..الوعي السياسي وسلطة الانتخابات

أكد الفكر السياسي الإنساني على أهمية الوعي السياسي في بناء الأنظمة الديمقراطية، وتنبع أهميته في حياة الإنسان من كونه يسهم في فهم ما يحيط به من قضايا، فكل ما يتعلق بالتدبير اليومي وحاجيات الأفراد يسيس أو تشرف عليه السلطة السياسية، ومن هنا تتعدد أدوار هذا الوعي مقدما للمواطن حسب انتمائه الجغرافي، والديني، وطبيعة النظام السياسي السائد في بلده، معرفة لواقعه السياسي وبظروف وواقع مجتمعه ومنطقته والعالم من حوله، ومعرفة ما هو كائن، والإلمام بالبدائل السياسية الممكنة والمتاحة بوصفها حلولا لما يعتري المجتمع من مشكلات سياسية.
وبالعودة إلى هذا الواقع، دأبت العادة حين تتأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتصبح أحوال الناس لا تطاق، وعندما تتباعد البرامج السياسية التي بموجبها نجح السياسي في استمالة الناخب لتحقيق رهاناته المطلوبة، يجد المواطن نفسه مجبرا لتغيير أوضاعه تغييرا جذريا، ويتطلب الأمر المرور عبر آلية ديمقراطية تنم عن وعي في اختيار نموذج سياسي آخر يستجيب لطموحاته، ويحقق بذلك تصويتا عقابيا لمن أعطي له حق التفويض في تسيير المرفق العام كما هو متاح في التجارب الديمقراطية التي تحترم مبدأ التناوب والتداول.
وقد عشنا في السنوات الماضية في العالم العربي تجربة جديدة تنضاف إلى هذا الوعي وإلى آليات التغيير، وقد أتاحت دروسا للسياسي لإعادة بناء الثقة بينه وبين المواطن، ويتعلق الأمر بالثورات التي رفعت من منسوب الوعي السياسي ووحدت اللغة الاحتجاجية داعية إلى تحقيق الديمقراطية القائمة على التعددية والحريات السياسية والاجتماعية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة بين الحكومات بما يتيح عملية الاستفادة من جل الاقتراحات، وفصل السلطات واستقلالية القضاء، وعلى الصعيد الاجتماعي تحقيق العدالة الاجتماعية بوصفها ركيزة اندماج طبقات المجتمع، ومحاربة الفساد والبطالة، والفقر، وتكريس مفهوم المواطنة، والمجتمع المدني، وعلى صعيد السياسة الخارجية رفض التبعية بكل أشكالها واستعادة الكرامة الوطنية، والحفاظ على الحقوق والهوية القومية، واستعادة دور الشعوب العربية، وحماية ثرواتها، والتصدي للتدخلات والإملاءات الخارجية.
لقد مكن الوعي السياسي إذن من توسيع هرم مواكبة النشاط السياسي، وتعزز دور المواطن في الضغط وتقويم أداء ممثليه داخل البرلمان والحكومة، فالحلم بالتنمية والإصلاح عدد الأطروحات والزعامات والمحاولات على مر السنين، وفي كل مرة تخيب الآمال ويظل الهدف المنشود معلقا، وأمام فقدان الثقة الذي ينم عن وعي سياسي كبير جعل البلدان التي عرفت هذه الثورات تغير منهج تواصلها، إذ فهم المواطن أن كل الممارسات والقوانين المفروضة عليه في الحياة اليومية هي نتيجة للسياسات العمومية، تقرها فئة في السلطة تملك الشرعية، لكن التحول البارز هو امتلاك هذه الفئات الشعبية التأثير بقوة قانونية هي سلطة الانتخابات مصدرها الرئيس هو الدستور الذي ينظمها من أجل إشراك المواطنين في إدارة شؤونهم، وفي اختيار المنتخبين، كما تستطيع إثارة ملفات تمس واقعهم وتحويلها إلى قضايا رأي عام، والدفع بالدولة إلى التعاطي الإيجابي مع نبض المتطلبات والتدخل إن اقتضى الأمر لتصحيح الاختلالات، ومن تم تؤدي دور المراقبة والكشف وإثارة الانتباه والتنبيه وفضح الخروقات، وهو ما يجعل المسؤولين في موضع محاسبة وإحراج دائمين.
إن الشعب، كما يستطيع أن يختار ممثليه في البرلمان والحكومة بناء على النتائج، فإنه أيضا يستطيع أن يطلب استبدالهم أو تغييرهم بصورة غير مباشرة، ويمارس ضغطا عليهم من أجل إجراء انتخابات مبكرة وفق الدستور والقوانين الانتخابية المعمول بها في كل بلد، فالسياسة لم تعد حكرا على فئة من الناس هم الأحزاب والنخبة، ولم تعد في يد من يوكل له تسيير الشأن العام، بل أصبحت شأنا عاما يمس كل إنسان ومواطن، خاصة في ظل ما أتاحته مواقع التواصل الاجتماعي من فضاءات للتعبير عن الآراء ونقد سياسات الحكومات، مما جعل المواطن كائنا سياسيا يتفاعل مع محيطه باستمرار.
يظل الوعي السياسي ضرورة ملحة في زمن مثير يشهد تعددا في الأحداث والمواقف، ويستدعي الإلزام الديمقراطي والالتزام الأخلاقي، ويحتم خلق حوار فعال وحقيقي بين المجتمع وصناع القرار لتجاوز التناقضات بين الفكر والممارسة السياسية.

Related posts

Top