الفلاسفة والحب -الحلقة 13-

لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.
فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.
فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.
هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.
قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.

صارت الحسيّة فضيلة وعلى المحبّ أن يصير فناناً حين يمارسها

كان مونتاني أفضل أتباع أبيقور المفضّلين لكبت الرغبة، أو حتى من أنصار مذهب المتعة، فقد كان ديونيسي (شهواني). نيتشه اعتبر مونتاني أباً روحياً، إذ قال عنه: «كتب هذا الرجل أن متعة العيش على هذه الأرض هي أن نزيد من تلك المتعة».
الدرس رقم 1 : تأخير النشوة
صارت الحسيّة فضيلة، وعلى المحبّ أن يصير فناناً حين يمارسها. ويهدئ من رغبته كي يطيل وقت التمتع. كان مونتاني أستاذاً في الإيروتيكية: «من يسألني عن الجزء الأول من ممارسة الحب، سأجيبه: أن تأخذ وقتك ! وهو الجزء الثاني أيضاً، بل والثالث». وتعد المطاردة، وليس افتراس الطريدة هي ملح وفلفل العملية بالنسبة له. وتضايقه قليلاً تعبيرات الوجه التي تصاحب لحظة النشوة والتي تشبه «لطخة شعورية شنيعة وقاسية» وسط أرق وأحلى لحظات الحب. وهكذا « فكل ما يؤخّر المتعة يلهبها». و« كلما ارتقينا درجات السلم لأعلى، كلما شهدنا على الرفعة والسمو في الدرجة الأخيرة. وعلينا أن نختال بأنفسنا ونحن نسير كما لو كنا في الطريق المؤدي إلى قصر بديع، إذ نمر عبر أروقة ذات أعمدة فخيمة وممرات طويلة وصالات مبهرة والتفافات متعدّدة».
على العكس من سياق عصره الذي تميّز أهله بالتباهي بامتطاء الخيل بعنف وقسوة، كان هو يمتدح التمهيدات الأولى وفضائلها. كان يفعلها بكل الوسائل، وبكل شعرة في جسده الفعل، والمداعبة والدلال وحتى الشارب الذي «يستخدمه في الحب» ويظل محتفظاً برائحة القبلة «الشهية» لوقت طويل. نصح مونتاني المرأة بأن تتعلم كيف تبدي رغبتها، وأن تستخدم حياءها في اللعبة، وأن تكذب إذا اقتضى الأمر، وأن تحافظ على شهية فرجها« شرهه». أما الرجل، على الرغم من تعجله لإسقاط الأقنعة، فإنه يمتدح هنا جماليات التمنع والعوائق.
«فصعوبة التعيينات وخطورة المفاجآت والخزي من اليوم التالي ما تضيف النكهة للطبخة، وللاستمرار في هذا المجاز الغذائي: ارتفاع الثمن يكسب اللحم مذاقاً طيباً. «آه ! كم كان ليكرجوس موفقا حينما أمر ألا يمارس المتزوجون من مواطني لاسيديمون الحب إلا خلسة، وخاصة لحظات الجنس الملتهب من دون جانب «الخيال» فإن الممارسة الجنسية ستختزل إلى مجرد لذة إفراغ خصيتين. ويتساوى حب البشرفي هذه الحالة مع حب الحيوانات. وكما أدرك أفلاطون الأمر، فنحن لسنا إلا ألعاباً في يد الآلهة.
لكن وعلى الرغم مما سبق لماذا يؤله الجنس في كل مكان من العالم؟ ومن : ناحية أخرى!، إذا كان هذا الجزء من جسدنا لا يتعلق إلّا بمجرد وظيفة طبيعية، أليس من الأولى أن يمنحنا متعة لا محدودة، مقارنة بباقي الأجزاء؟ ونتذكر هنا قول الفيلسوف موريس ميرلو بونتي : «في الواقع، لا توجد متعة تنبع من الجسد وحده من دون أن تبحث خارجه عن متعة أخرى أو عن قبول»، فهي شغف يستمر حتى بعد الشبع وتتجاوز حد ممتلكاتها» كما كتب مونتاني.
وهو ما يجعل الرغبة غير المتبادلة بلا قيمة. وهكذا يقولون إنهم يمارسون إرادتهم ولديهم حق». ثم ندّد «باللواتي لا يقمن بذلك إلا بدافع شهوة جسدية، إلا أن ذلك لا يعد متعة أنانية» … ثم أضاف: «من المخيف تخيل جسد محروم من العاطفة». ووصف بشاعة التمتع مع جسد غير راغب على غرار ذلك المصري الذي كان يصل للنشوة مع الجيفة التي حنّطها، أو كما فعل بيرياندر مع زوجته التي وافتها المنية.
فالحب تجارة لا تعترف إلا بنوع العملة نفسه. وتحتاج إلى علائقية وتواصل. فمتعة المرء لا ترتبط بذاتها بقدر ما تتوقف على ما يشعر به الشريك، إذن فمن يستقبل المتعة ولا يمنحها ليس بالشخص الكريم و امتزاج الشريكين من دون حب أو من دون التمسك بضرورة المتعة، يشبه كونهما ممثلين، ويشبه من يدخر أمانه، لكن بحماقة.
إن من يمارسونه على هذا النحو لا يمكن أن يأملوا في الحصول على ثمرة تُشعِد أو تُرضي الأرواح. بل هي خيانة، كما رأى مونتاني، مارسها رجال عصروه وهكذا تنبأ بمستقبل تثأر فيه النساء، كما نصحهن، فيلعبن دورهن في الملهاة وأن عليهنَّ الاستعداد لهذا النوع من المفاوضات من دون عاطفة، أو رعاية أوحب.

>إعداد: سعيد ايت اومزيد

Top