في ظلال الذاكرة المثقوبة، سكون ساحر يعطر كفن الرحيل، هناك فقط رقصا متعانقين حين التقيا، بين صمت وألم في سفر الأطوار، يتكئان على عكاز الزمن، لتبدأ معزوفة بنبض الضياع، وكل المصابيح قد تهشمت، فتتبدد أنغام الكمان، وما كان شاردا بات برعما متعلقا بأطراف الأيام.
يلوذ بظل النبض، فيفاجئني اللقاء بباقات جاردينيا، وبسحب عتيقة لتمطرني أحباب قصيدة موجوعة على رقصة حذو القمر.
بحثت في ثنايا حرفي عنه وعني، وعن تلك المقاهي الغافية على بساط الشوق حيث كنا، ووحدها لهفتي هناك تداس برفق، أيقظت كل رسائل العتاب كرصاصات طائشة بعثرت لحظات الدفء وظلمة الساعات، لتحفر بجمجمة الوعي وتسدل ستائر الإحساس حين غيبوبة الزمن.
يصعد وعي روحي سدة مهجورة بغرفته، يفتح حقيبة قد كساها الغبار تلمع منها ذاكرتي، ما أن تلامس قدماه أرض الغرفة، حتى تداهمه السنون وتنسج خيوط الاحتضار، وتتشرنق معظم حواسه على وسائد الصبر.
لملمت مع الشمس كل الصور من صندوق الذاكرة، وأكاليل النعش تبكي فوق خدود الأرض، فتكبر ظلالي بين الحزن والدمع ولم أجد بذاتي سوى غريبة تقف في مكان لم يصل له من قبل تصمت الأصوات.
ويزحف النسيان كلما سقط المطر حتى استثنيت أعوام الغياب، وما كنت أراه أمامي هو أقوى تجسيد للشر وليتني مرة أغدو إلى ذاك الركن من حياتي، حيث كل المصابيح قد تهشمت علها تتلاشى رائحة الشوق، وتبددت أنغام الكمان عن عيون النوافذ صياح يمكث لبرهة ثم يرحل، وتذاكر حضورٍ لكلماتي المُتمردة، في زوايا العمر تغيب منها همسات الدفء، تاركة كف الأمنيات مصلوبة، وظل ولاءٍ يبجِّلُني في صفه، كلما تسللت إلي سرائر الروح.
فأكون قد صفِّدت عنك ذاكرتي منذ أمدٍ بعيد، فأراني،
فرفقا بي، بأناملي الراشدة أشد الجبين، وجروح بحري في موج تسِره، تتمزق ببوحه ترى، ما ذنبُ أرخبيل بَوحي على شاطئي؟
وعلى الصخور منارة تذمُّ عقدي النفيس، كلما لمحت فلكك فترطمه طوعا، أتأملها فتعتلي حنجرة الفجر.
تملأ الأماكن صراخا، فتتمزق بيوت الحنين، وتتسربل تمتمات تنسج خيوط الاحتضار، لتلثم الحقيقة وجهها، فتقطر الأفكار دما، وتحبس الكلمات في سراديب الروح.
وألف كتفي وقد رسمت عليه بألوان رمادية طلقة طائشة، يقارع مغارة الغدر، الاسم ثابت تتوافد الأرواح عليه من كل سماء وفي رواق ذكرياته صورتك، نافذة وستائر، أحجب بها عنك عينا سلبتها من جحيم يغيب فيه قوس قزح لينسج شال غربتي.
من رحم ليلٍ قديم وصل يراوغ الغياب من جذوة الأرحام، صهِر فيه معدِن كلماتي وهي تلفظ أنفاس آخر الحروف، تولد عتمة الرواق في عقلي، جدرانْ طَلاها بالصمت، عليها الكثير من الأعين الحذرة، يصلب بين أروقتها الزهر في أصيص القحط، وأذن تنصت للبوح الذي يرتطم بنبضات قلبه.
تبا، ماكل هذا الهذيان؟ و كلي بساطٌ يفوح بريح الجثث، تلك التي تتهافت على روح البوح في صحفه، لتبعث بنات ليله من جديد، فتنادي على سجال طوَته الجدوى على ظلال الذاكرة باسمك، فأشعل نارا أحرق بها برعم حسرةٍ على صمتي، فتمتد يد الموت إلى عنق الأنفاس.
وعلى مهل أدخن تلك الكلمات، وأبعث بضبابية قراري، لعلها كلمات مبهم قصيدها لا تسعى إليك، تمضي إلى القاع حيث بحيرات ملونة يلفها ضباب العدم، دون هوادة، عدت فشِئت أن تستوقفها عندك، وعلى جدرانك سلفا تفننت، فرسمتَ أفق الصحوة لتصبح مساحات الجسد مشرعة لرياح غاضبة.
ثم تفانيت في وأد جوهرك كهباء، حتى نُصب على جدارك وثنٌ تسجد له ظنونك، وظنوني نُثرت غبارا وسط تلاطم الأمواج، لتدس أنامل الخدر في مسودة القلوب.
متمردة أنا لا أقبل الظنون، في عيوني بريق عتيق، سائرة على جثت صحوتي، وما عاد يجدي سباق الفرج مضماري وسط حقول الخزامى، وأرواحي مشردة في القفار الغريب، لاشيء فيها سوى شمس كعين اليتيم، وإن يكن بوحها مخرزا بنور خافت كشموع القداس من شجر استوائي، وكل القوافي باتت منسولة الثياب.
إلى أين سأبحر؟
وعلى قارعة القصيدة الأخيرة، تقرع خلايا اللوز رمق التودد، وهو يخاصم الحياة، ويطفئ أزرار الضوء من جيوب تخلع أكتاف الماضي بعذوبة صماء.
غادرتَ فضاءاتي منثورة مع حفنة من الانبعاث، وطين الأحقاب فوق خيوط الجسد لتتكدس الكدمات، و تصهل الخطوات بوجه دوائر الإنعتاق، فتتراقص الأوجاع من قبلة نازفة، ومشنقة أعلنتها في مداي، وأنا بين ومضة حلمي ومحبرة تجمع الندى، كنت أحيا من جديد وفي صمتي نداءات تختصر وجع المسافات، ولاشيء يتعب الذاكرة أكثر من مواويل الخصام.
وفي مكان ما قبل ولادة الغيث، أجلسُ بالمنفي فينعدم الشذا وربما تجالسني بعض الأمنيات العذاب حتى وإن لم يعد ظلي هناك، وحري بي أن أنام على غرة القمر، مستسلمة لبصيرة لا تطرف، أخاطب عيونا تتمدد على جداولي حتى يصل مداد ألواني إلى المجرة.
وحشو مخدتها جعلته من ليف الحزن شاخصا بكم الذهول على صفحة الخيبة كلما أذن مؤذن الرحيل، وشبَّ غلام الأمل بغابات الأبجدية، ليذكرها الحلم إن تاهت اليقظة وسار على سكة حكاية حُجب نفقها المظلم، ليأتي الحلم المتمرد المجنون صامتا خلسة.
يقل الحذر المنتظر على رصيف ذاكرتي وبداخلي حديث امرأة كتومة يتردد في كل مكان، ويأبى التدوين كلما غفت العيون، فنسقي السنوات قدحا ونشرب حتى ترتوي اللحظات العالقة في الجفون، وتفيض العيون نورا.
بقلم: هند بومديان