> بقلم: أمجد مجدوب رشيد
يتشكل النص الأدبي عند الشرارة التي تقدحها التجربة، وخلاصة التجربة في كل أبعادها دلالة فاضت عن ذات الكاتب، انتشاءا بها، أو دلالة تتوق ذات الكاتب إلي الحلول فيها، والشوق والنشوة هما عين النص وتحققه.
وذاك التوتر والصراع الذي يذوقه ويكابده المبدع هو ما يبلور المعنى،المعنى في تلبُّسه وتجسده في اللغة روحا وشكلا.
وإذ تكابد الذات تخلق النص، وانبثاقه، فإنها لم ولن تنفصل عنه، بل يزيد اشتباكها به، وإن صار غريبا عنها مذ تحقق التحقق الأول، فمجرد ما يعلن الكاتب عن النص – قراءته في حفل أو أمسية أو لقاء ثقافي أو نشره …- ،عن وجوده يكون قد سجل لحظة انفصاله عنه،واشتباك أخصب به..حيث ينتقل النص الأدبي إلى الطور الثالث من نموه ،فبعد طور الكمون وطور التخلق، ينتقل إلى طور انفصال عن منتجه واتصال بمتلقيه في فضاء التداول وتقلباته،وذاك طور جديد لخلق المعنى ولا نقول اكتماله …على اعتبار أساسي مفاده أن النص يحمل خصوبة الإمكانات، والاحتمالات ..مايتيح عند كل تلق، وتجاوب، ولقاء به إلى انقداح شعلة معنى ..جديد وتبلور معنى من أمشاج فهوم سابقة ،وانفتاحه على دلالات جديدة تفعلها القراءات،والتداولات المتواترة.
ـ تبَيُّن أول:
نقارب في هذه الورقة ديوان الشاعر علال الحجام المعنون ب:اليوم الثامن في الأسبوع،من تلك الخلفية المنهجية،التي تضع النص كنتاج ذات اجتماعية،في سياقه الاجتماعي،في مراعاة لأبعاد الخطاب الجمالية وقصديته .
دوائر العناوين:
العنوان توق وحلم بزمن أطول،”ضيق هذا الزمن”ص9.من العتبة الأولى يضعنا الشاعر في خضم التجربة الإشكالية في صراع الذات بالزمن، ابن الموت وخادمه.
تأملنا في عناوين القصائد المشكلة لمتن الديوان أفضت بنا إلى الرصد التالي:
•دائرة النور والكتابة:
•شمعة كفافيس –ينبوع في رحم كتاب –قطرة ندى مجلجلة- قفطان ملغوم بالإبر –صفحة بيضاء –مرايا القلب –مخطوط
•دائرة الرؤيا :
• نافذة-شرفات- نزهة أخرى
•دائرة مخاض القصيدة:
•من يوميات سارق النار – من مكابدات شهرزاد-ساعة تمضغ عقاربها – سجال – اليوم الثامن في الأسبوع
• دائرة السر :صندوق – طفل الأنبوب – يد بكماء –آخر أنخاب الغمازة.
• دائرة الاغتراب:
• كوميديا سوداء – شكرا للنسيان
هذه الدوائر الدلالية تسمح لنا باستشفاف بعض الإشارات الموحية والتي بضمها بغيرها يتكشف فهم ممكن للعمل الشعري،فهواجس الكتابة ومخاضها وتصورها كنور، كفيض صوفي إنها الشمعة والينبوع والقطرة والقفطان والمرايا محلها القلب وكذا أهل المقامات والأحوال ،الكتابة «فضاء …تذوب فيه الفوارق بين الكائنات المنفصمة …إن الكتابة مجال يتحقق فيه فعل الاتصال وعودة العناصر المغتربة إلى كينونتها الأولية حالة الاتصال الأصلي»(2):
شعرية التفاصيل و شعرية اليومي:
ينحو هذا العمل الشعري نحو الإيحاء بالتسجيل (قصيدة :من يوميات سارق النار )و تقسيم النص إلى أيام :بين الحلم و اليقظة ،يوم اللهاث ،يوم العطش ، يوم القصف المكثف ،يوم يطارد قوس قزح ،يوم تغني عناقيده ،يوم كقارة من زبد ،اليوم الثامن في الأسبوع!!
و الإيحاء عصب الشعر ،هذه المخاتلة تستحضر في تناص أجناسي إطارا سرديا معروفا بسماته الفنية ،وهو إطار اليوميات و أبرز ما تنبني عليه :التاريخ والتقسيم الزمني ،و تسجيل الحدث في حركيته المحدودة بيوم واحد .
