القصة والموقف في “خمس رقصات في اليوم” للكاتبة المغربية فاطمة الزهراء الرغيوي

تعزز الكاتبة فاطمة الزهراء الرغيوي مسارها الأدبي، بإصدار مجموعة قصصية جديدة عنونتها  بـ”خمس رقصات في اليوم”*. مجموعة تضم أربع عشرة قصة قصيرة، تباين حجمها من حيث الطول والقصر، كما تفاوتت عناوينها وموضوعاتها من حيث المقصد والدلالة.
ولعل أول ما يلفت الانتباه هو عنوان المجموعة الذي اختارته الكاتبة “خمس رقصات في اليوم”. وهو عنوان مثير ودال يتألف من جملة إسمية تشمل أربعة ألفاظ تحيل مباشرة إلى مجال الرقص، بما هو فن تعبيري يتوسل بالجسد، من جهة، ومنها الإشارة إلى العدد رقم خمسة، بما يحيل إليه من دلالات دينية واجتماعية (الأركان الخمس، الصلوات الخمس، الخمسة لإبعاد العين والحسد..) من جهة ثانية، ومنها الإشارة كذلك إلى عنصر الزمن المقيد بحرف الجر “في” (رقصة الجسد في اليوم الواحد) من جهة ثالثة. ومن ثمة، فالعنونة تجمع بين المكان والزمان.
تصدح المجموعة بمواقف مختلفة تجاه جملة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، تضمنتها نصوص قصيرة، واقعية ومتخيلة في آن، أثث فضاءها الحكائي أبطال متفاوتو الجنسيات والأعمار والوظائف وما سوى ذلك. نصوص قصصية قصيرة تحاول التقاط تفاصيل الحياة اليومية والهامشية، لتجعل منها متنا حكائيا يسمح بالقراءة والدرس والتحليل. وهكذا نعثر على موضوعات قريبة من الذات الإنسانية في صلتها بالأنا والآخر من جهة، وفي ارتباطها بالمحيط والعالم من حولها من جهة ثانية. مثلما نقرأ في قصة (وقت قاتل) حيث الوحدة والانعزال، مما يقوي لدى بطل الحكاية الشعور بالإحباط والاغتراب. يقول السارد: “أشم رائحة الحياة التي تنمو عالة على حياتي الآيلة مني لنهايتها، تتكاثر الأشياء الصغيرة وتقترب في تودد إلى كل أطرافي، في رغبة متناهية بينما بحثت مثل مجنون عن بقايا شراب يخلصني من عطشي أو يزيدني ارتواء”. (ص12) أو مثلما نقرأ لها في قصة (سفر) حيث الإشارة إلى الهجرة والترحال والتنقل وما يصاحبها من تعب وحزن وخوف، يصير معها السفر والخوف رديفان إن لم تكن هناك عودة محتملة. تقول القصة: “يوقظني مساعد السائق طالبا التذكرة. أسلمها له فتتلقفها يد ذات أصابع ستة. بدا الإصبع السادس معلقا هناك كشيء إضافي لا ضرورة له. شعرت بتشابه يشدني إليه.. كلانا معلق في هواء عابر. نختبر العالم دون أن نشارك في صنعه.. هل هو مثلي مسكون بالخوف؟” (ص62).      ولعل البحث عن الحقيقة الهاربة والتعبير عن الصراع الآدمي من أجل البقاء وتأكيد الهوية، هو ما يطبع أغلب المشاهد القصصية في المجموعة، ويقدمها من خلال عرض لثنائيات ضدية كالضعف والقوة والإخفاق والانتصار والهروب والإقدام. فمع الإحساس باليتم والحرمان، مثلا، تزداد شخوص المجموعة قدرة على المواجهة ومقاومة الهزيمة والدخول إلى معركة الحياة بما يليق بها من استعداد وتضحيات. من ذلك ما تشير إليه الكاتبة فاطمة الزهراء الرغيوي إشارة قوية إلى ما يتعرض له بعض الشباب العاطلين أو المعطلين من معاناة يومية من أجل كسب قوتهم اليومي، وكمدى الحرج الذي يلاقونه من أجل إقناع ذويهم بضيق ذات اليد وتعذر العثور على عمل في ظل واقع مهزوم ومضطرب. تقول الكاتبة في قصة (جوع) على لسان السارد: “لم أعطش اليوم لكني جعت. نهش الجوع أحشائي حتى سمعتها تعوي مثل كلاب جائعة. حاولت صباحا الاسترسال في النوم لكن الوالدة أيقظتني. قم واذهب للعمل. قمت وخرجت، إذا ناقشتها سيتحول حديثنا إلى شجار. ستعيرني بأبناء الجيران، الذي اشترى لزالدته بيتا والذي عاد من غسبانيا محملا بالهدايا والذي أقام عرسا لأخته، لن تذكر الذي يقبع في السجن أو الذي مات في البحر” (ص81).
