لقدد ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال والذي شاءت الأقدار أن يرى الوجود في وقت عرف فيه المشهد السياسي العديد من التوترات. كان المقال سينكب فقط حول إشكالية العنف اللفظي الموجه من خلال مجموعة من الخطابات والمقالات والتدخلات الرسمية وغير الرسمية، مباشرة وغير مباشرة ومن مختلف الفئات الاجتماعية، والتي انصبت جميعها حول تعنيف المدرسة العمومية عبر توجيه خطاب الأزمة والذي يعكس صورة سلبية على جميع عناصر ومكونات القضية الثانية للوطن، بحيث يوجه اللوم لكل من المتعلمين والأطر التربوية وكذا الأطر الإدارية.
نعم، إننا نعيش خطاب أزمة بامتياز، وهي أكذوبة صنعتها تراكمات زلات العديد ممن يستهدفون المدرسة العمومية والتي كانت بالأمس القريب تنتج ومازالت نخب هذا الوطن العزيز. لقد وصل الأمر إلى أن صدقت الجدران ومعها التلاميذ والأساتذة خطابات الأزمات المتتالية والتي كان لها أثر كبير على قضية تراهن عليها الشعوب التي تطمح إلى بناء مواطنين واثقين من مؤسساتهم وممن يقررون لمصيرهم.
إن موقعنا كباحث في مجال علوم التربية وخاصة في القياس والتقويم والقياس النفسي، لم يقبل هذا الوضع دون الوقوف على الأخطار التي تنجم عن مثل هذه الخطابات المتكررة والتي تتحدث عن أزمة التعليم، خاصة وأن عدة أطراف اتفقت على ذلك من داخل وخارج الوطن، منها القنوات السمعية والبصرية، والصحافة المكتوبة والمقالات والتقارير الوطنية والدولية… فنحن نعتبر كل هذه الممارسات، وخاصة تلك التي تنبعث من جهات رسمية، نوعا من العنف اللفظي القوي والخطير الموجه إلى بنية تعد أساس بناء المجتمعات وتقدمها في شتى الميادين.
ففي الوقت الذي يعطى الاهتمام لنساء ورجال التعليم سواء من الجانب المادي أو المعنوي في كثير من الدول التي استوعبت منذ زمن بعيد معنى التقدم والرقي، وحسمت في شؤون منظوماتها التعليمية والتربوية، واستطاعت بذلك أن تصطف في المراتب الأولى، اكتفت دول أخرى ومنها المغرب بنهج العديد من المحاولات لإصلاح ما أفسده التاريخ. كل هذه العمليات تميزت بتنوع المشاريع والتي همت العديد من الجوانب، إلا أنه في كل مرة وفي نهاية كل إصلاح تظهر من جديد خطابات الفشل والتي تكرس أزمة المدرسة العمومية وتفضل توجيه النقد المدمر وغير المنقطع لمنظومة تعد القضية الوطنية الثانية بامتياز بعد الصحراء المغربية. فنحن نعتقد أنه حان الأوان لفهم ما يقع حتى لا نصطدم بكارثة لا قدر الله.
فالحقيقة الصادمة هي أن جميع الإصلاحات وحتى الأخيرة منها، أغفلت الاهتمام بعمق المشكل، ألا وهو الجانب النفسي للمنظومة التعليمية، علما أن ما يهمنا بالأساس هو ذلك الإنسان الذي يتواجد فيها والذي يجسده التلاميذ والتلميذات والأساتذة والأستاذات وجميع الأطر الإدارية والتربوية.
إننا الآن في أمس الحاجة إلى تغيير نظرتنا وخطاباتنا اتجاه المدرسة العمومية والعمل على بناء الثقة فيها وبها عبر جميع وسائل الدعم النفسي. فيكفي أن نرجع إلى خطاب الرئيسة الألمانية، فعندما خاطبت الشعب الألماني، وجهت لكل المواطنين الألمان رسالة قوية من خلال تمييز الأساتذة على كافة الأطر، وذلك عبر الثقة الكبيرة التي تضعها فيهم. هذا يدل على أن الشعب الألماني ومعه جميع الدول التي نهجت نفس السياسة، تعي جيدا أن البناء الحقيقي للمجتمعات لا يمكن أن يتحقق دون اتخاذ القرار في الاختيارات الإستراتيجية والحاسمة في مستقبلها.
