرية تكاد تكون مستقلة بذاتها يمكن نعتها ب :” النظرية التصويرية” أو نظرية العكوس والظلال بالنسبة للموجودات الخارجية( أرسطو، ابن سينا، ديكارت، كانط، قطب الدين الرازي، نجم الدين القزويني، الصدر الشيرازي…). وهي نظرية تبدو مباينة لنظريات أخرى كالنظرية التصورية الجديدة المدمجة في الصناعة السيميائية التي ينشدها لفيف من العلماء والمناطقة في مقدمتهم ش.س. بيرس. وما عبروا عنه من آراء حصيفة عن التصورات ووحدة الانطباعات، ومفهوم القضية، وإواليات التجريد، والإحساس، والعادة، والاعتقاد، والحدس، والاستبطان، والوضوح، والكثرة، والمتصل والمتقطع، والذريعانية، والأباغوجي، والتفكير بالدلائل… وغيرها من المكونات التي بوساطتها يتقوم عظم النظرية.
وكان من الطبيعي أن تنشأ في رحم هذه النظرية التصورية الجديدة نظرية محايثة لها تتمثل في ” نظرية الاستدلال ومنطق الأشياء”. ويشمل مدار هذه النظرية إعادة قراءة المنطق الصوري، وبداية تشكل المنطق الجديد، والتمفصل بين الرياضيات والمنطق، ووضع اللبنات الأولى لمنطق العلاقات، بالإضافة إلى إنجاز صياغة لبنية المقولات (أرسطو، كانط، هيغل، بيرس). وعلى هدي ما سبق، استوجب النظر استدعاء مجموعة من الرياضيين والمناطقة من طينة: جورج بول، وجون ستيوارت ميل، وأوغست دي مورغان… وغيرهم من العلماء كأبي البركات البغدادي الذي برع في التمثيل الخطي-الهندسي للتعبير عن القضايا المنطقية.
فجورج بول سعى إلى تأسيس منهجية عامة للمنطق والنظرية الرياضية للاحتمالات. فشرع في اشتقاق قوانين الرموز المنطقية من قوانين الذهن البشري.
وصمم جون ستيوارت ميل العزم على تشييد نظرية للبرهان والاستدلال.
وتفتقت عبقرية دي مورغان عن مسلمات التفكير في نظرية لعلم القياس حديثة تتصل مباشرة، وفي العمق، بحالة النفي. إذ في “كون للخطاب” يحدث تعيين هرمية التصورات بين الأجناس والأنواع في الأصناف وتدريجها. وقد اجترح لهذا الغرض كتابة رمزية حرفية للعبارة عن التصور الإيجابي والتصور السلبي –أو حالة النفي وحالة الإثبات- في كون للخطاب معتبر. واتخذ هذا التصور شكل قانون في المنطق الحديث فنسب إليه وسمي باسمه.
ولم يشذ تصور بيرس لعلم القياس – أو السولوجسموس بتعبير أبي البركات- عن فكر هذه الكوكبة من النوابغ المتلألئة في سماء العلم الشاسعة. فانكب على تمثل هذه الذكاءات تمثلا خلاقا، فأضحى الشكل الأول عنده النمط المثالي لكل استنتاج، والشكل الثاني مطابقا للفرضية، والشكل الثالث ملائما للاستقراء. من طريق إعمال تأويل مخصوص وإعلاء النسب البنيوية بين أنواع الحجج، وما يستتبع ذلك من تصور للضروب، ومن طرح للاعتراضات ونقدها، ومن عرض لصور الأشكال الثلاثة. فسمح له هذا التمثل والطرح بتجذير البحث في منطق العلاقات.
وبما أن هذا القسم من المنطق يحظى بشرف المرتبة لدى المتبصرين بمحك النظر، طور بيرس، بكل ذكاء علمي، منهجيتين بيانيتين: منهجية ” المبيانات الكياناتية” ومنهجية ” المبيانات الوجودية”. وقد استقر الرأي على اقتراح نموذج للمنطق العلاقي – أو منطق الإضافات- من وجهة نظر المنهجية الأخيرة لارتباطها الشديد بموضوع البحث مع إشباعها بتحليل للصور الرياضية للاستدلال.
“السيميائيات والمنطقيات.. قوانين الدلائل ومنطق الأشياء”
الوسوم