وهكذا تمضي فاطمة الزهراء الرغيوي في استقصاء موضوعات لصيقة بالذات وعرض جوانبها، الخفية منها والظاهرة، لترسم لوحة إنسانية راقصة يمتزج فيها الألم بالأمل والفرح بالقرح، ويلتقي فيها الهم الفردي بالهم الجماعي. وهي في ذلك تعيد طرح الأسئلة العالقة، كسؤال الذات والمصير والأعراف والتقاليد.
ولأن المرأة كشخصية إنسانية وقصصية، حاضرة بقوة في اهتمام الكاتبة، كما في مجموعتها السابقة، فقد أولتها عناية كبيرة في مجموعتها الجديدة “خمس رقصات في اليوم”، انطلاقا مما يفرزه موضوع المرأة من خصوصية أدبية وجمالية، على مستوى الكتابة، ومن إشكالات اجتماعية وحقوقية ومن اضطرابات نفسية مختلفة، على مستوى الواقع.  فثمة نصوص كثيرة عرضت للمرأة، ضمن سياقات متباينة. فتارة هي الجدة الصبور المعطاء بلا حدود، ترى فرحتها في فرح الأطفال الأحفاد فهي لا تمل ولا تكل (قصة الطعام ص75) وهي المرأة المنطوية، تارة أخرى، الباحثة عن لحظة صفاء وطمأنينة داخل بيتها (قصة صلاة ص53 وقصة سمعت ص73) وهي، في سياق تعبيري آخر، المرأة المحبطة المجهضة أحلامها (قصة العيد ص47).
وبين هذا الحضور أو ذاك، تظل المرأة تلك الشخصية الحالمة العاشقة المسكونة أحيانا بسحر الماضي حيث الرقة والوداعة والجمال والشباب، والمهمومة والملسوعة بثقل الحاضر وعنف الواقع وتعب اللحظة أحيانا أخرى، كما في النص الذي آثرت الكاتبة أن تسمي المجموعة باسمها (خمس رقصات في اليوم ص31). ففي هذا النص يحضر الجسد وتحضر الذاكرة المستعادة لتزيد في عنف المفارقة بين الأمس واليوم، فيصير الرقص فسحة للتعبير والحركة تحتمي بها بطلة القصة إذ تحييها لتنسى فتحيا وتنسى.. تقول الكاتبة على لسان الساردة: “تتذكر رغما عنها، خطوات مجدها الأولى.. تقدم ساقا وتؤخر أخرى وتلف بذراعيها الهواء وتخط بخصرها أولى خطوات نجاحها. كانت بالكاد طفلة على أعتاب انوثة خجولة. تنبأ لها الجميع بمستقبل باهر. كانت تلعب لكن اللعبة صارت واقعا إذ أحبت و”عاشت”.. مرآتها تماطل خلف الغبار الخفيف فلا تخبرها الحقيقة كاملة بتواطؤ تام منها منذ أن امتنعت عن تنظيف زجاجها. خمس مرات تنظر في المرآة لكي لا ترى نفسها ولكي لا تتذكر” (ص34).
لقد عمدت الكاتبة وهي ترصد وتتابع وتلاحق شخوصها، النسائية والرجالية، أن تقف عند بعض المظاهر والسلوكيات التي لا تزال قائمة، بخصوص علاقة الرجل بالمرأة، كالتعنيف واغتيال الأحلام ومصادرة الحق في الاختلاف، لعل قصة (حب أيسر) يلمح إلى بعض ذلك، تقول القصة: “تناولت الشوكة باليد اليسرى، محاولة ادعاء عدم الاهتمام. كانت تعرف أن الأكل هو ضرورة للبقاء. حضنه الدافئ أيضا ضرورة للبقاء، أو هو على الأقل زاوية محتملة للرؤية إلى نصف الكأس المليء. لم تحدد تماما إن كانت ترغب في الحياة، أم أن خلاياها أصدرت الأمر، وإذا أضربت يمناها وظلت جامدة تحت الذقن، تجاوبت يسراها فامتدت إلى الشوكة وبدأت بالتقاط الطعام. لكنه تصدى لها: قولي باسم الله الرحمان الرحيم وتناولي الطعام باليمين… للحظات بقيت يسراها عالقة بينهما. لم يكن قد بسمل قبل أن يقبلها ويضمها بشوق.. وضعت الشوكة، تناولت حقيبتها، أخرجت منها حبوب منع الحمل ووضعتها على طبقه، ثم غادرت…” (ص68).      بناء على ما تقدم، نجد الكاتبة حريصة كل الحرص على تقديم شخصياتها القصصية بما يتناسب وطبيعة الموضوع المعالج، سواء أكانت هذه الشخصيات رجالية أم نسائية، راشدة أم قاصرة، رئيسة أم ثانوية. ليتسنى لها، بعد ذلك، عرض الأحداث ووصف المشاهد وبالتالي، استخلاص المواقف وردود الأفعال، سواء بالرفض أو القبول، أو الما بين.
