في كارثة كورونا، تجاوزت وفيات إيطاليا ضعف خسائر الصين، منبع الوباء البشري. الغالبية الساحقة من النزيف الإيطالي تركزت في فئة مثلت حسابيا عبئا اجتماعيا واقتصاديا على روما، وعلى جل الدول المتقدمة. رغم أنها كانت تملك، في إيطاليا، فرصا أكبر لحياة دون مشاكل صحية، مقارنة بنظيراتها الأوروبية.
استقر منذ عقود اجتماعيا وسياسيا، توصيف “المجتمع الشائخ” لغالبية الدول المتقدمة، اليابان في المقدمة بـ26.3 في المئة من مواطنيها بلغوا 65 عاما أو أكبر، ويتوقع أن ترتفع لـ32.2 في المئة عام 2030. أصبح توصيف “القارة العجوز” شديد الواقعية. عام 1950 كان 12 في المئة من الأوروبيين فوق سن 65، اليوم تضاعفت الحصة، والتوقعات تشير إلى أن النسبة قد ترتفع إلى 36 في المئة عام 2050. وتقول الوكالة الأوروبية للإحصاء إن نسبتهم الآن 19.2 في المئة، 22 في المئة منهم في إيطاليا، ثم ألمانيا بـ21.1 في المئة، وفرنسا 18.8 في المئة، وإسبانيا 18.7 في المئة، وبريطانيا 17.9 في المئة، (…).
أرقام تعني أنه بداية من 2035 سيفقد الاتحاد الأوروبي “عشر” سكانه حتى عام 2050. ألمانيا، القاطرة الاقتصادية للاتحاد، ستتراجع من 82 مليونا إلى 74.7 مليون عام 2050، وتنزل تقديرات أسوأ لـ65 مليونا عام 2060.. ما لم تشهد أوروبا معدلات هجرة فارقة.
يؤثر هذا الوضع على ماكينة الإنتاج البشرية عامة، فمقابل كل مسن، 65 عاما فأكبر، اليوم أربعة في سن العمل. عام 2023، سيبقى منهم عاملان لكل متقاعد. وبالتدريج تفقد أوروبا ما متوسطه تسعة ملايين من قوتها العاملة حتى 2060. وستقلص هذه التراجعات أعداد الموظفين المؤهلين، وتؤدي إلى تخلف انخفاض الإنتاجية، وارتفاع تكاليف العمالة، وتأخر توسع الأعمال التجارية، وضعف القدرة التنافسية الدولية.
بالتوازي، تواصل مخصصات التقاعد في الارتفاع. ومنذ سنة 2014 شكلت أنظمة التقاعد أكبر بند للإنفاق في ميزانيات أوروبية عديدة، حسب تقرير للبنك الدولي. وهذا، أيضا، يمثل خطرا على الاستدامة المالية لـ16 دولة في الاتحاد الأوروبي، على المديين المتوسط والطويل، وفق تحذير أحدث تقرير للجنة الشيخوخة التابعة للمفوضية الأوروبية. فبحلول عام 2060 ستحتاج تغطيتها لـ1.4- 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي.
عبء كبار السن في أوروبا وظفه النيوليبرال سياسيا لجذب قطاع وازن من الناخبين، وحجمه المتنامي دفع مؤسسة ستاندرد اند بورز للتصنيف الائتماني للتلويح بخفض تصنيف الدول صاحبة الشيخوخة المرتفعة في مجموعة العشرين، إذا لم تقلّص إنفاقا رأته مرتفعا على تغطية تداعيات نسبة كبار السن العالية. واعتبرته “أكبر تدهور يهدد شؤونها المالية العامة خلال الأربعة عقود المقبلة”.
بدا الفايروس منقذا للحكومات التي توقّعت أن تطال إصاباته 60 – 70 في المئة من سكانها، وهو نفس المتوسط الذي يحقق “مناعة القطيع” التي بنيت عليها التجربة البريطانية لمواجهته. ومن العلم العام أن الغالبية الكاسحة لضحاياه ستكون من كبار السن.
كورونا يتوحش خاصة على الأجساد التي أنهكتها الشيخوخة، ما يعني أن كبار السن هم الأولى بالدعم الصحي أمامه، لكن تليفزيون فرانس 24 بث، في 15 مارس، تقريرا عن وثائق إيطالية وزعت محليا، قال إنها لا تحمل أختاما رسمية، تمنح أولوية العلاج “عند الاضطرار” لصغار السن قبل الأكبر سنّا.
