المرحلة وشروطها

من البدهي القول بأن بلدان المنطقة العربية تعيش اليوم تحولا تاريخيا كبيرا على المستوى السياسي والمؤسساتي، وعلى صعيد دينامياتها الداخلية المجتمعية، كما ليس جديدا القول أيضا أن ذلك يتم اليوم ضمن واقع دولي وإقليمي يعاني من كثير أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وغيرها، وكل هذا يكشف دقة وصعوبة هذه المرحلة التاريخية، وأيضا طبيعتها المهيكلة لما قد يأتي لاحقا.
كل هذا صار إذن معروفا، ويتفق عليه اليوم الكثيرون، لكن ما يسجله أغلب المحللين أن الخطاب السياسي والإعلامي المحيط بكل هذه التحولات والفاحص لتفاصيلها لازال «عاديا»، ويعيد اجترار ذات القراءات، ونفس «الحسابات» الموروثة عن مراحل سياسية سابقة.
وسواء في مصر أو في تونس، وحتى في المغرب، فإن الحركات والقوى الإسلامية التي تصدرت نتائج الانتخابات وصارت تقود اليوم الحكومات أو تساهم فيها، مطالبة بإعمال الكثير من الاجتهاد، واعتماد شجاعة فكرية وسياسية وعملية كبيرة على صعيد المواقف والمنظومات الفكرية ذات الصلة مثلا بالديمقراطية والحريات والمساواة وحقوق الإنسان، والموقف من الإبداع الأدبي والفني، ومن التعدد اللغوي والثقافي والديني وغير ذلك، وهذه «المراجعات» المطلوبة، ليست ترفا أو كلاما للاستهلاك والمزايدة، وإنما هي منطلقات جوهرية لتطوير الاستقرار والديمقراطية في المجتمعات، ذلك أن الديمقراطية هي في مصلحة الجميع.
وبقدر ما أن الحركات والقوى المشار إليها بدت كما لو أنها فازت بالانتخابات من دون أن تكون قد استعدت قبلا لهذا التحول الأساسي، أي من دون أن تمتلك مشروعا مجتمعيا متكاملا للمستقبل، للدولة ولتدبير شؤون الحكم، فإنها اليوم مطالبة بتسريع توضيح وبلورة «ثورتها» الفكرية والسياسية الداخلية وتجاه المجتمع والأطراف السياسية الأخرى، بخصوص المبادئ والقضايا المذكورة أعلاه.
وإن الارتباك الواضح والاحتقان المسجل في مصر أو في تونس يؤكدان اليوم حاجة القوى الإسلامية التي فازت بالانتخابات بدورها إلى تقوية اجتهادها الداخلي، واشتغالها الفكري والسياسي على الذات، بغاية المساهمة مع الآخرين في صنع المستقبل، وفي عبور اللحظات الصعبة والحاسمة التي تحياها مجتمعاتها.
ومع ذلك، فالأمر ليس محصورا في القوى الإسلامية وحدها، بل إن الأطراف الحزبية والسياسية الأخرى مطالبة هي كذلك بالارتقاء بخطابها وسلوكها إلى مستوى التحديات التي تفرضها المرحلة التاريخية الحالية.
في بلادنا مثلا، لازلنا نتابع سجالات سياسوية حول إصلاحات جوهرية ومهيكلة لمستقبل البلاد، وذلك بدل الانخراط الجدي في مسلسلات إنجاحها، ولا زلنا نتعرض من هنا وهناك إلى خطابات شعبوية وديماغوجية تكشف مستويات متدنية في السياسة وفي الموضوعية وفي المصداقية وفي… المنطق، ولا زالت أيضا تصفية الحسابات الانتخابوية هي المحرك في اختيار هذا الاصطفاف أو ذاك، كما لازلنا نرى دفاعا عن الفساد والريع واللاعقاب هنا، و»تخراج لعينين» يمارسه مفسدون كبار يعرفهم الجميع هنا وهناك…
إن نجاح المرحلة اليوم، في المغرب أو في باقي بلدان المنطقة، يفرض الوعي أولا برهاناتها وبمخاطرها التي لم تضمحل بعد، ثم الانخراط الجدي والشجاع في العمل من أجل الديمقراطية والحرية والتقدم.
[email protected]

Top