يلغي الانزياح كل إمكانية للتطابق بين بنية النص المتخلق شعريا وتقاليد الجنس السردي المعروفة 🙁 سارق النار-اللهاث-نغني عناقيد- قارة من زبد-اليوم الثامن) ويصب الشاعر في الإطار الذي يوحي به تفاصيل معيشية: (اجتماع في الإفطار – تصحيح فرض الأربعاء – تحضير ندوة الاثنين- ترتيب أفكار الدرسين…)ويصرح الشاعر : (ضيق هذا الزمن) لذا يتخيل يوما ثامنا :
(يسترجع الطلسم فيه مهجتي/
إلي …من غور بعيد )
تصوير لصراع مع زمن يسلب الذات جوهرها ويسقطها في دوائر عبثية ، تعاني فيها الذات وجع الاغتراب:(في غربة الشاعر) زمن لا يترك لقلب الشاعر أن يعانق مهامه الأخرى ، مهامه الجمالية ، ك(تحريض القيم على السفر الغجري) فذات الشاعر تحلم بزمن حر يعانق فيه ( حورية سمراء / تخضب يديها الحناء)
إن الشاعر في صراع مع الزمن فأيامه لهاث وعطش وقصف مكثف ومطاردة…وهذا الصراع يصوره في نسقه الاجتماعي،واشتباكه التداولي.
الاغتراب:
نلحظ تردد معجم الغربة والاغتراب في ثنايا الديوان و«غربة الشاعر الحديث في الكون،ربما بسبب ما يزخر به هذا الكون من صور مثقلة بالظلمة والمرارة والإحساس بالعبث ..» (3).
يا أيها الصقر العتيد في البراري،انهش
كما تريد أن تنهشَ قلبي، إنني
في غربة الشاعر
في محبسه السامق
لا أملك غير كلمتي التي تمنع عبرتي
من قطع دابر البيان(قصيدة :من يوميات سارق النار)
النص الشعري في الفضاء التداولي
بلاغة القصدية:
النص الشعري خطاب جمالي ولغوي تخييلي، أي غير مباشر بمصطلحات التداولية، وهو عند تلقيه يصير عنصرا حيا في نسق تواصلي. يكون للسياقين الاجتماعي (الخارجي)والنصي(الداخلي)فعاليتهما وأثرهما وإلى جانب السياق تتحرك فعالية القصدية. و«مفهوم القصدية في فهم كلام المتكلم و في تحليل العبارات اللغوية ، وهو مبدأ أخذه – أوستين- من الفيلسوف هو سرل و الظاهرتين ، واستثمره في تحليل العبارات اللغوية. وتتجلى مقولة القصدية ، بالخصوص في الربط بين التراكيب اللغوية و مراعاة غرض المتكلم و القصد العام من الخطاب .» (4)
ولذا نشارك الشاعر شعوره بضيق الزمن، وننفعل لصراعه معه انطلاقا من السياق الاجتماعي المشترك، ومن السياق النصي المتميز ببلاغة الصورةوعمقها.
يقول الشاعر:
ما أقصر أيامي تتعثر بين طرفة فرح وبين تباشير تزرع بذرتها الأبدية في تربة الوجع …(قصيدة سجال)
ما أفسح قلب العازف في منفى لا تلجم أوتاره العثرات ولا الزمن
ما أضيق أوعية الزوبعة ! (سجال)
الشاعر يواجه البياض:(5)
تتوجس ذات الشاعر من مواجهة البياض،بياض الصفحة،فتهَيُّبُ الكتابة وعي لجلالها:
أخاف الصفحة البيضاء أرهب في الدجى أشباحها (قصيدة:من مكابدات شهرزاد)
ويضيق البياض عن احتمال كل مواويل الشاعر وكل مكابداته:/نستحضر مكابدات الشاعرة أمينة المريني والشاعر محمد علي الرباوي/
…………..
