القراء الذين لا نعرفهم

كان أحد الكتاب العرب يستقل القطار في بلد أوروبي، قاصدا إحدى المدن، وكان يقرأ كتابا كما يفعل دائما في الرحلات الطويلة، جوية كانت أم برية أم بحرية، وإذ اقترب القطار من إحدى المدن، غادرت سيدة أوروبية مقعدها، استعدادا لمغادرة القطار، ثم انتبهت إلى أنه يقرأ كتابا عربيا، فسألته بلهجة من تعلم العربية على كبر، أتقرأ العربية؟ فأجابها: أنا عربي، فقالت له: أنا أدرس اللغة العربية، وفي هذا الفصل أدرس طلبتي الكتاب الفلاني لمؤلفه، وذكرت اسمه، فأجابها وهو في حالة ذهول: أنا مؤلف هذا الكتاب، وبسرعة تبادلا العناوين، وغادرت القطار حين توقف في المحطة القادمة، بعد ذلك ارتبطا بصداقة عائلية، غير أنه ظل يتذكر هذه الحادثة ويكرر الحديث عنها بفرح غامر، رغم شهرته وكثرة قرائه وسعة انتشار مؤلفاته.
ومما كتبه الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس قائلا: ذات ظهيرة وعلى الشاطئ في لوتا، شمال تشيلي، رأيت عمال المناجم وقد خرجوا مثل الخلد من عملهم القاسي، الكائن تحت البحر بعمق عدة أقدام، ليستخرجوا فحم المحيط الباسفيكي، تحلقوا حول نار أضرموها في الهواء الطلق، وغنوا على موسيقى الغيتار قصيدة من ديوان “النشيد الشامل” لبابلو نيرودا، فأخبرتهم بأن المؤلف سيتأثر ويفرح عندما يعلم أن قصيدته قد حولت إلى نشيد، فسألوني باندهاش: أي مؤلف؟
وقد روى بابلو نيرودا حادثة قريبة من حكاية كارلوس فوينتس، مفادها أنه كان يزور أحد أصدقائه من القادة النقابيين في أحد موانئ تشيلي، وحين عرفه العمال، طلبوا منه أن يقرأ لهم من شعره، وكان يحمل واحدا من دواوينه ذات التوجه السريالي، وإذ اصطف عمال الميناء جالسين على صناديق البضاعة واعتلى بدوره أحد الصناديق، فوجئ باستقبال قصائده بحماسة واحترام، وكان يظن أنها لن تصل إليهم ولا تستوعبها مداركهم، فسأل صديقه القائد النقابي: أحقا أدرك عمال الميناء ما قرأت من شعر؟ فأجابه: نعم، لأنهم يدركون أنك تكتب لهم أو من أجلهم.
 في الحالتين؛ حالة توقع كارلوس فوينتس أن القصيدة التي أنشدها عمال المناجم ستفرح بابلو نيرودا، وحالة استقبال قصائده من قبل عمال الميناء، تعني أن قارئا لا تعرفه وقد لا يعرفك، هو القارئ الذي يتلقى ما تكتب بموضوعية ومن دون مؤثرات، ربما أفسدت القراءة وشوهتها وأوهمت كاتبها، وأستطيع أن أتحدث هنا عن تجربة ذاتية في القراءة، فأكثر الكتب قربا إلى نفسي، وأكثرها تأثيرا في توجهاتي الثقافية، هي التي أكتشفها بنفسي، حتى لو كان هذا الاكتشاف يحدث مصادفة، أي من دون أن أكون قد قرأت عنها وتأثرت بتلك القراءة، بل من دون أن أكون قد توجهت إلى قراءتها بفعل شهرة كاتبها وما قيل أو يقال عنه، ويحدث لي أحياناً أنْ يستأثرَ بي كتاب، أعرف كاتبه لأول مرة، أي مع معرفتي بالكتاب الذي أقرأه، مع أنني أعرف أن الشهرة تستقطب قراء كثيرين، لكن ليس كل هؤلاء القراء يتوفرون على وعي القراءة ومقومات التلقي الجاد.
ومن الحالات السلبية في القراءة، تلك التي يمارسها أصدقاء مجاملون، حتى لو صدروا في مجاملتهم عن حب وتعاطف مع الكاتب، ومثل هذه القراءة تدفع بعض الكتاب إلى الوهم، وكثيرا ما استمعت إلى كتاب متواضعين إبداعيا، غير أنهم يتكئون على مقولات تدخل باب المجاملة استمعوا إليها، فإذا استمعوا إلى نقد موضوعي، أسرعوا إلى القول: لكن فلانا قال عن كتابي، كذا وكذا، وقد يكون ذلك القائل كاتبا معروفا، غير أن من الواضح صدوره في ما قال، إن كان قد قال فعلا، عن مجاملة وتطييب خاطر، ولو كان جادا، لكتب رأيه، وما اكتفى بالقول في محيط يكاد يكون مغلقا وسريا.
ومن أخطر القراءات التي يطمئن فيها الكاتب إلى ما كتب، وتبعده عن قلق الإبداع، هي القراءة التي لا تتجاوز حدود مجموعة من الأصدقاء، يقرأون ما يكتب ويقرأ ما يكتبون ويتبادلون الثناء في ما بينهم، فإذا رضي بذلك وعدَّه قراءة نقدية موضوعية، وقاده هذا الرضا إلى الرضا عما يكتب، خسر ما وصفته من قبل بقلق الإبداع.
وليس من مبدع حقيقي، إلا ورافقه هذا القلق، الذي طالما تحوَّل إلى طاقة للتجديد والجديد والإضافة، ويخطئ من يظن أن قلق الإبداع هذا يقترن بالمراحل الأولى من عمل المبدع، ثم يتم تجاوزه في ما بعد، إذ أرى ومن خلال ما عشت وما شاهدت وما قرأت على هذا الصعيد، أنه يزداد حضورا وتأثيرا كلما تقدم المبدع في عمر تجربته الإبداعية، وصار أكثر خشية من التكرار أو من التراجع.
ومما يوهم بعض الكتاب، وبخاصة ممن يكتبون الشعر، توجههم إلى شخص ما، زميل أو صديق أو كاتب قد يكون سبق السائل إلى الكتابة ولم يسبقه إبداعيا، يسألونه عن رأيه في نص كتبوه، وعلى الأغلب تكون إجابات هؤلاء على شيء من المجاملة، أو قد تكون على قدر من التعالم، فتكون مثبطة وفي الحالين يظلم الشاعر وتظلم قصيدته.
ومن طريف ما أذكره على هذا الصعيد، ما كان من صديقي الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر، أيام كنا نقيم معا في شقة سكنية في منطقة راغبة خاتون ببغداد، وكان من عاداته التكتم على ما يكتب من شعر، فإذا انتهى من كتابة قصيدة جديدة سارع إلى أن يبعث بها إلى مجلة الآداب اللبنانية، فأطلع عليها بعد نشرها.
وزارنا يوما واحد من أصدقائه، وعلى غير عادته، سأله عن رأيه في إحدى قصائده، وحين غادرنا الضيف، قلت له: لم سألت صاحبك عن رأيه في قصيدتك؟ فأجابني ضاحكا: لست على قناعة بها، وأريد نشرها، فسألته وأنا أعرف أنه سيجاملني ويتحدث عنها بما ليس فيها، وهكذا سأنشرها. بعد كل ما تقدم، أليس القراء الذين لا نعرفهم، ومهما كانت انطباعاتهم عما نكتب، هم أكثر موضوعية في قراءة كتاباتنا؟

حميد سعيد 

 كاتب عراقي

Related posts

Top