“شهدة ملحونية” انتفاء للاعتباط بين الدال والمدلول

غدا الأستاذ والفنان جمال الدين بنحدو، واحدا من الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان في ميدان الموسيقى المغربية؛ تأليفا وتلحينا وأداء، وبخاصة ما تعلق منها بما تميز به وتفرد فيه المغاربة عن باقي الأشقاء العرب، ونومئ هنا إلى طرب الملحون.  ولا غرو أن الرجل لم يحز هذا الوضع ولم يتبوأ هذه المكانة بطريق الاتفاق والصدفة، وإنما بالعمل الدؤوب والمضني والمستبصر الذي ما انفك بنحدو يباشره وينخرط فيه مثلما يذهب إلى ذلك الأستاذ القدير عباس الجَراري(1) والأستاذ عبد المجيد فنيش (ص.85)،  ومثلما يبدو جليا أيضا في قول شاعرنا “واسمي الحاج بنحدو.. ماركب بشكليطة عمرو أو مولف لوسادا” ص.84  ونود في هذا المقام ألا نقف ونتسمر عند حدود الإشارة التي تظل بنظرنا سلبية ما لم تعبر إلى العمل المشار إليه؛ أي إلى ديوانه «شهدة ملحونية» فتتناوله بالدرس والتحليل والنقد الذي يتغيا ردم الفجوات وجلاء مواطن القوة المعسولة، وهي جمة كثيرة (تيماتيكية، إيقاعية، لغوية حجاجية)، وسنقصر نظرنا منها في هذه الورقة على ما اتصل بالمضامين والموضوعات التي راد آفاقها وحلق في سمائها شاعرنا الفذ، مرجئين ما يتصل بالإيقاع والبناء اللغوي الحجاجي لقصائد الديوان إلى فرص لاحقة.لم يكن شاعر الملحون جمال الدين بنحدو يعاني عيا أو حَصَرا في كلامه (نظمه) أو يشكو عيبا من عيوب التواصل، لذا أتت رسائله مصيبة البيانَ في مقاتله، الشيء الذي جعلنا بوصفنا متكلَّماً لهم نستبين ونستكنه ودون عناء، أن الديوان تتجاذبه ثيمات ثلاث رئيسة هي:     1- ما نقترح تسميته بثيمة «الوطن والوطنية»: وفيها يتضح، ودون كثير إنعام نظر، أن شاعرنا له من الارتباط الوثيق والعميق بوطنه المغرب ورموز السيادة فيه ما لا تخطئه العين. وتنسلك في سلك هذه الثيمة قصائد: «الزاير» (ص.11)، و«المقاومة» (ص.69)، و«الدار البيضا» (ص.75)، و«طواف المغرب» ص.81     ففي قصيدة «الزاير» يبدو بنحدو منشَدًّا إلى وطنه المغرب كل المغرب دون تحيز إقليمي أو إثني ضيق، إذ يقول:     “الزاير أرض المغرب  
فيه نفسك تطيب..    من شمالو لعجيب  
  لجنوبو لحبيب..    من سبتة ومن طنجة غير دخول الناضور وتيطوان    في فاس وكازا ومراكش غير انزل أكادير ولعيان” ص.11
     وفي قصيدة «المقاومة» يرجع بذاكرتنا القهقرى إلى ماضي المغرب القريب والمجيد، مذكرا إيانا برموز المقاومة المغربية، متوسلا في ذلك بناء لفظيا وفنيا عز نظيره؛ السلطان محمد الخامس، وعبد الكريم الخطابي بطل المقاومة الريفية، ومحمد الزرقطوني، وموحى أوحمو الزياني صانع انتصار معركة الهري، وأحمد الهيبة ومربيه ربو (ص.69 وما بعدها).    أما في قصيدة «الدار البيضا» والتي يظهر من خلال التوقيع الوارد في خاتمتها أنها كُتبت بُعَيدَ الإرهاب الأخير الذي طالها، فيسترسل شاعرنا في تعديد مناقبها وأسماء دروبها وأحيائها، وهنا نستبق اعتراضا قد يَعِنُّ للبعض وهو أن إفراده البيضاء بالنظم يتعارض وما ذهبنا إليه أعلاه من بنحدو تنكب عن مثلبة التحيز الإقليمي الضيق فنقول إن بنحدو وإن كان يقطن بالبيضاء، فإنه ينحدر من منطقة الريصاني بالجنوب الشرقي للمملكة، كما أنه نما وترعرع في مدينة فاس، ثم إن للبيضاء من الخصوصيات ما تَمَّحِي معها جميع التحيزات؛ إقليمية كانت أو ثقافية إثنية، لأنها تظل، بنظرنا، ممثلة لكل المغاربة ولأجل هذا تخيرتها أيدي الإرهاب الآثمة، وننتهي من رد هذا الاعتراض الذي حزرناه وخمناه إلى أن الناظم كان مصيبا أيما إصابة في تخصيصه البيضاء بقصيدة ضمن شهدته/شهدتنا والتي نخال أنها شهدة متذوقي الفن الأصيل.     وفي السياق نفسه (أي سياق الحديث عن ثيمة الوطن والوطنية) نومئ إلى الناظم وفي جل درر «الشهدة»، ما فتئ يحيل القارئ على المؤسسة الملكية إحالة تتراوح بين الخفاء/اللطف، إذ اختار التكنية عنها؛ “عاش سليل العدنان” (ص.11) وكقوله “(…) لمحمد الرسول ولمن لو سليل” (ص.47)، والتجلي إذا اختار الإعلان صراحة عن لازم من ملزوماتها؛