أو كروما مغردة
تسكر موال الشاعر إذا ضاق به البياض(قصيدة: صندوق )
وفي قصيدة “مخطوط”نقرأ سيرة الكتابة/سيرتها في ذات الشاعر :
لماذا تذوب الحروف في الحروفِ
تصير بحرا هائجاً
تطفو على أمواجه دواة
يملأها مزيج من الهجس و الأنسِ
كطحلب يغالب التيارْ؟
هل تصدِّقُ الآن أن أغنياتكَ
ظلت منذ ثلاثين جمرةً وبعضِ زهورْ
تُزَرْكش الدواة بأطياف الانتظارْ
و تُربك إيقاع أنجمها؟
هل أصدق نفسي؟ (قصيدة: مخطوط)
وتلح الكتابة ،تتمرأى ،تتلبس كل الأشياء :(محطة-جوابا-قرارا-حبا – ظبيا …)
ويظل ذلك التحاور المتوجس العاشق للصفحة، للبياض :
والصفحة البيضاء ؟ما بالها؟
لغز يخفيه التكوين
يسبح في عذرية
حبلى بلآلئها سرا (قصيدة :صفحة بيضاء)
تتناسل أسئلة الكتابة، أسئلة تراود أسرار التخلق، لتتجلى للشاعر كشوف تهبها له الكتابة ذاتها، هي حمالة أوجه، وتلك من مزايا النص الشعري الخصب برؤاه ولغته، وتلقيه وتأويله صوغ لمعنى أو معان محتملة:
هي عذاب توغل في غد
توزع عطرَ أطيافه الرياحْ…
أسئلةٌ جارحة بحجم المتاهة
ودهشة ساحرةٌ
تمسك باليمنى أوقيانوس النارْ
وتمسك باليسرى نواقيس الأزهارْ
الكائنات التي تنبثقُ
من نطفة الاحتمالاتِ تسكنُها…
لا اسم لها
إلا ما ترسمه عواصف المغامرة
على قلق الأمواج
نكاية باستكانة الأحجار
في قعر الأنهار
(قصيدة :صفحة بيضاء)
يقول الشاعر: أسئلةٌ جارحة بحجم المتاهة !
أليس السؤال هو الفضاء الذي يقدم فيه الكلام نفسه ناقصا غير مكتمل ؟على حد تعبير موريس بلانشو .(6)
والكتابة مواجهة لسواد الموت بسواد الحبر،وتسربل وتكفن في بياض ساحر قاهر ،للسمو بنبض القصيدة وانتشاءا بصرخة ولادتها وبهائها:
( واو )
ما دامت الحلكة بيتا يناوشه زلزالُ الموتْ
سيظل الأبيض
صدفة حوراء لا قرار لها
شبح امرأة عاشقة لا يثنيها الأرقُ
عن الرقص فوق الجمارِ
فيعانقها إلفها يتحسس عطر مسراتها
مثلما تتحسس حنجرةٌ
بصمات طلاوتها في رجع الصوتْ…( قصيدة :يد بكماء).
امرأة عاشقة:
يفنى الشاعر عشقا في البياض ،هي امرأة عاشقة وهو إلفها والكتابة هي العناق والفناء الأبهى وعطر المسرات .طوبى للقصيدة بك .
الموقف جوهر التجربة الشعرية “
بعمق رؤاه ولغته التي لها أصول في تيار نقدي عربي تميز بنصاعة العبارة ودقة المقصد وسعة الرؤيا ،يتابع الناقد خزعل الماجدي في كتابه القيم(العقل الشعري ) تأملاته في تكوين النص الشعري وتخلقه:”جوهر الشعر يحوم على الماضي ويضع نفسه في أي منطقىة بنفس القوة التي يختارفيها أية منطقة من مناطق المستقبل، فالزمان عنده واحد متحرك متصل لا مناطق مقسومة”.
الإحالات و الهوامش:
•علال الحجام- اليوم الثامن في الأسبوع – منشورات اتحاد كتاب المغرب ط1يناير 2013
• منصف عبد الحق –الكتابة والتجربة الصوفية – ط 2 -2011 –منشورات عكاظ –ص 497.
• (3) أحمد المعداوي – أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث – منشورات دار الآفاق الجديدة /المغرب – ط1 -1993 ص166..
4- د. مسعود صحراوي- التداولية عند العلماء العرب:
دراسة تداولية لظاهرة “الأفعال الكلامية” في التراث اللساني العربي / ط1 يوليو 2005 دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان- ص 10.
5-رمزية البياض جلية في الدلالة على نور الكتابة .لنا كتاب بعنوان «لا يخاف البياض »ط1 /2014 منشورات محترف الكتابة بفاس.
6-موريس بلانشو – أسئلة الكتابة / ترجمة نعيمة بنعبد العالي وعبد اسلام بنعبد العالي – ط1/2004-دار توبقال –ص11.
7-خزعل الماجدي –ذار النابا/ط1/-2011 .ص59