المسرح المغربي وإشكالية التأسيس

هل يعتبر المسرح المغربي من جنس تراثنا الثقافي العربي أم جنسا مستحدثا في الأدب العربي ودخيلا على الثقافة العربية؟

  ننطلق في معالجتنا لهذه الإشكالية من الأفكار التي طرحها أرسطو في كتابه “فن الشعر” حول التراجيديا وعوامل نشأتها كشكل من أشكال التعبير الإنساني؛ حيث حدد عاملين اثنين لنشأة الشعر[1] والتراجيديا[2]:

أولا: الإنسان مخلوق مقلد باعتبار المحاكاة صفة إنسانية يرثها الإنسان منذ طفولته.

ثانيا: الإنسان يشعر بالمتعة عندما يشاهد محكيات فنية؛ فرغم أننا نتألم – يقول أرسطو – لرؤية بعض المشاهد، إلا أننا نستمتع برؤيتها.

ويمكن أن نضيف عاملين آخرين من خلال السياق كحب الإنسان للمعرفة وميوله الفطري للإيقاع والموسيقى.

وعلى هذا الأساس نطرح التساؤل التالي:

 هل المجتمع العربي مارس المسرح بالفطرة؟ وهل أنتج أشكالا فرجوية قريبة من حيث الشكل والمضمون إلى ما نعبر عليه اليوم بمصطلح “مسرح”؟ وبمعنى أدق وأوضح: هل يضم التراث الأدبي العربي أشكالا للتعبير تشكل إرهاصات وبوادر لظهور فن المسرح؟

بذور المسرح في الثقافة العربية:

تؤكد الدراسات التاريخية والاجتماعية على وجود أشكال فرجوية ترسخت في الذاكرة الثقافية الشعبية بالمغرب وببعض المناطق والبلدان العربية، وكانت تمارس إما بشكل فردي كالمداح والراوي والحكواتي والسامر والمقلداتي… أو تمارس في إطار طقوس جماعية ارتبطت بالتجمعات البشرية كالأسواق والمواسم وغيرها، وهناك أمثلة عديدة على ذلك كطقوس الحج عند قبيلة عك بأناشيدها وتراتيلها وحواراتها ومكياج الطفل ولباسه الغريب وهو يقوم بتمثيل دور الغراب متقدما جموع القبيلة، نستحضر كذلك مظاهر التعازي الخاصة بمقتل الحسين بكربلاء وطقوس بوجلود بشمال المغرب وطقوس الأعراس ببعض مناطق المغرب التي تجمع بين الموسيقى والرقص وتمثيل الأدوار… إلى غير ذلك من الطقوس والعادات والتقاليد التي تعكس حب الإنسان للعب أدوار وصنع مشاهد وعرضها على الجمهور من أجل تحقيق المتعة والتعبير عن الأفكار والمشاعر الجماعية عن طريق تجسيدها بما يتطلب ذلك من توظيف لتقنيات عديدة كالحوار والملابس والديكور والتشخيص والحبكة والتشويق…

إن الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمعات العربية يؤكد حضور إرهاصات لأب الفنون كشكل من أشكال التعبير والتواصل الاجتماعي بشكل اعتباطي، قبل أن يظهر كجنس أدبي وشكل فني فرجوي، أي على مستوى التأليف والممارسة. وسواء كان المسرح أصيلا أو دخيلا على الثقافة العربية  فإنه يرفض أن تكون له حدود زمانية تؤطر بداياته، فهو إذن من حيث النشأة لم يكن لا يونانيا ولا فرعونيا ولا غربيا ولا شرقيا… بل اكتسى بعدا كونيا وإنسانيا ارتبط كطقوس وممارسات بنشأة الإنسان وبطابعه الاجتماعي، “فحيث يلتقي الناس ينشأ المسرح” على حد تعبير المخرجة الإنجليزية “جون لبيتلود”.

 وإذا ما ربطنا خيوط هذه الأفكار بالمجتمع العربي فيمكن القول إن المسرح العربي نشأ مع نشأة المجتمع وتطور مع تطور ممارساته وأشكال تواصله، لأنه وليد غريزة إنسانية وحب الإنسان للتقليد والمحاكاة، أما الفرق فيكمن في الاجتهاد في أشكال التعبير وصناعة الفرجة وطرق الاحتفال بما يتلاءم مع خصوصيات المجتمع الثقافية.

