ظهرت البوادر الأولى لحدوث تحول وازن، وغير مألوف، في سوريا بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، حيث يستفاد من تصريحاته، سواء خلال ولايته السابقة أو بعد مدة قصيرة من إعلان فوزه في السباق نحو البيت الأبيض، أن التدخل العسكري الأمريكي المباشر في الساحة السورية غير مبرر وغير متناسب مع كلفته المالية والبشرية المرتفعة. وفي هذا الصدد، لابد أن نتذكر أن ترامب قد سحب قواته من شمال سوريا، متيحا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان التدخل عسكريا في نفس المنطقة لتحييد التهديد الكردي من جانب، ولترميم شعبيته استعدادا للانتخابات الرئاسية من جانب آخر.
لقد أبدى دونالد ترامب رفضا ناضجا لأي تدخل مباشر لقواته في أزمات والتهابات الشرق الأوسط، مفضلا استخدام حلفائه المحليين وتزويدهم بالدعم المالي والتقني وكذا بعض التسهيلات اللوجستيكية.
وهذا ما مكن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط من الانكباب على التخطيط الاستراتيجي وتحريك حلفائها الميدانيين، بدل الانخراط في جهود عملياتية مكلفة ماديا وبشريا وسياسيا، ذلك أن سياسة تدخل الجيش النظامي الأمريكي بصورة مباشرة في الصراعات المسلحة المحلية، يضع الولايات المتحدة في مواجهة صريحة مع شعوب المنطقة.
أمام استرجاع الجيش السوري السيطرة على عدة معاقل أساسية (حمص وحماة وغيرهما من المدن الكبرى) فضلا عن استرجاع تسيير أغلب طرق المواصلات البرية والجوية، تبنى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة دورا جديدا، متسقا مع سياسة الاستنكاف عن التدخل العسكري المباشر التي اعتمدها الساسة الأمريكيون منذ وصول باراك أوباما إلى الرئاسة وحافظ عليها جو بايدن وكذلك دونالد ترامب.
ويقتضي هذا الدور الذي أنيط، أساسا، بالسعودية وتركيا والإمارات، فك الحصار الدبلوماسي عن بشار الأسد والسعي إلى إبعاده عن حاضنته التقليدية المتمثلة في إيران وروسيا. وبالفعل، فقد بدا بشار الأسد، خلال هذه الفترة التي طبعها الهدوء الحذر والترغيب، أقل تشددا، على مستوى الخطاب والممارسة، حيال إسرائيل.
عندما تمكن من استعادة جزء يسير من السلطة الفعلية، حاول النظام السوري ممالأة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عوض التركيز على إعادة ترميم قاعدته الشعبية. لقد ظن حاكم دمشق أن بقاء نظامه أكثر ارتباطا بمهادنة الغرب ولو تطلب ذلك تخفيف ارتباطه العضوي بموسكو وطهران.
ورغم تتابع الضربات القاصمة التي تلقتها أذرع الثورة الإيرانية في لبنان وخاصة حزب الله، لم يصنع نظام بشار الأسد مبادرة غير مألوفة للانفتاح على قوى المعارضة، ولم يقدم عرضا جديدا في هذا الشأن، نظرا لتراجع العمليات المسلحة للمعارضة واستقباله من قبل دول ومحافل رسمية عربية كانت، حتى وقت قريب، تنعته وسائل الإعلام المقربة منها بأقذع الأوصاف وتصرح، علنا، بضرورة إسقاط نظامه.
لسنا بحاجة استثنائية لفهم بعض معالم السلوك السياسي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذ يكفي أن نستحضر مواقفه وتصريحاته إزاء الأزمات الدولية الثقيلة أو المرجعية خلال ولايته الرئاسية الأولى.
لقد بادر ترامب إلى لقاء الرئيس الروسي ورئيس كوريا الشمالية، كما أنه أبدى انزعاجا مستمرا من الكلفة المالية والعسكرية والسياسية الباهظة التي استتبعتها الحروب المباشرة التي شاركت فيها بلاده، كما وجه انتقادات شديدة إلى قادة أوروبا الغربية على صعيد مسؤولية الدفاع المشترك لأن بلاده هي التي تتحمل الجزء الأكبر من ميزانية حلف الناتو من ناحية، وعلى صعيد العلاقات التجارية بين بروكسل وواشنطن التي اعتبرها مضرة بالاقتصاد الأمريكي، من ناحية أخرى.
بل إن ترامب لم يتوان في اعتبار التنظيمات اليمينية، كتنظيم فكتور أوربان وتنظيم مارين لوبين، التي تؤثر في دقائق المشهد السياسي الأوروبي، فرصة ملائمة لإنشاء رؤية مشتركة حول قضايا حساسة، كمنظومة القيم والخلف الديمغرافي والهجرة والهوية وغيرها.
مع وجود رئيس أمريكي متشبث بجدوى المصلحة الوطنية ومعارض للمؤسسات فوق-الوطنية المنمطة والمتضخمة، من طينة دونالد ترامب، لن يمتنع فلاديمير بوتين عن تقديم تنازلات ذات مغزى في الشرق الأوسط؛ إذ من غير المنطقي أن تتخلى موسكو عن بشار الأسد خلال أقل من 24 ساعة وهي التي دافعت عنه، بشراسة، طيلة 11 سنة، هكذا … دون مقابل !
يكمن المقابل في أوكرانيا، فتخلي روسيا عن دعم بشار الأسد بسرعة خاطفة، وتقارب تصريحات كل من وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ودونالد ترامب حول، بالنسبة للأول، صعوبة وضع خطة لإنقاذ الأسد و، بالنسبة للثاني، ضرورة عدم التدخل الأمريكي المباشر في الأحداث السورية الأخيرة؛ كلها معطيات تدفع نحو فرضية وجود صفقة بين واشنطن وموسكو تهم تماهي أدوارهما المقبلة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وإفريقيا والمحيط الهادئ وحالة الاكفهرار السياسي والاقتصادي التي تجتازها أوروبا الغربية.
بقلم: د. هشام برجاوي
باحث في القانون والعلاقات الدولية