وبما أننا نتكلم عن تعنيف المدرسة العمومية كان ولا بد من التطرق إلى العنف اللفظي والذي يعد نوعا من السب والقذف والإساءة التي تؤذي مشاعر الآخر وتصيبه بالإحباط والهزيمة النفسية. فتعنيف المدرسة العمومية لفظيا له انعكاسات سلبية منها:
> تكريس فقدان المواطن الثقة بالمدرسة العمومية،
> ارتفاع نسبة التسجيلات بالمدارس الخاصة،
> تدني دافعية التعلم لدى التلاميذ،
> تدني دافعية التعليم لدى الأساتذة،
> إهمال المسؤولين للمهام المنوطة بهم،
> اغتناء المدارس الحرة على حساب المدارس العمومية،
> تفشي العديد من الظواهر الاجتماعية والنفسية الخطيرة )الحقد، العنف، الخوف من المستقبل، الإحباط، الحسد، الإدمان، الرشوة، الانتحار، السرقة…(،
> تفشي ظاهرة الساعات الإضافية المؤدى عنها،
> تفقير فئة من المواطنين واغتناء فئات أخرى،
> تفشي ظاهرة عمل الأطر التربوية بالمدارس الحرة،
> نهج بعض الأطر التربوية لممارسات تجارية
استفزازية اتجاه التلاميذ والتفرقة بينهم،
> خلق نوع من الإحباط لدى التلاميذ الذين يرفضون الساعات الإضافية أو لا يستطيعون أداء ثمنها،
> إغلاق مجموعة من المؤسسات العمومية أو تفويت العديد منها للقطاع الخاص،
> تفشي ظاهرة الغش في الامتحانات والمراقبات المستمرة،
> تدني القيم المجتمعية
> الشكوك في الشهادات والكفاءات الوطنية…
إلى غير ذلك من الظواهر التي من شأنها أن تنعكس سلبا على جميع القطاعات والتي تعتبر منظومة التعليم المنتج الرئيسي للموارد البشرية التي ستستقبلها.
إلى جانب التعنيف اللفظي الذي تعيشه المدرسة العمومية، عرفت هذه الأخيرة تعنيفا جسديا تمثل في العديد من المحطات كتعنيف الأساتذة المتعاقدين وكذلك العنف الذي يواجهه آخرون داخل الفصل أو خارجه أو التعنيف الموجه اتجاه سياراتهم.. إلخ.. علما أن هذه الفئة من الأطر هي التي تتحكم في صناعة مصير أجيال من أبناء هذا الوطن من طبيب ومهندس ودركي وشرطي ومحامي…. هذا العنف الذي سيترك آثارا بالغة في نفوس من تعرضوا له، فعوض استعمال منطق الحوار والتواصل البناء، لم تنج مدرسة الوطن هي أيضا من عنف جسدي نزل فوق أجساد من يعول عليهم في تربية وتكوين أجيال ينتظر منها المجتمع المغربي الكثير، مما أدى إلى تكريس العنف اللفظي.
إن المدرسة العمومية في أمس الحاجة إلى القيام ببحوث تهم الجوانب السوسيونفيسة على عدة مستويات حتى يمكن تحديد جميع العوامل التي تحول دون إيجاد الحلول الناجعة للرقي بها إلى المستوى التي تطمح إليه جميع الأسر الغيورة على المؤسسات العمومية. فأبسط شيء يمكن البدء به، هو تكريس خطاب رد الاعتبار عبر الاعتراف بأهمية المدرسة العمومية وبأساتذتها، خاصة منهم من يعملون بصدق وبتفان حبا في وطنهم. فباختيار العبارات المشجعة واللطيفة والكلام الطيب يمكن التأثير على النفوس وإعادة الطاقة الإيجابية لها، مما سينعكس على الأجواء الشخصية والعامة لمنظومة التربية والتكوين. وختاما ليس هناك خير من الأساليب الإيجابية والقول اللين، فحتى الخالق عز وجل عندما أمر النبي موسى عليه الصلاة والسلام، أن يذهب هو وأخوه هارون بآياته الدالة على ألوهيته وكمال قدرته وصدق رسالة موسى، وأن لا يضْعُفا عن مداومة ذكره؛ لأن فرعون قد جاوز الحد في الكفر والظلم، وأن يقولا له قولا لطيفًا؛ لعله يتذكر أو يخاف ربه. أمرهما بمخاطبته بالقول اللين “اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى” (طه 44).
فموقعنا كباحث، يستوجب منا حتما دق ناقوس الخطر والتنبيه لخطورة وانعكاسات العنف اللفظي وخطاب الأزمة والنظرة السلبية وزرع الشخصيات السامة داخل بنيات هي في أمس الحاجة إلى الانتباه لها والتفكير جيدا في الكلمات التي تلائمها وتضمن استمراريتها في أداء الأدوار الهامة والصعبة الموكولة إليها. أتمنى أن تصل هذه الرسالة النبيلة إلى كل من يهمه أمر تقدم هذا الوطن، وخاصة إلى البنيات والهيآت الاستشارية لقطاع وزارة التربية الوطنية وإلى من يصنعون قراراتها.
*أستاذ مؤهل بمركز التوجيه والتخطيط التربوي.
*باحث شريك بمختبر التربية والدينامية الاجتماعية.
*مدير المجلة المغربية المحكمة للتقييم والبحث التربوي.
<بقلم: د. خالد أحاجي