أولى الأعمال المسرحية على المستوى العربي:

يجمع مؤرخو المسرح العربي على أن أول نص مسرحي عربي هو “البخيل” لمارون النقاش[3] وكان ذلك سنة 1847م، وهو نص مقتبس عن الكاتب المسرحي الفرنسي “موليير”، وقد كان لظاهرة الاقتباس دور مهم في إنتاج أولى الأعمال المسرحية بالعالم العربي، اعتمد عليها المؤلفون بشكل كبير في نقل التجربة المسرحية الغربية واستنبات بذورها في الحقل الأدبي العربي، ويزكي هذا الموقف تكرار هذه التجربة بكل من مصر والمغرب وسوريا وبلدان عربية أخرى، وفي هذا السياق نستحضر تجربة كل من يعقوب صنوع بمصر وأعماله المقتبسة من موليير، ومسرحيات أحمد الطيب لعلج بالمغرب وما حققته من نجاح وقبول على مستوى التأليف والعرض كمسرحيات: “مريض خاطرو” و”عمايل جحا” و”الفضوليات” و”الحاج العظمة” و”ولي الله”… الخ. وقد تناول مؤلفو هذه النصوص المسرحية الظاهرة الاجتماعية ومعالجة تفاصيلها الدقيقة وحاولوا تأصيل هذا الفن في البيئة الثقافية العربية.

وقد توالت الإنتاجات المسرحية بالعالم العربي خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن بين المبادرات المسرحية التي مثلت مرحلة بدايات المسرح العربي نستحضر بمصر ثلاث تجارب أساسية:

تجربة يوسف إدريس وعرفت بمسرح السامر، حيث استثمر طقوس السامر الشعبي بمصر في أعماله محاولا تأصيل التجربة المسرحية وربطها بالجذور الثقافية الشعبية بمصر.

تجربة علي الراعي الذي تميزت أعماله بالكوميديا والضحك، وعلى مستوى العرض أدخل تقنيات جديدة كاستلهام فن الإلقاء والارتجال.

تجربة توفيق الحكيم: حاول تأسيس مسرح عربي من حيث القالب والمضمون ودعا الى تأصيل التجربة المسرحية، حيث استلهم في أعماله التراث الثقافي الشعبي كالحكواتي والمقلداتي والمداح، لكن على مستوى الممارسة اعتمدت جل أعماله على الاقتباس من التجارب الغربية.

ومثل المسرح السوري سعد الله ونوس الذي أسس اتجاها جديدا في المسرح سماه “مسرح التسييس” حيث عالج في أعماله مواضيع وقضايا الجمهور العريض، فتناول هموم الطبقة الشعبية وسعى إلى خلق وعي سياسي بقضايا القومية العربية خاصة بعد هزيمة سنة 1967 وما تلتها من أحداث سياسية. فكان لذلك تأثير على الجمهور حيث أصبح يستقطب الفئات الشعبية والفئات المسحوقة ولم يعد مستقطبا للطبقة البورجوازية فقط.

وبتونس نستحضر تجربة عز الدين المدني الذي دعا إلى الثورة على المسرح وإلى أولوية العرب في تبني فن المسرح نظرا لتوفرهم على تراث زاخر بأشكال فرجوية تحمل بذورا مسرحية، فدعا إلى أخذ النوع فقط من التجارب المسرحية الغربية وتأسيس مسرح عربي بهوية ثقافية عربية.

 بدايات المسرح بالمغرب:

كان لعامل السبق في النهضة الأدبية والفكرية بالمشرق العربي دور أساسي في نقل التجارب المسرحية إلى المغرب تنظيرا وممارسة، وقد كان لزيارة الفرق المسرحية المشرقية للمغرب في فترة ما قبل الاستقلال وتقديم عروضها أمام الجمهور المغربي، دور أساسي في نقل التجربة وتشجيع وترسيخ الممارسة المسرحية، ومن بين الفرق المسرحية التي ساهمت في هذا الإطار: (فرقة محمد عز الدين، فرقة فاطمة رشدي، فرقة نجيب الريحاني، فرقة يوسف…)، وقد شكلت هذه الظاهرة حدثا مهما خاصة لدى الشباب المثقف الذي بدأ ينفتح على فن المسرح وتتشكل لديه فكرة الإبداع والاقتباس وإنتاج أعمال مماثلة، فتوالت المبادرات التي ساهمت في استنبات هذا الفن في المغرب وتهيئ الشروط المناسبة لإنتاج وعرض الأعمال المسرحية، فكان أول من حمل مشعل الفن المسرحي بالمغرب مجموعة من الرواد نذكر منهم أحمد الطيب لعلج والطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد ومحمد مسكين ومحمد الكغاط والمسكيني الصغير وغيرهم. اشتغلوا جميعا على بلورة وتأصيل التجربة المسرحية بالمغرب سواء على مستوى التنظير وإنتاج النصوص أو على مستوى العرض.

