سعي نحو الانعتاق من قيود اليومي

>  بقلم: سميرة بورزيق
وأنا أقرأ المجموعة القصصية “وداعا أحلام الغد” لسعيدة لقراري، وجدتُني أتوقف، دون أن أشعر، أمام باب المجموعة، باب العنوان والغلاف، فتراءى لي حبل من الأحلام يتدلى من فوق، فطرحتُ السؤال: هل هي أحلام القاصة سعيدة القراري، أحلام الانعتاق، تلك الأحلام التي (حلُمتْ بها) وحلمَتْ بها كل النساء قبل سعيدة؟ كيف تحلم سعيدة بأحلام لم تأتِ /لم تولد بعدُ (أحلام الغد) بل وتودّعها أيضا؟

دلالة العنوان والغلاف

الوداع هنا يحيل على الرحيل، وفي النصوص القصصية ورد الكثير من المترادفات التي تعني هذه العبارة “الوداع”، ونستحضر هنا بعضا منها: (الغائب، رنة النهاية، المرحوم، الرحيل \ن الغياب، حقيبة سفر، عبور، السقطة الأخيرة….
 فإلى أين تمضي القاصة، إذن، إلى أين ترحل بعد أن ودّعتنا؟ أين ستذهب وقد ودّعت أحلامَها/ ربما تكون أحلامَنا أيضا؟ تلك الأحلام التي ليست أحلام ليلة أمس، ولا أحلام الليلة، بل هي أحلام الغد. وهنا سيطرح العنوان مفارقة، أسميها “مفارقة زمنية”، إذ كيف يمكن أن نُودّع شيئا لم يحدث بعد؟ شيئا لم يأتِ بعد (أحلام الغد)، وهذا يعبّر عن مشكلة ما.
 سنجد حل هذه المفارقة الزمنية بعد الدخول إلى ثنايا قصص المجموعة.
 تودّع الكاتبة أحلامها إذن، وهي أحلام الغد، تودع أحلاما لم تتحقق بعد، لا، بل لم تحلم بها حتى، لأنّ الغد لم يأتِ بعد ونحن مازلنا في الحاضر، فكيف نراهن على تحققها، “أحلام الغد”؟ تَعْبُر سعيدة الزمن من الماضي إلى الحاضر لتتوقف لديه، ثم ترتمي في المستقبل لتودّع أحلام الغد.. فهل هو إحراقٌ لسيرورة زمنية؟ أهو قلب للزمن ولعِبٌ به؟
سيتجلى هذا القلب، هذا اللعب بالزمن، بوضوح في قصتها الأولى “حيل”، إذ قامت الكاتبة بقلب الزمن كله، حين تمدُّ جسر زمن السرد والحكي بين نقطتي البداية والنهاية، بين الماضي، حيث تعمل على إنعاش الذكرى الجميلة، وبين الحاضر، بثقله القاسي، وهو ما تختزله عناوينها: حضور + غياب + بين غياب وحضور، لتنشد الخلاص والرحيل لنفسها
لنلاحظ إذن:

1-حضور:
ستختار القاصة بداية لمجموعتها القصصية، ولما يمكن أن يكون ملائما لوضعها كامرأة، لوضعها كامرأة تكتب، تسرق بعض الوقت الفائض عن انشغالاتها بالهموم اليومية والزوجية لتسطر بعض حروف البوح، كأنّ القاصة هنا أقرب إلى لغة البوح.

2-غياب:
 تستحضر القاصة في هذه اللحظة غروبين: أحدهما طبيعي والآخر نفسي، حيث يمكن أن يصبح الليل لديها نهارا مشرقا ينبض بالحروف، لتفسح المجال للذكرى والبوح، وحيث تتحول الطفولة إلى فضاء خصب للاسترجاع والذكرى، وهنا يتجلى ارتداد القاصة إلى الطفولة، التي تقبع في دواخلها.

