رواد في تاريخ الإسلام .. آثروا الثورة على الثروة

“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…

عبد الكريم الخطابي.. أسد الريف

الرائد المغربي الذي وحد قبائل الريف ودافع عن الخلافة الإسلامية في مواجهة إسبانيا

خرج مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 بوضع المغرب تحت الحماية الأجنبية، والذي كرّس ذلك في العام 1912، فاستهدفت إسبانيا شماله وجنوبه، بينما تركزت فرنسا على وسطه، أما طنجة فكانت قد اعتبرت منطقة دولية، كل ذلك في الوقت الذي كان فيه المغرب يعاني من حالة التشرذم والانقسام اللذين جراء الصراعات الداخلية على الحكم، وفي هذه المواقف تداعت إسبانيا وفرنسا على بلاد المَغرب العربي وذلك للقضاء على الإسلام والخلافة الإسلامية واستغلال ثروات البلاد، وظنّت فرنسا كما ظنت إسبانيا أنها لن تجد مقاومة من قِبَل المغاربة ولكن العقيدة التي اعتنقها أهل المغرب والتي غرست في قلوبهم معنى الحرّية والإباء والكرامة، حرّكت هممهم لمقاومة المحتل الغاصب، وتزعم هذه المقاومة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي الذي لم يرقه رؤية بلاده ترسخ في قيد الاحتلال بدون مقاومة، فعزم على قيادة الثورة في سبيل إخراج المُحتل والدفاع عن الخلافة الإسلامية. (ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي ببلدة أجدير بالريف المغربي في العام 1882، وتتلمذ على يد والده وحفظ القرآن قبل أن يتم دراسته بمدرسة “الصفارين والشراطين” بمدينة فاس التي سرعان ما عاد إليها كموفد من طرف والده لشرح موقف والده من الحرب على بوحماره التي استمرت ستة أشهر وانتهت به بنهاية مؤلمة)

توحيد قبائل الريف

كان لذلك القرار أثر بالغ في نفوس الشعب المغربي الذي بدأ حملات الجهاد والمقاومة خاصة في منطقة الشمال التي بدأت ضد المُحتل الإسباني أثناء تغلغله في منطقة الريف الشرقية بقيادة محمد الشريف أمزيان (بداية العام 1906 حتى 1912)، وانصبت تلك الحملة بالأساس على عرقلة تغلغل الأسبان في (ازغنغان) بعد مدهم للسكة الحديدية من أجل استغلال مناجم الحديد في “أفرا” و”جبل اكسان”، مُكبّدا الإسبان خسائر مادية وبشرية هائلة إلى جانب قضائه على ثورة الجيلالي الزرهوني الذي يلقب “ببو حمارة أو الروكي”، وفي هذا يروي لنا محمد العربي المساري في “عبد الكريم الخطابي: من القبيلة إلى الوطني” يصف لنا تلك الأحداث فيقول: “… بعد موت الشريف امزيان في الخامس عشر من مايو 1912 واصلت أسرة عبد الكريم الخطابي النضال المُستميت ضد التكالب الاستعماري (الإسباني والفرنسي) التي أضحى يقودها الثائر الجديد محمد عبد الكريم الخطابي الذي أثارته الحمية في مقارعة المُحتل الإسباني بعد أن لملم صفوف الجهاد ودعوة أبناء الريف للقتال المُسلح ضد الإسبان الذين احتلوا الحُسيمة بعد احتلالهم للناضور وتطوان، مُؤسّساً بذلك إمارة جهادية على أحكام شريعة الله وأنظمة الإدارة الحديثة، ويبدأ في قيادة مسيرة الجهاد المُسلح ضد الإسبان بعد أن اتخذه أهل الريف بطلاً جماهيريا لقيادة الثورة الشعبية والدفاع عن أرضهم وأعراضهم باسم الجهاد والحق المُبين..”.

ثورة الريف

سرعان ما بدأت المناوشات المُسلحة بين مقاومي عبد الكريم الخطابي (بعد أن وحّد صفوف قبائل الشمال المغربي مجتمعة ابتداء بقبيلته “بني ورياغل” وقبلية “آيت تمسمان” و”آيت توزين” و”ابقوين”) وقوات الاحتلال الإسبانية التي سرعان ما أعدت له يوم 21 من يوليوز 1921 جيشا جرارا (25 ألف جندي) للقضاء على مقاومته وأفراد جيشه (1500) بعد أن أضحى يُشكل تهديداً مباشراً لمصالحها، لتندلع الحرب لمدة خمسة عشر يوما والتي انتهت بانتحار “سلفستري” (القائد العام للجيوش الغازية) ومقتل الكولونيل “موراليس” الذي أرسل عبد الكريم الخطابي بجثته إلى مليلية بعد أن ألحق بفلول الجيش الإسباني عدّة هزائم في عدّة مواقع ومناطق (دريوش، جبل العروي، سلوان)، مُجبرا إيّاه على الفرار لعقر داره مليلية التي رفض عبد الكريم الخطابي احتلالها نظرا لأسوارها المُحصنة ولاعتبارات سياسية وعسكرية، وفي هذا يقول (أزرقان) مساعد عبد الكريم الخطابي الشخصي: “…نحن الريفيين لم يكن غرضنا التشويش على المخزن من أول الأمر ولا الخوض في الفتن كيفما كانت، ولكن قصدنا الأهم كان هو الدفاع عن وطننا العزيز الذي كان أسلافنا مُدافعين عنه واقتفينا أثرهم في ردّ الهجمات العدوانية التي قام بها الإسبان منذ زمان، وكنّا نكتفي بالدفاع والهجوم عليه فيما احتله من البلدان مثل مليلية التي كان في طوقنا أخذها بما فيها من غير مُكابدة ضحايا جهادية، لكننا لم نفعل ذلك لما كنا نراه في ذلك من وخامة العاقبة، فإنه ليس عندنا جند نظامي يقف عند الحدود التي يراعيها….”