وفي اليوم التالي، نشرت صحيفة التليغراف البريطانية، أن مدينة تورينو بإيطاليا قررت منع المصابين بالفايروس الذين بلغوا 80 عاما وأكثر، وكذلك من تدهورت حالتهم، من دخول الرعاية المركزة في حال زيادة الأعداد عن الأسرّة المتوافرة. وقال طبيب منها للجريدة: “نحدد الذين سيحيون والذين سيموتون بناء على العمر والحالة الصحية، هكذا هي الحرب”.
وفي أول كلمة لرئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون عن الوباء، طالب مواطنيه صراحة “بالاستعداد لفراق أحبة”.. وشدد: “حتى إذا شككت في إصابتك بالفايروس.. اعزل نفسك ولا تتصل بالمستشفى إلا إذا ساءت حالتك”. توجيهات تتجاهل أن مجرد إصابة كبار السن بالفايروس تعني الوفاة، إذا بقيوا في منازلهم معزولين ولم يعالجوا! لكنه كان أكثر حسما، السبت 21 مارس، حسب كافة الصحف البريطانية، بأمره للمنظومة الصحية بـ”إعطاء الأولوية للمرضى الذين لديهم أفضل فرصة للبقاء أحياء”، قبل أن يقع هو نفسه في شباك المرض.
من البديهي أن لا تكون لكبار السن “أفضل فرصة” في أي بلد وسط الوباء المتفشي. ونفس التوجه سنجده “مضمرا” في خطة الحكومة الفرنسية التي أعلنتها في 18 مارس، وكرر فيها رئيسها تعبير “الفئات الأضعف” مرات، ولم يكن بينها كبار السن، رغم أنهم الفئة الأولى المعتبرة “أضعف” في السياق الكوني الحالي. بينما تمنح الأولوية لمن هم أقدر على المقاومة والصمود.
وفق تقديرات الصحة العالمية فإن معدلات وفيات كورونا بين كبار السن 14.8 في المئة، و0.2 في المئة للفئات العمرية من 10 إلى 39 عاما، وصفر قبل سن 9 أعوام. ومقارنة بمتوسط الأعمار، نجد الصين متوسطها 45 عاما ومعدل وفيات كورونا 4 في المئة، كوريا الجنوبية متوسطها 44 عاما ووفياتها 1 في المئة، وإيطاليا متوسطها 47 عاما ووفياتها 9 في المئة، إيران متوسطها 32 عاما ووفياتها 8 في المئة، إسبانيا متوسطها 45 عاما ووفياتها 6 في المئة، بريطانيا متوسطها 40 عاما ووفياتها 5 في المئة.
في تفاصيل إيطاليا، صاحبة المشهد الأسوأ، متوسط عمر المصابين بالفيروس 63 عاما لكن معظم الذين يموتون أكبر سنا، بمتوسط 79 عاما. و42 في المئة من المصابين به تجاوزوا الـ80 عاما، وهذه الفئة العمرية تشكّل 9 في المئة من السكان. ونسبة الوفاة بين من وقعوا في شباك كورونا وعمرهم 70 عاما فأكثر بلغت 90 في المئة.
وبعيدا عن أنّ الوباء غير مسبوق، وفكرة معالجة الجميع خارج المنطق ولن يستوعبها أي نظام صحي، وتوجه “تخفف من الكبار” الأوروبي تسنده المعادلات الحسابية المذكورة أعلاه، ماذا عن التجربة الأنجح هنا.. الصين وكوريا الجنوبية؟ لديهما نسبة شيخوخة مقاربة، ولم ترصد ماكينة الإعلام الغربي، المترصد لبكين خاصة، مثل ما طرحته حكوماته من تأخير لأولوية كبار السن المستحقة، ونجا في الصين، مثلا، مصابون أضعاف أضعاف نظرائهم في أوروبا، غالبيتهم من كبار السن.
إنسانيا، حين تقع كارثة يكون الأولى بالإنقاذ الأطفال وكبار السن، الأوروبيون الآن ملتهون بغبار الوباء، وحين ينقشع.. ستدرك مجتمعاتهم ما صمتت / تواطأت عليه، للتخفف من أجيال كاملة. وأنها في مرحلة عمرية قادمة لا محالة، ستوظف حكوماتهم كارثة ما للتخلص منهم، وربما بلا قبر يشهد بأنهم كانوا موجودين يوما، كما يحدث الآن لمن سبقوهم في التقدم بالسن، وكما “خيل الحكومة”.