3-بين غياب وحضور:
 الحديث عن لحظة أرق قاسية جعلت نهارها يختلط بليلها. القاصة تُعبّر عن لحظة ارتباك وحيرة ستعيدها إلى نقطة البداية رغم أنها تعتزم، بقوة، الخروجَ من دائرة تلك الحيرة وذلك الروتين اليومي، الذي يقتل حياة المرأة الكاتبة.
 إذن ليس هذا الرحيل، وهذا الوداع، سوى وداع للآلام والإكراهات، النفسية والمادية، التي تُكبّل حرية المرأة الحالمة، إنها باختصار محاولة للانعتاق والتحرر من قسوة الماضي والحاضر واستشراف للمستقبل، لِمَ لا..
طبعا، كل هذا يجتمع في اللوحة أمامنا، كما لو كانت القاصة تكتب اللوحة، أو كما لو كانت اللوحة ترتسم فيها قصص القاصة، وهذا تعبير واضح عن الدقة في اختيار لوحة الغلاف.

دلالة الغلاف

 إن سبر أغوار لوحة الغلاف، وهي لوحة للفنان التشكيلي محمد سعود، تُظهر امرأة تضع فوق رأسها وشاحا أبيضَ، تشبه المرأة “العادية”، تشبه ربةَ بيتٍ مثلا.
التأمل في ألوان اللوحة يجعلنا نستنتج أن الغلاف يطرح أيضا مفارقة: فاللون الأبيض هو اختفاء لجميع الألوان، بينما اللون الأسود هو اجتماع وخلط لجميع الألوان. اللون الداكن: يشير إلى الخصوبة، إنه لون الأرض (غايا) ولون السحب الداكنة التي تحمل الأمطار لإخصاب الأرض (زيوس).
الطريق أمام المرأة يبدو وعرا، يتجه نحو المجهول، لكنْ في الأفق هناك أمل في نقطة الارتكاز في أعلى اللوحة.
الأكيد أن المرأة غادرت اللون الأسود المحيط بطريقها في اتجاه اللون الأبيض، لونِ الأمل والتفاؤل، لونِ المستقبل.
بنية المرأة في حركة بطيئة، إنها تسير (يدلّ على سيرها أن إحدى يديها نحو الأمام والأخرى نحو الخلف، كما قدميها..).
اللون الأحمر يدلّ على التضحية، فالمرأة تضحي من أجل الخروج من ذلك النفق الأسود، وتضحي من أجل الانعتاق والتحرر من كل سلطة أو عائق، وهذا ما عبّرت عنه القاصة في مدارج قصصها.
يحيل اللون الأحمر أيضا على الأضحية، وبتعبير أنثربولوجي، على “القربان”، إذ تقدم المرأة نفسها قربانا لتُحرّر غيرها…
 تظهر المرأة، إذن، في كامل هيئتها، وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل أتقنتِ الساردة الظهور كما المرأة في اللوحة؟ أي أنها أتقنت التخفي وراء نساء قصصها؟
المرأة في اللوحة تمشي نحو وجهتها، والساردة /القاصة في النصوص أيضا تسعى إلى تجاوز الوضعية الحالية /الحاضرة.
في أعلى اللوحة، على اليسار، تتراءى لنا نافذة خطت في السماء باللون الأبيض: اللون الأزرق -كما دائما- يحيل على فسحة الأمل، السماء دلالة على التحرر، كما لو كانت المرأة طائرا خرج لتوه من قفص.
هل تغادرنا المرأة، إذن، في اتجاه الإمساك بحريتها؟ هذا سؤال يتسع أفق الإجابة عنه في المجموعة القصصية، وهو سؤال يعبّر أيضا عن رهان مجتمعي.. في النهاية، المرأة تسير نحو وجهة معينة، نحو المستقبل، نحو تحقق الأحلام، بل نحو أحلام الغد أيضا.

