عقب اشتغال صباغي تمهيدي سابق اتسم بالتصوير الواقعي والانطباعي، وبعد تجريب صباغي تجريدي موسوم بتكثيف المادة وتعضيدها على السند، يُطالعنا الفنان التشكيلي محمد فرقشي باشتغال تشكيلي جديد، إذ أضحى ينجز منحوتات إنشائية مشكلة من أشياء مأخوذة من حياتنا اليومية (جلها أدوات فلاحية) يقوم بتركيبها وتغيير وظائفها على منوال التدوير أو “الريدي ميد” < بقلم: ابراهيم الحَيْسن*-made لتصير لها أدلة جمالية وتعبيرية أخرى مُغايرة، إلى جانب تنصيبات وإرساءات تشكيلية تتمحور حول تيمة الأذن تكريماً للفنان فانسان فان جوخ V. Van Gogh الذي اتسمت جلُّ حياته بأطوار مثيرة مليئة بالكثير من الاضطرابات النفسية التي دفعته مرة إلى بتر شحمة أذنه اليُسرى، وهي واقعة مأسوية خصَّص لها المخرج البريطاني جاك ماكينيس فيلمًا وثائقيًا أسماه بـ “لُغز أذن فان جوخ” The Mystery of Van Gogh’s Ear إلى جانب الباحثة برنادِت مُرفي B. Murphy التي أنجزت كتاباً صدر حديثاً حول إيذاء فان جوخ لنفسه بعنوان “أذن فان جوخ: القصة الحقيقية”..
ورغم قساوة هذا المشهد، فإن الفنان فرقشي لم يربط آذانه المنحوتة بهذه القصة التراجيدية بشكل مباشر، قدر ما سعى من خلالها إلى اختبار المادة وطرح أسئلة تعبيرية وإبداعية عبر البحث في الدلالات الإستتيقية لهذا العضو البشري المتعلق بالسمع والإنصات.
فمن الأذن يخرج صوت العقل والضمير الإنساني (أو على الأقل ما تبقى منه) وهي ترتبط في نظر كثيرين بالطاعة والرضوخ.. إنها، بلا شك، ثقافة سُلطة لأن كل سمع طاعة، ثقافة الوثوقية والتقليد. زد على ذلك أن المجتمعات الشفوية التي “تقدِّس” الكلام والمنطوق هي التي تعتمد السمع كحاسّة لا محيد عنها لتلقي السمع، فالأذن هي مدخل الثقافة السمعية والثقافة الشفاهية في مقابل العين التي هي بوابة الثقافة المرئية والمكتوبة.. كما أن الأذن أكثر عشقاً من العين وسابقة عليها في ذلك، كما في قول الشاعر بشار بن برد:
يا قَومِ أَذني لِبَعـضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ
وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَـــينِ أَحيانا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا
وعليه، فإن الأذن/الآذان في التجربة التشكيلية عند الفنان محمد فرقشي ترى وتسمع في آن.. هذه الآذان الخشبية والجبسية المنحوتة، اللامعة والمثبتة على حوامل نجدها تقف مصطفة داخل مرسم الفنان في تدرُّج جمالي متناغم مع تباين في الحجم والسُّمك والبنيات Structures التي ترسم الصيوان، وهو الجزء الخارجي للأذن..
ولربَّما اختار الفنان فرقشي الأذن لتتمحور مجسَّماته التشكيلية ليلفت نظرنا إلى أهمية الفن برسائله الإنسانية العديدة، أو لربما تغيير نظرة كثيرين نحو الفن بما هو موقف والتزام وليس ترفاً أو نشاطاً مجانيّاً. ولأن الأذن هي قنطرة السمع وتمرير الكلام وتلقي الأصوات، فإنها في منحوتات ومجسَّماته تبدو غير ذلك، إذ تتحوَّل إلى إبداعات لتنبيهنا بدور هذا العضو الحساس الذي ينبت في رؤوسنا بمحاذاة حاسة السمع، وهو عضو نكاد نجهل أهميته ولا نتذكره سوى في حالات ثقل وفقدان القدرة على السمع..
وقد سبق للفنان أن قام بتثبيت هذه الآذان داخل فضاءات عمومية لتقف مثل فزَّاعات تحرسُ المكان.. تتهامس في ما بينها.. ربَّما تتناقل أخباراً ما.. أو تتبادل شائعات معينة على وتيرة سريعة وخاطفة..
بفعل ذلك، أضحت التجربة التشكيلية الرَّاهنة عند هذا الفنان الجنوبي المتأمل لا تحيا إلاَّ من خلال “آذانه” التي أفرد لها مكاناً خاصّاً داخل محرابه الصغير بمراكش، وأضحت بالتالي تؤنسه وتزيل عنه وحشته وعزلته.. هكذا، وبطريقة ما، يدعونا الفنان فرقشي من خلال قطعه الفنية الجديدة إلى الإنصات لذواتنا ويُشعرنا بأهمية السماع والثقافة السمعية التي يفتقر إليها كثيرون تيمُّناً بقول الشاعر الفرنسي لامارتين Lamartine: “ينبغي أن يكون للفنان أكثر من أذنين”..
آذان الفنان فرقشي هي رهانه وأفقه الجمالي الذي يشيِّده بالاعتكاف داخل فضاء إبداعه، يختار أدوات عمله الخاصة بالقطع والحفر والتطويع والتشذيب، ثمَّ يضع قطع الخشب وجذوع الأشجار بين يديه ويشرع في ملامستها ومداعبتها ويحدثها بحثاً عن نقطة الانطلاق وكثيراً ما يبدو مثل “صبي صغير” يلهو بأغراضه ولُعَبِه، وذلك قبل نحتها باعتماد أسلوبي التجويف والتبئير لخلق التوازن المطلوب بين الكتل والبنيات القائمة على المزاوجة بين المليء والفارغ، وبين الناتئ والمقعر..
على هذه الشاكلة، يبدو الفنان فرقشي طقوسيّاً Rituel في إبداعه وفي علاقته بخاماته وكائناته التي يشكلها وفق إملاءات مخيِّلته وأفكاره التي يستمدها من قلقه اليومي وأسئلته الجمالية التي تراوده وتطارده أينما حل وارتحل، وقد زرته عدَّة مرات بموطن عيشه وعمله وتمثلت باستمرار طريقة اشتغاله، ما يجعلني مقتنعاً بتجربته التشكيلية كفنان يعشق فنه مثل عشقه للطعام الذي يتفنن في تحضيره وتنويع إعداده، ليكون بذلك يجمع بين فنَّين: فن التشكيل بلغة الألوان والأشكال، وفن الطهي الذي لا يخلو هو الآخر من توليف قائم على الخبرة والمران..
إن الفنان محمد فرقشي، فضلاً عن ذلك، مبدع صبور، حالم، مقتنع بأدائه الفني، كثيراً ما نراه يختبئ داخل معطفه الأسود وينسل نحو المقهى حاملاً معه مذكراته وكنانيشه الفنية Cahiers d’artiste التي يحشد فيها تصوُّراته القبْلية والإسكيزات التحضيرية التي تسبق إنجاز الأعمال التشكيلية.. هي ذي خطته التي ترسم خطوات الإبداع لديه وتعكس أسلوبه الفني المفتوح على المزيد من البحث والتجريب..
بقلم: ابراهيم الحَيْسن
ناقد تشكيلي