حين تكشف المرحومة السعداوي عن أزمتنا الأخلاقية

لم تكن المرة الأولى التي أتعرض فيها للتهديد بالقتل، بدأ ذلك منذ اليوم الذي قررت فيه التعبير عن قناعاتي بكل حرية، تعرضت لذلك مرة وجها لوجه، وتعرضت له عبر وسائل التواصل مرات ومرات، من حسابات مجهولة أحيانا، ومن حسابات معلومة أخرى يحرض أصحابها على العنف علانية، ولم أكن أقف كثيرا عند هذه التهديدات اللهم بعض الإجراءات الاحترازية، بحكم أن الخوض في محاربة التطرف والعنف الديني من طرف شخص احتك بداخل هذا النسق، وتعرف على خباياه وطرق تفكيره وآليات اشتغاله، من الطبيعي جدا أن يثير حنقا وعداوة بالغة تصل لحد التهديد بالقتل عند من يرى قتل المخالفين قربة إلى الله بل فريضة شرعية.
لكن الذي لم يدر بخلدي أبدا هو أن يكون سبب كل ما تلقيته مؤخرا من سب وشتم ونيل في العرض والذمة وتهديد بالقتل، ليس انتقاد التنظيمات الإرهابية، ولا إثارة النقاش حول ما يعتبره البعض من “المسلمات” والطابوهات التي يحرم الاقتراب منها، وإنما مجرد الاستنكار على من منع الترحم على رائدة التنوير وأستاذة الأجيال نوال السعداوي، ليس مطالبة أحد بالترحم فذلك شأنه وهو أمر على الاختيار، بل فقط محاولة لعدم ممارسة الحجر على من يظن أن رحمة الله واسعة، وأنها تشمل حتى من لا يؤمن به ولا يعتقد بوجوده.
لنا الحق أن نتساءل من أين كل هذا العنف في التعامل مع المختلف عنا جنسا أو دينا، لدرجة إبداء كل هذا التسخط من جملة ذات كلمات قليلة تتضمن طلب الرحمة لمختلف عاش مأساة إنسانية أو غير مسلم قدم للإنسانية خدمات جليلة تجعله مستحقا لدعائنا، هل فعلا تلك النصوص القرآنية التي يحتج بها المانعون هي من يربي كل هذه القسوة في تعاملنا مع الآخر؟ أشك في ذلك مع ما نعرفه جميعا من خضوع كل النصوص للتأويلات المتناسبة مع كل سياق ووضع، كم هي النصوص التي أولت، وكم هي النصوص التي عطل العمل بها لأسباب براغماتية، فلم التشبت بهذه الأفهام رغم كل ما فيها من أخذ ورد حتى داخل المدرسة الدينية؟
أعتقد أن الأمر أكبر من ذلك، وأنه مرتبط بما يعيشه المسلمون عموما في الوقت الحاضر من هزيمة نفسية وشعورية، تجعله يحاول التعويض عن ذلك بالإحساس بعلويته ودونية الآخر، لدرجة أنه لا يستحق جنة ولا رحمة ولا غفرانا، هو وحده من يستحق ذلك، وبقية الخلق إلى الجحيم.
بهذا أفهم كيف أن هذا الرافض للترحم على غير المسلم لا يجد أدنى حرج في الترحم على ابن سينا مثلا، بل قد يسكن شارعا يحمل اسمه، أو نال شهادته من مدرسة خلدت ذكره، أو طلب العلاج بمستشفى رفع لقبه ورسمه، مع أن ابن سينا كان ملحدا بل إمامهم حسب تعريف بن القيم الجوزية الذي يقول عنه: “إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر”، وقل مثل ذلك في البيروني وابن حيان وابن رشد والرازي والفارابي والكندي، وكل هؤلاء ممن شكلوا فخرا للحضارة الإسلامية، مع أن الفقهاء حكموا بإلحادهم وردتهم عن الدين، هي الهزيمة النفسية ولا شيء غيرها من تنتج هذه القسوة، وإن تغذت بكثير مما في التراث من تأويلات وأحكام وردت في سياقات حربية وصراعات دينية.
من المؤسف حقا أن الأمم غالبها حين يتعلق الأمر بوفاة شخص قدم خيرا للإنسانية، أو عاش المعاناة خلال حياته، يسارعون دون تفكير لطلب الرحمة والسلام له، إلا نحن فحسب هذا الفهم الديني الغالب أيضا عندنا، يجب أن نسارع للبحث في هويته الدينية والجنسية لنقرر إن كان يستحق منا طلب الرحمة أم لا يستحق، وهنا يطرح التساؤل حول ما نرفع من شعارات حول قيمنا الأخلاقية وسموها وظهورها، حيث يرفع العالم أكفه للسماء سائلة الرحمة لهؤلاء، فيما تتردد أيدينا في فعل ذلك حتى نعلم دين الشخص وأفكاره، حيث نسمح لأنفسنا بأن نستغل كل ما يقدمه الآخر لنا من اختراعات واكتشافات ومنجزات، وكل ما بذله من جهود وأوقات وأموال، بينما نستكثر عليه طلبا بالرحمة أو دعاء بحسن المثوى والمآل.
الأمر حقا غير مرتبط بأي نص أو فتوى فقيه، بقدر عدم استيعاب الكثير لمفهوم الرحمة، فالترحم فعل إنساني لا يحمل أي بعد ديني، ألم يجعل القرآن الرحمة والمودة أهم غرض للزواج ومقصد، مع أنه أباح للمسلمين الزواج بمن على غير دينهم وملتهم، الترحم فعل غريزي لا يفرق بين الناس بأديانهم ولا أجناسهم ولا أعراقهم، وحين تطلبه لغيرك فأنت تطلبه لنفسك، لأنك ترجو أمرا غير قادر على إنفاذه لنفسك مع أنك تطلبه لها، وهذا منطق رحموتي يصعب على ذوي الأفهام الحرفية الظاهرية فهمه واستيعابه.
هي في الأخير أزمة ضمير إسلامي، الذي أصبح مطالبا اليوم بأن يعبر للعالم عن إنسانيته وتقديره الأخلاقي لكل من قدم خيرا للإنسانية، أو عاش معاناة مريرة في حياته، هذا هو تحدي المسلمين اليوم، أما القسوة والعنف والتعالي في رؤية الآخر، فليس من شأنه إلا التأكيد على أننا نستحق كثيرا مما نعيشه من تخلف عن ركب الحضارات المتقدمة.

< بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي

Related posts

Top