دلالة العنوان واللوحة

إذا افترضنا أن القاصة تودّع أحلام الغد، حتى قبل أن تحلم بها، فإن المرأة في اللوحة، لوحةِ الغلاف، تتجاوز ذلك نحو الارتماء في المستقبل، وقد يكون المستقبل بعيدا يلوح لها من هناك، ولهذا التأويل دلالة نفسية قد نلحظه في الرغبة الدفينة /المضمرة أو الواضحة والمعلنة للمرأة في تجاوز حاضرها وواقعها وراهنها، المليء دوما بالمكبّلات الأسَرية والاجتماعية والثقافية… نحو غد يتّسع لفكرها وإبداعها.
 وبالعودة إلى الرحيل ومترادفاته داخل النصوص القصصية، كما ذكرنا سابقا (الغياب، الموت، الرحيل)، سنجد أنفسَنا نتوقف للحظة عند ملحوظة مهمة، وهي أنه رغم كل هذا الغياب، الذي تصرخ به الساردة في القصص، ورغم كل هذا الرحيل، الذي ينتهي في بعض النصوص بالموت، ورغم كل هذا “الوداع”، فإن الساردة تعِدنا بالحضور، وبالحياة، وبالبداية، وهي مازالت تمدد في لعبها الزمني، والطريف في الأمر أن سعيدة لقراري ختمت وداعها ورحيلها، اللذين داما على امتداد 53 صفحة من صفحات المجموعة القصصية، بعنوان “عودة”، كأنها أولا قلبت فونيمات الوداع (و د ا ع) إلى كلمة “عودة”، وفي آخر فقرة من هذه القصة (صفحة 58) نجدها تقول: “وسط العتمة يلوح، من بعيد، ضوءٌ خافت يشتدّ توهّجه كلما تقدّمْنا نحوه”، هذا يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل تعمّدت القاصة هذا الختم وهذه النهاية أم جاءت اعتباطيا؟

على سبيل الختم

تقول القاصة سعيدة لقراري في مكان آخر من مجموعتها: “الكتابة نافذة صغيرة”. هنا تخيلت النافذة كما لو كانت في مبنى ضخم جدا.
 تسعى القاصة في مجموعتها إذن (وهنا السعي لاشعوري، بالإحالة دوما على التحليل النفسي لدى فرويد) إلى الانعتاق من حبل ما: حبل اليومي الذي يخنُقُ المرأة -الكاتبة، تقول في الصفحة 10: “بعد إفراج مؤقت من قبضة الغسيل، تنفست الصعداء”، لكنها تنعتق من اليومي ليلتفّ على عنق فكرها حبلٌ آخر ربما أكثر إيلاما، تُسميه “حبل العزلة ولو كان أنيسها/ جليسها القلم”.. لكنّ هذا ليس كافيا، لتمضي القاصة في سعيها نحو تحرر أكثر، ففي الصفحة الحادية عشرة تُذكّرنا “يا ليت الصبا يعود يوما”.. ما يحيل على الانعتاق الارتدادي لدى الساردة، التي تريد العودة إلى الماضي، إلى الطفولة.
وهناك انعتاق آخر (في ص 13): “الحرمان… أغلقتْ عليها باب غرفتها… اصطدمت بجدار الاستذكار… إحباط… اجتث لسانها… كبلت صرختها… الزمهرير… الحرّ… عتمة التمزق… الترحال… الحزن… البكاء… آلامي… سكرات احتضار… وسط الطريق… وهم نهايته”… ص 16 -17
 السّعي وراء التحرر والانعتاق من السلب النفسي والقهر الواقعي، ففي آخر قصة لها في المجموعة تختم: “متناسين أن تربته لا تُنْبتُ إلا رطبا جنيا”.
هذه هي المرأة/ الأرض/ غايا، التي تعيش اليومي والتي تكتب، إنها أرض تُنبت رطبا جنيا.

Related posts

Top