لا إمارة ولا جمهورية

ويعترف عبد الكريم الخطابي في مذكراته (مع شعور بالأسف) عن عدم استرجاعه مليلية قائلا: “…على إثر معركة جبل العروي وصلنا أسوار مليلية وتوقفنا وكان جهازي العسكري ما يزال في طور النشأة، فكان لا بد من السير بحكمة خاصة وأنني علمت بأن الحكومة الإسبانية وجهت نداء عاليا إلى مجموع البلاد كي تستعد لتوجه إلى المغرب كل ما لديها من إمدادات، فاهتممت أنا من جهتي بمضاعفة قواي وإعادة تنظيمها، فوجهت نداء إلى كل سكان الريف الغربي وألححت على جنودي وعلى الكتائب الجديدة الواردة مؤخرا بكل قوة على أن لا يسفكوا بالأسرى ولا يسيئوا معاملتهم، ولكنني أوصيتهم في نفس الوقت وبنفس التأكيد على أن لا يحتلوا مليلية اجتناباً لإثارة تعقيدات دولية، وأنا نادم على ذلك بمرارة وكانت هذه غلطتي الكبرى”، وكان الأمير عبد الكريم الخطابي (رغم أسفه على عدم تحرير مليلية) قد احتسى كأس النصر بهذه البطولة التاريخية التي حققها على المحتل الإسباني، مُقيماً (حسب الروايات) جمهورية الريف داعيا إلى الاعتراف الدولي بها، وانطلق يهتف في جموع الريفيين قائلا: أنا لا أريد أن أكون أميرًا ولا حاكمًا وإنما أريد أن أكون حرًّا في بلد حر ولا أطيق من يسلب حريتي أو كرامتي..، لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية ونظامًا عادلاً يستمد روحه من تراثنا… وختم قوله مُتوجها بالخطاب إلى قادة الاحتلال الإسباني قائلا: “… افعلوا بي ما تشاؤون من اليوم، فأنتم ظالمون على كل حال ولا تنتظروا مني شيئًا غير المقاومة وقيادة الثورة حتى التحرير الكامل لأرضنا المُغتصبة”.

الأسر والمنفى الأخير

لمّا اشتدت وطأة الأمير عبد الكريم على الأسبان بعد الهزيمة التي ألحقها بهم في غشت من عام 1924م، لم يسع الديكتاتور الإسباني “بريمو دي ريفيرا” إلا أن يتولى القيادة العسكرية بنفسه ليعمل على إنقاذ جيشه، وتفاوض مع الفرنسيين لكي يقوموا بنجدته، وأثمرت مفاوضاته معهم، فاتفقت القوتان الفرنسية والإسبانية على محاربة عبد الكريم الخطابي بعد أن رأوا استفحال شوكته وبدا يهدد المصالح المشتركة ويقض مضاجع المُحتل، وبدأ التكالب بين إسبانيا وفرنسا ضد القائد الريفي الكبير وابتدأ الهجوم معه تحت ستار صد الهجوم المُفتعل والقضاء على ثورته (كان الهجوم على ثلاثة مستويات براً وبحراً وجواً) حتى تم حصار قوات الخطابي وإلقاء القبض عليه يوم العاشر من أكتوبر عام 1926 ونفيه فيما بعد إلى جزيرة (لارينيون) في المحيط الهندي (بعد ضغوطات الحكومة الإسبانية لتسليمه إليها)، لكنه وأثناء عملية نقله تمكن الخطابي من الفرار لحظة مروره بقناة السويس ليبقى بمصر حتى وفاته بالقاهرة سنة 1963 (رغم حصول المغرب على الاستقلال) وأقام له الراحل جمال عبد الناصر جنازة ملكية فخمة ليوارى الثرى بأرض الكنانة بالرغم من الدعوات المُتتالية لنقل جثمانه إلى الأرض التي حارب وناضل من أجلها حتى آخر رمق ودافع عن بلاده في وجه الاستعمار الإسباني.

إعداد: معادي أسعد صوالحة

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب

Related posts

Top