ظل الرواية في” مملكة الظل” لعبد الكريم أحجام

 يقوم عنوان رواية “في مملكة الظل” للروائي عبد الكريم أحجام الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، على مفارقة دلالية واضحة، لا تلبث أن تكشف عن قصد مبيت لدى الكاتب. فمنذ البداية يجد المتلقي نفسه أمام واقع يلقي بظله على مملكة بوصفها سمة تكوينية في جسم الرواية، ولا تتحدد المملكة ببعدها الجغرافي، و لا تتأطر في سياقها السياسي  المعهود، بل هي أبعد من هذا و ذاك . إنها ـ على الأقل بالنسبة للروائي عبد الكريم أحجام  تبئير سردي لمملكة الرواية التي آن لصاحبها أن يطرد عنها الظل، لترى النور بعد عقدين من الزمن تقريبا وهي في مستودع المسودات أو هي تأويليا مملكات لا مملكة واحدة ، ذلك أن فصول الرواية تضعنا أمام عوالم سوداوية،  يعمها منطق الفوضى و العبث في التفكير و السلوك الإنساني. وارتباطا بالمحكي السردي الروائي وبممكناته الدلالية لرواية “مملكة الظل” هل هي مملكة المعطي الفوال؟ أم مملكة عباس الشيخ ؟ أم هي مملكة ابنه العياشي بمصيره الأسود الذي قاده إلى الاحتماء بالغابة؟ أم هي مملكة حمو طاطا  في المقبرة ؟ أم هي مملكة رحيمو في دهاليز حفظ الموتى؟  أم هي مملكة عبد الله اليازيدي و أقبية رجال الشرطة الباردة؟
 على هذه الشاكلة تتناسل الأسئلة وتتعاظم في غير اقتناع بما يشير إليه السارد في الفصل الرابع، محاولا ترصيص الدلالات و تسييج المعنى،  الذي تفجره عتبة العنوان، حيث يقول:” في عالم آخر عالم الظلال والأدغال وقوانينه البدائية، هناك مملكة دائمة العطاء، ليس فيها عقوبات ولا متابعة ولا سجون ..” ص 28  لنجد أنفسنا أمام سؤال آخر: هل مملكة الظل حسب السارد هي الطبيعة كأفق دلالي للحرية و المثالية والنقاء والعذرية ، فنكون هنا أمام سارد يعلن عن نفسه بين الفينة والأخرى طوباويا، ووجوديا بنفس شعري وإيحائي  عميق، ويقف عند التفاصيل الدقيقة ويصور الخلجات والدفقات الشعورية بسحر وافتتان. ومن ذلك قوله:” صنف كل صنف بدقة.. فضل أن يكون عصفورا ذكرا، طار في كل مكان. الفضاء شاسع في ملكه، بمفرده لا حدود له، شاهد الذي يزحف والذي يمشي على أربع والذي يمشي على اثنين، غاص في شقوق الأرض والأحجار. شاهد العجائب …”   ص 35.
 سارد من هذا الطراز، لا بد أن يقدم شخصيات مشروخة، تتكلم لغتها الخاصة (أو لغاتها الخاصة) وتفرضها داخل العمل الروائي، باعتباره  كما يقول باختين “يشتمل على نسق أدبي للغات، وبدقة أكثر على نسق لتشخيصات اللغة”. وهنا تحضر لغة يطبعها الانفصام والانشطار والتنازع وعدم الانسجام بين الفرد والعالم، مما يخلق جوا من الاغتراب الأنطولوجي، تصير من خلاله الشخصيات عاجزة، متوترة في مسيرتها ومسيرة التاريخ. وهذا ما تجسده بالضبط شخصية العياشي، باعتباره بطلا إشكاليا ، يقرر الهروب، لأن طريق المواجهة هو طريق الخسارة والموت البطيء وهو ما عبر عنه العياشي في نهاية الرواية قائلا: ” بنشاط  و حيوية جمعت أشلائي، ويامنة تساعدني، قبلتها، ولم أنظر إلى وجهها. ضممت الأولاد إلى صدري في هم في غفلة سباتهم، ودعت أبي. كنت مستعجلا. إلى أين؟ قال   صديقي المسطاسي. إلى البحر، أريده هائجا مثلي ” ص 199.
 تتبلور مسحة السواد  المغلفة للرواية في شموليتها، في تعالق واضح بين البداية والنهاية، إذ تستهل بأجواء الخريف العاصفة والكئيبة. وهي أجواء دفعت بالشخصيات إلى الانزواء، والاحتراس من بعضها البعض. من يبدأ الحديث؟ ومن يتجرأ على من؟ الجميع يكتفي بالمراقبة والتلصص، وحتى إذا أخذت هذه الشخصية أو تلك بادرة الحديث، فإنها تجد نفسها بالضرورة أمام واقع يكمل مأساتها أو يعمقه، فيحدث الصمت وتكون القطائع. لذا فلا وجود للحلول أو لأنصاف الحلول في “مملكة الظل”، بل حتى العلاقة التي قامت بين حمو طاطا ورحيمو، و هي علاقة غرام ورغبة في نهاية الأمر،  ظلت منطوية على نفسها في سرداب حفظ الموتى ، فلا تواصل و لا احتفال و لا مستقبل ، فقط وشوشة و آهات شبقية مخفية عن عالم الأحياء.  
 هنا تتأكد لنا مقولة مارتن هيدجر، حينما يذهب إلى أن التكوين العام للإنسان، هو تكوين على نحو يجعله عرضة لإمكان السقوط. والخوف من هذا السقوط تحديدا هو ما يجعل السارد يختفي في مواقع متعددة، ليفسح المجال أمام الشخصيات نفسها، حتى تقربنا من ملابسات سقوطها وحيثيات صراعها الدرامي.  لذلك  يلجأ الكاتب إلى توظيف الحوار المسرحي عن طريق إدراج حوارات مشهدية ضمن النسيج السردي، بهدف “أدرمة” المحكي وإيهام المتلقي بعفوية السجال القائم بين الشخصيات، وهي حوارات تسعف على تدفق الكلام بسخرية لافتة وباحتجاج قوي، تفرضه بعض المواقف المرسومة بدقة في الرواية. ذلك أن طبيعة النص التجريبية تجعل بنيته الفسيفسائية منفتحة على باقي الأجناس الأدبية و الفنية.
 وتتسم الرواية فضلا عن الصراع والحوار الدراميين، بالاختزال القصصي في بعض المواقع والبوح الشعري في مواقع أخرى، بيد أن التقطيع السينمائي المحكم يجعل النص الروائي في نهاية المطاف أفقا لاستحضار مرجعيات المبدع الفنية وانشغالاته الأدبية. و في الآن نفسه فالرواية هي  سلسلة من الحيل التعبيرية تبعا لرؤية أمبرتو إيكو. ينبغي على المرسل أن يفعلها، سيما وأننا في هذا العمل الروائي، لا نقف على حدود الحكاية بمفهومها  التسلسلي، بقدر ما نجد أنفسنا أمام حكايات متعددة، حتى أننا نكاد نجزم بأن لكل شخصية حكايتها الخاصة، قد تتقاطع مع باقي الحكايات، أو قد تظل عالقة في دائرتها في تشكل عمودي. مع الأخذ بعين الاعتبار كون هذه الحكايات لا ترسو عند نهايات متحققة. فما تكاد الأحداث تسير  نحو “هدنة” مع الذات أو مع الآخر، حتى ينتقل بنا السارد إلى منعطف آخر، يكرس حدة طباع الشخصيات وسخطها على واقعها.

 بقلم:  محمد زيطان

Related posts

Top