بتنوع الشخوص إذا تتنوع القضايا والموضوعات، ومع كل مشهد قصصي أو لوحة إنسانية ثمة موقف وردة فعل إزاء ما يجري. تحاول الكاتبة عرضه بغير قليل من الفنية والجمالية. تراها تروم الرقص القصصي فوق حبل الحكاية، إذ حرصها على جودة النص، موضوعا وبناء، جعل لغتها صافية وراقية، من خلال اختيار موفق لمعجمها وانتقاء ظاهر لألفاظها وعباراتها بما يتماشى مع المتن الحكائي المقترح للمجموعة. ومن ثمة، لا نعدم أن نجد بعض النصوص القصصية جهدت الكاتبة في سبك لغتها وتعابيرها عبر الأوصاف الرائقة والصور البلاغية الشائقة، مما يجعل هذا النص أو ذاك قريبا من لغة الشعر وسحره.
وكما تنوعت الشخوص والأحداث تنوعت الأمكنة أيضا، تبعا لذلك (شارع، سوق، ساحة، محكمة، بيت، غرفة، مطبخ..). وكل مكان يضم حكاية ويحمل موقفا إزاءها، مثلما نجد في قصة )جوع) مثلا، تقول الكاتبة على لسان السارد: “أتبع النساء وهن يتسوقن، يشترين الخضر والفواكه والسمك واللحم أحيانا. تتوقف امرأة حامل أمام صندوق برتقال، أقف وراءها حاملا أكياسها. تشم البرتقال ثم تشتري كيلوغرامين منه. لا بد أنها تتوحم عليه، مثلها أشتهي تلك الفاكهة لكني لن أشتريها لأن الوالدة لن تقبل أن أنقص المبلغ الذي سأتحصل عليه في شراء كماليات… حميد يعطيني موزة أو تفاحة حين أساعده في حمل الصناديق، لكنه يبخل علي بما يتبقى لديه، حتى الفواكه المعفنة يخفض ثمنها قليلا ثم يبيعها” (ص84)، على ما في هذا المقطع من دلالة اجتماعية ونفسية، تخترق ذات البطل في مواجهته للبطالة والجوع وطلبات الوالدة، والرضى بالعمل حمالا، وما ينتج عن ذلك من شعور بالدونية والتحقير، كلما اضطر لاستجداء الزبائن.     أما الزمان فاتكأ على الثلاثية المعروفة حيث الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل. وكان للذاكرة سلطة ملموسة في تجسيد الحكايات المعروضة، فيما الشخصيات تستأنس بها كل الاستئناس. لعل الرجوع إلى بعض المقاطع من نصوص المجموعة يؤكد هذا الاختيار.  
هكذا تقدم مجموعة “خمس رقصات في اليوم” نسخة جديدة ومنقحة لتجربة فاطمة الزهراء الرغيوي القصصية، إيمانا منها بأن الكتابة ثورة ضد الرتابة وتردي القيم، وبما هي أيضا لحظة للتعبير وقول الحقيقة، فضحا وكشفا وتعرية؛ بل ونقدا لكل واقع منحل أو سلوك مختل.
خلاصة القول إن النصوص التي تندرج تحت “خمس رقصات في اليوم” يغلب فيها عرض الموقف/ المواقف من بعض القضايا، بل ويهيمن على أحداثها بشكل واضح. فقد تكون القصة إحالة إلى رفض موقف بموقف، أو تمرد على أنماط سلوك وقيم تراها الشخصية المحاورة لذاتها أو لسواها، غير سليمة. ولعل انعدام الانسجام مع المحيط الخارجي هو ما يفسر سر هذا الموقف أو ذاك.
أخيرا، تبقى التجربة القصصية جديرة بالقراءة والدرس لما تطرحه من أسئلة وقضايا وموضوعات راهنة تمس الإنسان والمجتمع، قصد اتخاذ المواقف والحلول، أكثر مما تروم العرض والإخبار فحسب؛ وأيضا لما تزخر به أيضا من
تقنيات وجماليات تغني عالم الكتابة السردية وتدفع بالقارئ نحو التجاوب والمشاركة، وهو ما يجعل المجموعة في النهاية، إضافة نوعية في المشهد القصصي المغربي والعربي على حد سواء.

   هوامش:
*خمس رقصات في اليوم. فاطمة الزهراء الرغيوي. دار فضاءات للنشر والتوزيع. عمان.2011

بقلم: أحمد زنيبر

Related posts

Top