ويمكن تلخيص بدايات التجربة المسرحية بالمغرب في مرحلتين أساسيتين:

مرحلة الاقتباس:

وتشكل محطة مهمة في تاريخ هذا الفن بالمغرب، اعتمدت على الاقتداء بالنموذج الغربي خاصة رواد المسرح العلمي أمثال “موليير” و”شكسبير”، وفي هذا الإطار اقتبس الطيب الصديقي مسرحية “مومو بوخرصة” من “يونسكو” واقتبس المهدي المنيعي مسرحية “البخيل” و”طرتيف” من موليير، واقتبس نجيب حداد “شهداء الغرام” من شكسبير أما أحمد الطيب لعلج فقد اقتبس “ولي الله” و”الحاج العظمة” من موليير…

وقد تناولت هذه المسرحيات قضايا اجتماعية وسياسية انكبت بالأساس على الاستبداد والظلم والقهر الذي كانت تعانيه فئات المجتمع المغربي من نير المستعمر.

مرحلة التأصيل:

تميزت هذه المرحلة بالإبداع والتجديد على مستوى الشكل والمضمون: فعلى مستوى الشكل بدأ التفكير في إدخال تغييرات في طريقة العرض المسرحي الكلاسيكية المستوحاة من الخشبة الإيطالية، كتوظيف الفرجة الدائرية في العرض بدل شكل العرض التقليدي للمسرح الذي تنقسم وفقه القاعة إلى خشبة أمام قاعة يتابع فيها الجمهور العرض بشكل تقابلي، ثم بدأ التفكير في إشراك الجمهور في العرض المسرحي وهي التجربة التي ميزت أعمال عبد الكريم برشيد في إطار ما يسمى بالمسرح الاحتفالي.

ومن حيث أشكال الفرجة، انفتحت تجربة التأصيل على الذاكرة الثقافية الشعبية المغربية من خلال إدخال واستلهام أشكال فرجوية في العرض المسرحي  كعبيدات الرما والبساط وسلطان الطلبة وسيدي الكتفي وغيرها من الأشكال الفرجوية التي تحفل بها الثقافة الشعبية المغربية بمختلف تلويناتها، وقد ساهمت هذه التغييرات في تطوير الإبداع المسرحي على مستوى الكتابة المسرحية والإخراج والسينوغرافيا وأداء الممثلين الذين أبدعوا في مختلف الأدوار التي أدوها على الخشبة بما يتطلبه ذلك من حركة وارتجال على مستوى الحوار والتفاعل مع الجمهور…

  تلك هي أهم ملامح البدايات الأولى لظهور جنس المسرح بالمغرب وما واكبها من إشكاليات التأسيس لجنس أدبي مستجد بملامح مغربية شكلا ومضمونا، وهي مرحلة دقيقة عرفت نقاشا مستفيضا أدى إلى بلورة التجربة المسرحية بالمغرب والتي تطورت عبر تجارب ومسارات مختلفة ارتبطت بالفرجوية والتأصيل واستلهام التراث والتعبير عن الواقع الاجتماعي.

أستاذ باحث في اللغة العربية وآدابها

هوامش

يقصد به الشعر الدرامي الذي يضم المسرح والملحمة، فجوهر الشعر عنده هو الحكاية أو تركيب الأحداث وفق مبدإ الضرورة والاحتمال، ثم تأتي العناصر الأخرى: الأخلاق، الفكر، القول، المنظر المسرحي، النشيد…

هي محاكاة لفعل جاد كامل له أبعاد معينة وحجم محدد، في لغة منمقة تختلف باختلاف أجزاء المسرحية، وبواسطة أشخاص يؤدون الفعل بتجسيدها عن طريق السرد، تؤدي إلى تطهير النفس عن طريق الخوف والشفقة من خلال إثارتها لهذه الانفعالات.

هو “أبو المسرح العربي، والرائد الأول لفن التمثيل، قضى سنوات عدة في إيطاليا حيث اكتشف هذا الفن الجديد وشغف به، فلما عاد إلى لبنان عرّب (بالتصرف) مسرحية موليير شهيرة L’Avare تحت عنوان البخيل (1848) فعرضت المسرحية على خشبة أقامها بمنزله. وكان الممثلون رجالا من عائلته، وحقق بهذه المبادرة بعض النجاح وسمحت له السلطات العثمانية ببناء قاعة مسرح حقيقية. وسنة 1850، أخرج مسرحية الثانية أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد واستلهم موضوعها من ألف ليلة وليلة… غير أن النقاش تعرّض لاعتراضات المحافظين ورجال الدين وانتابته الشكوك والإحساس بالذنب فحول مسرحه إلى كنيسة قبيل موته وهو في الثامنة والثلاثين.

بقلم: فؤاد الكميري

Top