 “سيدي محمد سلطاني
   نور عينيا” (ص.16)، وفي قوله في خاتمة قصيدة «الدار البيضا» “حارسك الله وراعيك سيدي محمد السدس مليكي العزيز” (ص.79 وانظر كذلك خاتمة قصيدة للا عيشة ص.59). وكأننا بإحالته المتكررة هذه يشير إلى أن الملكية تحوز وتشكل عنصر وحدة وإجماع بالنسبة للمغاربة.
     هذا عما أسميناه تيمة الوطن والوطنية، أما عن ثانية الثيمات والتي تتداخل وتحيل بشكل أو بآخر على سالفتها، فندعوها: ثيمة الهم الاجتماعي والثقافي بالمغرب: وتندرج في إطارها قصائد: «مدير الشركة» و«الطاكسي»، و«الأغنية المغربية»، وهي قصائد تجلو بما لا يدع مجالا للشك أن شاعر الملحون بنحدو منغمس في مجاله التداولي وبصير بمعالمه ومتغيراته، وليس شاعرا حالما يقبع في برجه العاجي وينأى عن هموم مجتمعه المعيشة واليومية، وهذا مما يحمد له.     ففي «مدير الشركة» كلام ثقيل ووازن لدى كل من ألقى السمع أو قفا ببصره أبياتها التي تنبهنا إلى فحش الفوارق الطبقية وفداحتها، والتي تستتبع علاقات اجتماعية متهافتة ومتداعية للاهتراء.     وفي: «الطاكسي» التي يسكنها المرح والتمليح تسليط للضوء على سلوكات يومية شائنة شاعت في أوساط مستعملي الطريق؛ (سائقي الطاكسيات، أو الدراجات، أو الراجلين)، كما حوت القصيدة عينُها نقدا شديد اللذع وطريفا للذين تقع عليهم مسؤولية إصلاح الطرقات وتأهيل البنيات التحتية بالمدن حين قول شاعرنا:    “بيار هما ما شي حفرات   
 يوردو البهايم يلا صبات..
    ما قدو حفرات زادو لقبور
دكدكو البياس حتى الموطور” (ص.18)     وفي «الموجة والحراك» تحسيس بخطورة الهجرة غير الشرعية المنبوذة في التداول المغربي (الحريك)، وتنبيه حسن إلى أسباب هذه الظاهرة/الآفة التي يتداخل فيها الاقتصادي بالاجتماعي والسياسي والتي لا يعدو «الحراك» فيها أن يكون مكرها لا بطلا مختارا، ويتضح هذا في الاستفهام الإنكاري “ظنك يا الموجة لوطن ديالي ساخي به؟” (ص.51)     وفي «الأغنية المغربية» إنزال لأعلام الأغنية المغربية المنازل اللائقة بهم (ص.63 وما بعدها).
أما ثالثة الثيمات والتي تشكل بنظرنا البوتقة الجامعة للتين تقدمتاها، فهي التي نقترح تسميتها: ثيمة الارتباط بقضايا الأمة والإحساس بجراحاتها وتمثلها رائعتا «الدرة لمجيدة»، و«قصيدة طير السلام»، فأولى الرائعتين (ص.35 وما بعدها) تأبين ورثاء للشهيد الباسل الطفل محمد جمال الدرة، وتعديد لمناقبه ومناقب الأرض الطاهرة التي استشهد عليها. وثانيتهما (ص.39 وما بعدها) حديث صادق عن «طير السلام» ضالة العالمين في القرن الواحد والعشرين الذي عز وجوده ولقاه، وهو حديث رفده الناظم بتبئيره على قضايا الأمة الإسلامية الماضية والراهنة، (فلسطين: ص.41)، و(مأساة البوسنة والهرسك: ص.44)، كما لم يُغفل شاعرنا ارتباطه الحميم والإنساني بقارتنا الإفريقية (ص.43).
كما حوى الديوان قصائد أخرى غزلية؛ «لمحة حب»، و«للا عيشة» التي استطاع الشاعر فيها أن يتلاعب فنيا بالعَلَم (عيشة) ويموه على القارئ تمويها جميلا يفرض عليه مواصلة القراءة عله يظفر بالمسماة التي يقع عليها هذا الاسم، لكن هيهات له ذلك إذ يظل فكره مترددا بين أم الشاعر التي تحمل الاسم نفسه، ومحبوبته المفترضة، و”عيشة” أخرى غير هاتين.     وقد أرفق الشاعر جمال الدين بنحدو ديوانه بجملة هدايا انتخبها للقراء انتخابا واعيا: قصيدة النحلة، فاطمة، الشمعة، عاري عليك يا محمد، سرابة فصل الربيع… تزيد الديوان رونقا وبهاءً.     وأخيرا وليس آخرا لعمري إن الديوان شهدة تقطر عسلا صافيا لا نزعم لورقتنا العجلى هاته أنها وفتها حقها وإنما حسبنا فيها أن نكون قد لفتنا نظر القراء وبخاصة أولئك الشغوفين منهم بالملحون وقرضه.

*باحث مهتم بالموسيقى العربية1- شهدة ملحونية، جمال الدين بنحدو، دار القرويين، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2007م، ص.10، ونحيل بعد هذا على جميع الصفحات المتعلقة بالديوان داخل المتن بين قوسين. نشير إلى أن الديوان يقع في 146 صفحة وهو من القطع المتوسط.

بقلم: فَضيل ناصري

*

*

Top